علامات التجديد والتجريب في قصص ” نقطة .. ونهاية السطر”

21 أكتوبر 2024
علامات التجديد والتجريب في قصص ” نقطة .. ونهاية السطر”

قريش:

يضيف القاص والأديب المغربي عز الدين الماعزي مجموعته القصصية الخامسة في صنف القص الموجز إلى ” ريبرتاوره ” السردي ، بعد ” الحب على طريقة الكبار” ، و” قبلات في الهواء ” ، و ” الرجل الذي فقد ذيله ” ، و” الأقزام يكبرون ” ، وتستجيب نصوصها ، بشكل تلقائي أو مقصود ، لمكونات وعناصر القصة قصيرة جدا من اختزال لغوي ، وتكثيف دلالي ، واقتصاد تعبيري قد يصل حد التقتير متوسلا في ذلك بعناصر مثل الحذف ، والتضمين ، والإضمار … فضلا عن موضوعات تمتح من محيط الواقع بمظاهره وظواهره مع توظيف دال ومعبر للسخرية عبر الإيحاء والتلميح مما يضفي على القصص صبغة خلق وتشكيل يؤسس لنمط قصصي يرهص  بتشكل أنماط حكي ذات طابع تجريبي مختلف ومغاير.

وتبرز تيمة الكتابة كموضوع أثث ثنايا المجموعة ، وانخرط في صلب تفاصيلها وفصولها : ” سألته عن جدوى الكتابة …؟ فقال :هي النص ، ولا شيء غير النص. “ص7، إلا أن جدواها ، أي الكتابة ،لا تظل رهينة بالنص فقط كما تم الجواب عن ذلك ، في البدء ، بل يتحدد في القص المكشوف ( عاريا) الذي ينبذ الاستسهال : ” يومها خرج القص عاريا ، صارخا : ـ أنقذونا من الاستسهال . ” ص7 ، في إشارة لما تعج به الساحة الأدبية من قصص تفتقر إلى الحد الأدنى من القيمة الإبداعية نتيجة استسهال خوض غمار الكتابة القصصية . وفي نفس السياق تمت الإشارة إلى ما يستدعيه الإنتاج القصصي الرصين من دقة وقياس في مقطع ” القصة على مقاس السنتمتر : ” أدخلت يدها في جيبها ، أخرجت قصصا على المقاس .. ” ص9 ، وما صاحب موضوع  كتابة القصة من انزياحات تزخر بإشارات غنية ومتعددة : ” ـ قتلتني القصة ق ج . ” ص 9 ، في اجتراح لفعل القتل وما يحمله ، وينطوي عليه  من دلالات رمزية متعددة ، وما يصاحب من ابتلي ، وتورط  في كتابتها من متابعة واهتمام : ” البحث  جار عن الفتى الذي أصبح قاصا . ” ص  9، وإن كان موضوع البحث غير محدد الأسباب والدواعي . لينتقل إلى فعل كتابة القصة قصيرة جدا ، وتحت تأثير إملاءات  وضغوطات مسكونة بزخم عبارات وتعابير تزدحم بها  رحاب الذاكرة ، وتطفح  بها  أغوار المخيلة : ” حين تكاثرت عليه الجمل … أوسعها رفسا وركلا اختزلها في سطرواحد . ” ص 17، فعملية الاختزال الذي يعتبر من أسس القص الموجز ، لا يعتبر ترفا إبداعيا بل هو نتيجة معاناة اختيار الأنسب ، وما يتطلبه ذلك من جهد معرفي وتخييلي : ” فكر في الكتابة تمتم .. عصر دماغه … ” ص 33، ويحدث أن تتوج هذه المعاناة بانتشاء / نشوة في العثور على عنصر تكتمل به وتتكامل أطوار وأطراف الصورة المتوخاة ، بعد جهد مضن في التفكير ، ومخاض عسير ومُكَلِّف في التصور والتخيل : ” بعد تعايش طويل ؛ انتهت القصة برغبة الانتشاء إلى : كتابة  ال (حوار) الذي دار بيننا كاملا . ” ص 44، لتحديد العنصر السردي ( حوار) ، وامتلاكه لقيمة إبداعية وتعبيرية تتطلب دقة مدروسة لتوظيفه ،واستخدامه ، وما تنفتح عليه كلمة ( تعايش ) من تأويلات ، وما تفرخه من أسئلة : هل هو تعايش مع أحداث القصة ؟ أم مع شخوصها ؟ أم أفكارها ؟ وما يحيل عليه هذا (التعايش ) من  طبيعة العلاقة بمكونات القصة وأبعادها ودلالاتها ؛ هذا فقط جزء من ترجمة القاص لهواجس الكتابة ، والقصصية بالخصوص ، والقصيرة جدا بالأخص داخل متن مدونته السردية ” نقطة .. ونهاية السطر” ، كما أن هناك حضورا للجانب الغرائبي داخل نصوص المجموعة، والتي تطالعنا من أولى النصوص ” القصة التي .. ” في مقطع ” القصة التي ..” حيث نقرأ : ” حين انتبهت القصة إلى ضآلة حجمها بين الأجناس ، أخرجت لسانها الطويل تتضوع قصصا قصيرة جدا . ” ص7 ، وما يعكسه من تعبير منزاح مقرون بالدهشة والغرابة الذي يتجلى في إخراج القصة للسانها ، بل تتضوع ، أي القصة ، قصصا قصيرة جدا تماشيا مع مجال اشتغال القاص وإنتاجه ( قصص ق . ج) . وتماديا في غواية الغرابة والإدهاش يغدو للقصة  مكان إقامة محدد ( الطابق العلوي ) : ”  في الطابق العلوي سكنت القصة القصيرة …” ص8 ، و لا تني تقترف أفعالا بجرأة مهولة كالقتل رميا بالرصاص : ” أطلقت رصاصة ،أصابت السارد . ” ص 8. وما يطرحه موت السارد من أفكار ورؤى تتمثل في تغيير وتغير يطال  معالم نسق القصة خصوصا إذا كان فعل القتل موكول للقصة ذاتها ، وأن تتحدث الوردة وتحادث الأطفال : ” قالت الوردة لحلقة الأطفال الصغار : ـ افتحوا الدائرة .. ! ” ص 43 ، وأن تلوذ القصة القصيرة بالفرار ، ويقوم الراوي بفعل الصياح : ” فرت القصة القصيرة … صاح الراوي … ” ص 45، وكلها وقائع تثير العجب والغرابة ، وتبتسم صورة ” الموناليزا” داخل الإطار ، وتتحدث ، بل تغادر الإطار ، وتختفي وسط حشد الحضور : ” ابتسمت في الإطار ، وقالت : ـ أنا صورة … أحست بالزهو فخرجت من الإطار ، وذابت في الحضور . ” ص 50 . وهي مظاهر تتعدد وتتنوع في سياقات وتساوقات متعددة مما يصعب معه الإحاطة بها كما في مقطع ” تحول ” : ” في الفراش تركت جثتي .” ص 12 ، أو في مقطع ” صدفة ” حيث يرد : ” كان قد خرج مسرعا من رأسي إلى الفراغ . ” ص25 ، و” ليلة الانتخابات ” :  ” نهضوا من ( قبورهم) ، صوتوا تباعا بأسماء (مفقودة ). ” ص 33 ، وكلها مشاهد موغلة في الغرابة ، تنفتح  معها آفاق حبلى بتصورات ورؤى مختلفة ومغايرة تستعصي على الاستقراء والتأويل . كما لا تخلو القصص من عناصر أخرى كالسخرية  كما في مقطع ” مظاهرة ” حيث تنوب الأحلام  عن الشباب في الخروج إلى الشارع ، قصد الاحتجاج والتظاهر ، بينما تكتفي الفئة المعنية بالتفرج : ” خرجت الأحلام إلى الشارع في صف طويل ، تتجول .. في حين لبث الشباب في منازلهم يتفرجون . ” ص 34 ، وهو ما يعكس ظاهرة الاتكالية لدى فئة عريضة  من الشباب لا تمتلك الإرادة والجرأة للمطالبة بحقوقها المشروعة في الحياة ، وفي مقطع ” كما ولدته أمه ” : ” ينشر غسيله وينسى الحبل والمقابض ..، يخرج  عاريا من … ” ص  59، وما ينتهي به من حذف يفتح أمام القارئ آفاق التأويل ومقصدياته. إضافة إلى عناصر وأدوات القص الموجز السابقة هناك مكونات أخرى مثل الإشارة والتلميح كما في ” العام زين ”  ص 50، والذي ينتهي ب ( قولوا ، قولوا.. ) وما ينقصه من تتمة يمكن استيحاؤها من العنوان لتغدو ( ـ قولول ، قولوا : العام زين ) ، وهو استخدام ورد في العديد من نصوص المجموعة ومقاطعها كما في مقطع ” كما ولدته أمه ” ص 59.  كما انفتحت النصوص على المحيط الواقعي ملتقطة ما يعج به من مستجدات كوباء ” كورونا ” ، وما أحاط به من وقاية واحتراز؛ من  إغلاق لمرافق من قبيل المقاهي، والمتاجر ، والدكاكين ، والإدارات : ” أغلقت المقاهي والمتاجر والدكاكين والإدارات .. ” ص  32، واستعمال ، وانتشار لوسائل وقاية مثل الكمامات ، وخضوع لإلزامية  الحجر الصحي ، والتطرق لهذه الجائحة بأسلوب لا يخلو من تلميح وسخرية : ” حين فتح الباب  … تسللت كورونا بدون استئذان . ” ص  29، في تسللها  ، أي كورونا ،للبيوت أو طلب العون والمساعدة بعد النهوض من النوم : ” استيقظت ( كورونا ) وهي تمد يدها في الطريق طلبا للعون . ” ص 31، وأيضا  الخوض فيما هو اجتماعي مما تعرفه العديد من الأسر من تفكك وتصدع مثلما ورد في مقطع ” هجر ” : ” كانت تمسك ابنتها الوحيدة ؛ تتمايل يمينا ويسارا بفعل ازدحام وهدير الحافلة … تدمع لأن زوجها تركها بدون مأوى . ” ص 36، في وصف لحافلة النقل المزدحمة ، وتخلي الزوج عن زوجته وابنته غير عابئ بما قد يتعرضان له من ضياع وتشرد . وحالة الطفل الذي أجهضت فرحته بالعيد وضعية عائلته المعوزة ، مما حرمه من الحصول على ملابس جديدة إسوة بأقرانه وهم يحتفلون بالعيد : ” جاء العيد ، خرج الأطفال بملابس جديدة يغنون، يلعبون .. كان يتابعهم بعينين ساهيتين ، يملك فقط فردة حذاء قديم ، في انتظار الفردة الثانية  التي ذهب أبوه لإصلاحها ، ولم يعد .. ” ص 47، وما يعم المجتمع من مظاهر فساد  كالسرقة والاختلاس التي تطال أموال الشعب : ” من يسرق الشعب يسرق الملايين .. أذيعت الأغنية : ـ وين الملايين وين ..!؟ ” ص 38،في مزج، ساخر، بين نهب أموال الشعب ومقاطع أغنية معروفة. وامتد طابع السخرية لمشاهد موحية ومعبرة كما في مقطع ” انتباه ” : ” استبشر الذئب خيرا بعد انتهاء مدة عقوبته أقاموا عليه الحد ، بنزع أنيابه وجدها فرصة للنوم تحت ظل شجرة ، اجتمع الأطفال رموه بالحجارة ، اتقدت عيناه .. زمجر غاضبا … فنبح . ” ص 35، وكيف تحول الذئب ، في مشهد مستخف ، إلى كلب بئيس بعد أن أقيم عليه الحد بنزع أنيابه . ومن الناحية الفنية ،والفكرية العلمية ذكر لوحة ( الموناليزا ) ص 50 لمبدعها الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي ، والفيلسوف الإغريقي سقراط في ( درس سقراط الأول ) ص38 ، وعالم الرياضيات والفيزياء الإنجليزي نيوتن في ( امرأة استثنائية ) ص 51، وتم ذكر ( اللاقط الهوائي) : ” نظروا إلى انتصاب (اللاقط الهوائي ) … ” ص 54، و( الفايس بوك ) في مقطع ” عقيقة ” ص 57، وكلها محدثات تكنولوجية حديثة غدت مألوفة وشائعة بين مختلف شرائح وفئات المجتمع.

ف ” نقطة .. ونهاية السطر ” قصص قصيرة جدا تشكل امتدادا إبداعيا فارقا لقاص رسم مسارا سرديا أنتج وأبدع فيه بشكل تجديدي وتجريبي ارتقى به إلى مصاف القصاصين البارزين وطنيا وعربيا لما نحته من قصيصات مختلفة  ومتفردة .

عبد النبي بزاز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نقطة .. ونهاية السطر ( قصص قصيرة جدا ) لعز الدين الماعزي.

ــ الناشر : الدار المغربية العربية ـ سلا 2024 .

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com