المعادلة الروسية في سوريا بعد الأسد.. متوازنة أم مُختلة ؟

26 ديسمبر 2024
المعادلة الروسية في سوريا بعد الأسد.. متوازنة أم مُختلة ؟


هل فعلا تخلت روسيا عن نظام بشار الأسد ، واستسلمت لواقع لا يخدم مصالحها الاستراتيجية ؟ ..أم أن روسيا ساهمت مع تركيا ودول شرق أوسطية و غربية مؤثرة في تنحية نظام الأسد وأجبرته على مغادرة البلاد ؟

وهل سيدوم تواجد روسيا بسوريا مع تبني موسكو مبدأ بناء علاقات متميزة مع كل الجماعات والقوى السياسية  التي تسيطر على السلطة بسوريا ؟

تكاثرت التحليلات وتداولت الأقوال في الآونة الأخيرة حول مستقبل روسيا بمنطقة الشرق الأوسط وخاصة بسوريا ،التى كانت تدعمها موسكو عسكريا وسياسيا واقتصاديا وماليا ، وهناك من اعتبر أن تواجد روسيا القوي بالمنطقة قد انتهى ورجعت روسيا القهقري لحفظ ماء الوجه في منطقة تسارعت فيها الأحداث وهي لا تمسك بتلابيب تدافعها  ، بينما هناك من اعتبر أن روسيا تعد من المخططين الرئيسيين لتنحي نظام الأسد بتنسيق مع دول قوية منها تركيا بخاصة ، التي تقود “منحى التغيير” بهذه المنطقة .

وسيكون من  السذاجة أن نقول بأن قيادة روسيا ومخابراتها القوية والنافذة قد أخفقت فعلا في تقييم الوضع الذي تسارع في سوريا وفشلت في توقعاتها واضطرت الى إرغام بشار الأسد على التنحي ،ولذلك نظمت فراره في الوقت بديل الضائع ، وعرضت عليه  ممرا آمنا الى موسكو مع الاكتفاء بنقل الأسد جوا عبر قاعدتها الجوية في سوريا وإيقاف تشغيل جهاز الإرسال والاستقبال في الطائرة لتجنب تعقبه ،في انتظار ما يأتي وما لا يأتي .

كما سيكون من السذاجة تصديق الاحتمالات السطحية التي تقول بأن روسيا اكتفت بمطالبة بشار الأسد المخلوع الاستسلام لأنها تريد تجنب حمام دم يلقى فيه نفس مصير القذافي و صدام حسين ، وبالتالي تركت مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة عرضة لرياح التغيير دون أن يكون لها تأثير واضح في مجريات الأحداث التي تسارعت وحصل فيها تغيير عميق في ظرف زمني قياسي .

ومما لا يمكن أن يختلف فيه اثنان ولا يتناطح فيه عنزان ،كما يقال ، هو أن روسيا ، عمليا وواقعيا ، لا تدخر جهدا كما لن تدخر جهدا ،مهما كلفها الأمر ، من أجل الدفاع عن مصالحها “الاستراتيجية الوطنية العليا ” بالمنطقة ومراعاة أهدافها الاستراتيجية ، الآنية والمستقبلية ، في سوريا كما في الشرق الأوسط الأوسع ، الذي تتناحر دول بعينها للظفر بنتائج تكسبها المزيد من جرعات قوة الحضور بالمنطقة التي تتصدر دائما أبرز الأحداث العالمية .

وعلى عكس الدول التي لا حول لها ولاقوة وتعاني من “متلازمة الاجترار” واستهلاك القرارات الفوقية ، تبقى روسيا دولة ذات نفوذ عالمي كبير وفاعلة ومؤثرة في كثير من مناطق العالم ولا تتوانى في الدفاع “المستميت” عن مصالحها بأية وسيلة وبكل ما أوتيت من قوة ، وعقيدتها في ذلك تقوم على البراغماتية والغاية التي لا تبرر أية طريقة ، وهي التي قد  سارعت على لسان بعض مسؤوليها النافذين والمؤثرين ، منهم رئيس جمهورية الشيشان الروسية رمضان قديروف ، رجل ثقة فلاديمير بوتين ، إلى الدعوة والتأكيد على بدء إجراءات لرفع “هيئة تحرير الشام” من القائمة الروسية للمنظمات الإرهابية، تحت ذريعة “منع وقوع كارثة إنسانية في سوريا” ، وهذا القرار الروسي لا يحتاج الى تفسير عميق وفيه كثير من المعاني والعبر ويعكس رغبة موسكو في استباق الأحداث وضمان موقع اعتباري لها .

ومع أن روسيا تعرف حق المعرفة أن مصالحها تتضارب وتتناقض مع مصالح الكثير من الدول الغربية ودول قوية بالمنطقة ، إلا أنها تنسق معها ، ولربما نسقت معها في مسألة تنحي نظام بشار الأسد وتغيير الخريطة السياسية للبلاد الشامية ، ويبدو أن موسكو ماضية  في التنسيق مع تركيا بالتحديد وأكثر من أية دولة أخرى من الدول المعنية بالقضية السورية  ، وهي الدولة التي تعد اللاعب الرئيسي في دولة سوريا  في حلتها الجديدة ، وما يفسر ذلك هو مضمون ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن أنقرة تتواصل مع الإدارة السورية الجديدة لتحديد أسماء الأشخاص الذين سيديرون البلاد خلال الفترة المقبلة.

كما تنسق روسيا مع تركيا لوضع هيكلة الإدارة الجديدة في سوريا معا، و”مساعدة “الإدارة الجديدة في دمشق ب”شكل كامل” ، في الوقت الذي ترى أنقرة أن من بين أحد الأشياء الذي يجعلها “سعيدة جدا ” أن العديد من الدول سواء الإسلامية أو الغربية أو حتى روسيا  على اتصال مع أحمد الشرع ، ما يعني ، من وجهة نظرها ، أن الأمر يتطور، وأن هناك “إشارات ثقة بالإدارة الجديدة ” في سوريا…

وتتفق روسيا وتركيا أيضا حول كون رفع الحصار والقيود المفروضة على سوريا بسبب نظام الأسد سيكون “مفيدا لتعافي ” هذا البلد العربي الذي قوضت تحالفاتها الهجينة مع إيران مصيره و أنهكته المواجهات الداخلية والخارجية منذ زمن بعيد ، وما زاد  الطين بلة نزاعاته الداخلية بداية من سنة 2015 .

 وروسيا تدري تماما أن تركيا يهمها الى حد بعيد الاستقرار السياسي والأمني بسوريا حتى تطمئن على حال حدودها وتتجنب العمليات الارهابية التي ترتكبها الجماعات الكردية داخل حدود الأناضول، كما تدري أن تركيا ستستفيد كثيرا من الوضع في سوريا اقتصاديا ،وأطماعها الاقتصادية معروفة  ،وهي التي ستكون المساهم الأكبر ميدانيا في إعادة إعمار المدن السورية وبناء اقتصادها على المقاس ،وعودة “اللاجئين السوريين طوعا إلى بلادهم” بعد أن احتدمت المواجهات العرقية في تركيا بين الأتراك والسوريين .

 ولربما نقطة الخلاف الوحيدة بين موسكو وأنقرة تتمثل في رغبة تركيا في أن تفعل ما بوسعها من اجراءات لمحاسبة نظام بشار الأسد أمام القانون الدولي ، في وقت يعرف الجميع أن القوات الروسية هي التي ساعدت بشار الأسد ، باتفاق مع أطراف معينة ، على الفرار في ليلة عاصفة بالأحداث ، رغم أن العلاقات الروسية والتركية درجت على الامتياز في الآونة الأخيرة وتتسم بالتقارب المكثف ، خاصة بعد تفاهم البلدين على وقف المواجهات بين أذربيجان وأرمينيا وترتيب العلاقات ، التي تتداخل فيها الأمور العرقية والدينية والثقافية والمصلحية ، مع الأخذ بعين الاعتبار تغير أجندة روسيا في منطقة القوقاز .

وفي هذا السياق ،يطرح السؤال إن كان بالفعل قد طالبت دول الشرق الأوسط روسيا ، كما صرح بذلك الرئيس فلادبمبر بوتين قبل أيام ،بإبقاء قواعدها في سوريا رغم أن بوتين لم يفصح عن ماهية الدول ،وما هي الدول التي توافق رأي موسكو في الجانب العسكري كما في الجانب السياسي ،مع تشديد روسيا على ضرورة تطبيق ميثاق الأمم المتحدة بخصوص  وحدة أراضي سوريا وسيادة الدولة وسلامة أراضيها ، وهو ما لا يتماشى وأهداف تركيا كما إسرائيل التي تتدخل بلا هوادة في شأن سوريا وتنتهك سيادتها .

وفي المقابل تقول روسيا إنها مستعدة لسحب قواعدها فوراً إذا دعت الضرورة، مع حرصها على ضمان السلام والأمن والأمان وتبنى مبدأ بناء علاقات متميزة مع كل الجماعات والمجموعات التي تسيطر على السلطة وعلى مقاليد الحكم ومع القوى السياسية التي تتواجد وستتواجد بسوريا ، واستعدادها للبحث عن أرضية مشتركة متفق بشأنها .

وبهذا الخصوص قال فلاديمير بوتين ، في مؤتمره الصحافي السنوي قبل ايام ، إن مواقف بلاده “متطابقة” مع مواقف تركيا ، سواء فيما يتعلق بالقضية السورية أو القضية الفلسطينية ،وكذا بخصوص عودة اللاجئين الى سوريا وحل القضية الكردية في إطار التغيرات الجديدة والتعامل مع المجموعات الكردية.  

والكل يعلم أن روسيا لا يمكن أن تتخلى عن قواعدها في سوريا ، وهي التي تدري أن هذه القواعد لها أدوار استراتيجية لضمان التوازن بالمنطقة مع تواجد حلف شمال الأطلسي في المنطقة بقوة ، وخصوصاً في تركيا ، كما أن القواعد العسكرية الروسية في سوريا هي خط أحمر بالنسبة إلى موسكو،وهو وجود عسكري يعد ركيزة أساسية للوجود الروسي الحربي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كلها.

 إضافة الى ذلك ،مهام السفن الحربية والبوارج الروسية تعتمد كثيراً على القواعد في سوريا التي باتت تشكل أهمية خاصة لرفد التحركات البحرية في المحيطات ،وعلى هذا الأساس، فإن الوجود العسكري في سوريا يشكل تطبيقاً للحلم الروسي القديم بالإقامة في المياه الدافئة.

وأمام هذا الواقع ،هل علينا أن نعتبر أن روسيا “أنجزت كل الأهداف التي وضعتها عندما تدخلت عسكرياً في روسيا في عام 2015 ” ، كما تقول ،؟ ، أم أن روسيا تبدو عاجزة عن حماية حلفائها ؟، وهل للمسألة برمتها علاقة بالقضية الأوكرانية ؟ ،في الوقت الذي لا تريد روسيا مواجهة مباشرة وقوية محتملة مع حلف شمال الأطلسي بعد أن  تبدل المزاج الإقليمي والدولي حيال ملف نفوذ إيران وأذرعها العسكرية في لبنان أو في جزء من اليمن .

ما هو مؤكد ومعروف ، قد نفذ صبر روسيا من تعنت الرئيس السوري المخلوع أمام خطط موسكو لتهدئة الأجواء مع تركيا وفتح نافذة لتحريك التسوية السياسية والتوافق مع أنقرة بشأن المسألة الكردية وبخصوص دور تركيا في المنطقة .

وأبعد من هذا الطرح لا ترغب موسكو في فتح جبهة واسعة تستبق إمكانات التفاهم لاحقاً مع إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب حول الملف الأوكراني والعلاقة مع قضايا الأمن الاستراتيجي في أوروبا وفي الشرق الأوسط ، وهي الأمور التي تحظى بأولوية مطلقة لدى الكرملين في الوقت الراهن .

ولعل أكثر السيناريوهات واقعية بخصوص القضية السورية بالنسبة لروسيا ، كما تراه بعض وسائل الإعلام الروسية ومراكزها البحثية ، ترتيب توافقات مع السلطات السورية الجديدة وكذا مع الدول الغربية والدول المؤثرة بالمنطقة والتكيف مع الوضع الناشئ بسوريا ، في الوقت الذي يتقلص فيه نفوذ إيران والجماعات التي تدور في فلكها ويتغول دور تركيا وإسرائيل ،مع وضع رؤية مستقبلية لإقامة توازن جديد في العلاقات الإقليمية يضمن الحد الأدنى من مصالح الكرملين.

ومن السيناريوهات المحتملة أيضا أن تتمكن روسيا من بلوغ توافقات مع السلطات الجديدة السورية لإبقاء وجودها العسكري  واستبدال اتفاقات الـ49 سنة باتفاقية تراعي مصالح موسكو بالمنطقة ،أو الاستغناء عن القاعدة الجوية في حميميم، في مقابل الإبقاء على وجود مهم في ميناء طرطوس،أو انسحاب روسيا نهائياً، من القاعدتين، على أن تسعى لاحقاً لترتيب توافقات جديدة تمكنها من استعمال الموانئ الجوية والبحرية بتوافق مع الغرب.

وعلى العكس من ذلك ،فمن السيناريوهات المتشائمة التي وضعها محللون روس احتمال احتدام صراع سياسي داخلي طويل الأمد بسوريا واندلاع حرب أهلية لا يمكن التكهن بنتائجها ومصيرها ومن سيستفيد منها ، وقد يتسبب هذا الأمر في كارثة إنسانية خطيرة ونزوح ملايين اللاجئين وتفاقم أزمة الهجرة إلى أوروبا من جديد وربما أيضا بروز تيارات متطرفة لم تدخل في الحسبان ، الأمر الذي قد يتسبب في صراع معقد في منطقة الشرق الأوسط برمتها وموجة جديدة من الإرهاب الخارج عن الحسابات والتحضيرات القبلية .

ولعل روسيا مقتنعة بأن سقوط الرئيس المخلوع بشار الأسد لا يشكل هزيمة لها، والدليل على ذلك أن خطاب روسيا بخصوص ما يحدث الآن في سوريا هادئ ومعتدل وواثق وله نبرة ناعمة  ،كما أن مزاج روسيا  لازال متفائلا وينزع نحو النظر إلى الجانب الأفضل للأحداث والوقائع التي ترسم معالم سوريا القادمة .

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com