الرؤية الجمالية وأثرها التربوي في تنظيم الفضاء سيميائياً

28 ديسمبر 2024
الرؤية الجمالية وأثرها التربوي في تنظيم الفضاء سيميائياً

الدكتور محمد نفاد

كاتب وباحث من المغرب

الساحة المدرسية بالمغرب مكون أساس من مكونات الفضاء المدرسي العمومي بمفهومه الواسع الذي يشمل مجموع البنيات، والتجهيزات، والوسائل، والمرافق من قاعات، وساحة المؤسسة، ومرافق رياض، وقاعة للصلاة، وفضاء الأندية التربوية…

وبهذا المفهوم يمكن الحديث عن الساحة المدرسية فضاءً موازيا للصف الرسمي الموسوم بضوابط المقعد والسبورة والكتاب المدرسي… ونظرا لأهميته أطر دليل الحياة المدرسية الساحة المدرسية بعدد من المواصفات التربوية: «ساحة المؤسسة من المناسب أن تكون بها مساحات مبلطة، تتخللها مساحات خضراء وكراسي ثابتة، وتحتوي على سقيفة يحتمى بها… وينبغي أن توضع بها سبورات للنشر والإعلانات وعرض المجلات الحائطية…» .

ويحاول هذا المقال دراسة الساحة المدرسية من زاوية الرؤية الجمالية وأثرها في التربوي والاجتماعي والترفيهي، وقد اخترنا نموذج “ثانوية عبد الرحيم بوعبيد التأهيلية-سايس” المنتمية إلى مديرية مدينة فاس، وقد جاء هذا الاختيار بناء على الألق الفريد الذي حققه أطر المؤسسة في تشكيل ساحة مدرسية طافحة في جماليات “الرؤية والرؤيا”؛ أي بين البصري والدلالي/المعنوي. فأين يتجلى المكون الجمالي؟ وما أبعاده الرمزية؟ وكيف ينعكس على العملية التربوية؟

إن القراءة الأولية في اللوحة البديعة التي تسم الساحة المدرسية في ثانوية عبد الرحيم بوعبيد التأهيلي-سايس-فاس توحي بحرص المصممين على تنظيم الفضاء بعناصر ذات دلالات سيميائية عميقة تنهل من التاريخي، الثقافي، والموروث الحضاري، كما تحضر “الطبيعة” بتجليات عديدة تقوي قيم الانتماء والتناغم مع المحيط. ومن خلال الصورة المرفقة بهذا المقال يمكن جرد بعض المكونات التي تسهم في تشكيل فضاء الساحة المدرسية، والوقوف على بعض دلالاتها الرمزية/السيميائية، ومنها:

الشلال: تترصع الساحة المدرسية –قيد الدراسة- بشلال من الحجر الطبيعي غير مصنع، ويعتليه منبع مائي منهمر، وقد تبوأ من الساحة مكانة العلو بكل كبرياء، مزهوا بشموخه، ومانًّا بما يجود به من خرير وهدير قادمين من عمق الأطلس المغربي. إن المياة المتدفقة باستمرار أمام المتعلم تحفزه على قيم التجدد، وتحرضه على التعلم المستمر، وتحدي ما يمكن أن يكون حاجزا وعقبة.

النخلة: حرص مهندسو التربية في ثانوية عبد الرحيم بوعبيد على جعل شجر النخيل من المكونات الجمالية في الساحة المدرسية، فهي تحمل جمالية ورمزية خاصتين، وأعتقد أن النخل في بيئة المتعلم تجعله مرتبطا بالبيئة العربية التقليدية، وتشعره بالانتماء إلى ثقافة الصحراء التي هي جزء مهم من ربوع الوطن، إن الحرص على حضور النخيل في الوسط المدرسي يربي المتعلم على التشبت بصحرائه، والاعتزاز بما قدمه الأجداد من أجل الوطن عامة، والصحراء خاصة.

النافورة: سعت الساحة المدرسية للمدرسة الثانوية تكريم الصانع المغربي من خلال تجميل مدخل المؤسسة بنافورة ماء أبدع فيها الصانع الفاسي بفسيفساء الزليج، ودقة الهندسة، وجميل التصميم… والنافورة عنصر مستلهم من المعمار العتيق لمدينة فاس العامرة، إذ لا يخلو بيت قديم أو رياض من رياضاتها من وجود نافورة ماء تتوسط الدار وكأنها المحور الذي تشد إله أبصار البيت. وبذلك يسعى العاملون في المؤسسة إلى تربية التلاميذ على الفن، والاعتزاز بالصناعة التقليدية المغربية، وبتقاليد المعمار العتيق.

المشاتل الإيكولوجية: تنوعت المشاتل الإيكولوجية في الثانوية المدروسة لتوعية المتعلمين بأهمية البيئة، وتعزيز لديهم قيم المسؤولية والوعي البيئي، فالاقتراح الإيكولوجي في الساحة المدرسية ليس مجرد جمال، بل رسالة غير مباشرة للتعايش مع البيئة واحترامها.

إن الساحة المدرسية التي تتضمن كل هذا البديع، ليس الغاية منها التزيين فقط، إنما تنطوي على أبعاد تربوي لها الأثر على التربية والتحصيل؛ فالساحة قوة محاورة للمتعلم، هي أول مستقبل له، وهي آخر مودع، وفي حضنها يؤسس علاقاته الاجتماعية مع الآخرين ويتفاعل معهم. وحضور الطبيعة مأمن ومؤنس نفسيان؛ يساعدان على تحقيق ما يعرف في علوم التربية ب”البيئة الآمنة” المشعرة بالهدوء  مما يحسن الحالة النفسية.

ولعل فلسفة “المشاتل” تنزيل عملي لربط التعلم بالواقع، وانفتاح النظري على التطبيقي؛ ما يدفعنا للساؤل: إلى أي حد تمكن القائمون على الشأن التربوي في ثانوية عبد الرحيم بوعبيد-سايس من جعل الساحة في زاوية من زواياها “مختبرا” للمواد العلمية؟ وبذلك خلق جو تعليمي مفعم بالحياة يربط النظرية بالتطبيق، ويتطلب عملا جماعي يربي على قيم التعاون والعمل المشترك والمشاريع الجماعية.

وقد تكون الساحة المدرسية بما يتوافر فيها من جماليات محفزا للابتكار، وملهما للتفكير النقدي والإبداعي، حيث يسهم  الفضاء في بناء ملَكة جمالية توجه اختيارات المتعلم، وفق ضوابط الانتماء والثقافة المحلية والهوياتية.

وبناء عليه، فإن جمالية الساحة المدرسية فضاء تربوي يمكن استغلال لتربية الحس والذوق عند المتعلمين، وبناء تفكيرهم النقدي، وربطهم بالقيم والمُثل والفضائل، فالحس الإبداعي في الساحة المدرسية رافد من روافد تهذيب الوجدان، وامتلاك المهارات الحياتية.

المقال خاص لصحيفة قريش – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com