حميد المصباحي
المغرب
ربما يتساءل من يصادف العنوان، عن جدوى التفكير في الماضي، والحقيقة التي تعلمنا من التاريخ، أن الماضي إن صنعناه مرة ،فهو يصنعنا مرات، فإن أسأنا فهمه، أعاقنا، وإن أدركنا حقائقه سرنا بإرادتنا غير مثقلين به أو خائفين عليه أو منه، فإن كان هذا الماضي في أغلبه دينيا، جعلته القداسة قوة، تشد الناس حيث أراد حماة الماضي، فلا نرى بهم مستقبلا، بل ماضيا يسعون لتكراره لكي نغترب زمنيا وثقافيا وفنيا وروحيا، فكيف نتخلص من ذلك،؟
لا خلاص بدون قراءة الوحي لتجديد الفكر الديني بما نتأهل به لنطور ذاتنا الحضارية، ما دامت هذه الذات رهينة ماضيها بما فيه من تصورات فسرت الوحي معتبرة أن تفسيرها مقدس، وبذلك رهنتنا وحولتنا إلى أتباع، يكررون ولا يضيفون، يحفظون ولا يفهمون، والحفظ في هذا الزمن، له ضرورته لحفظ الذكرى، لكن الخيال أهم لأنه يتجه نحو المستقبل، فإن بقيت رهين ماضيك، ضحيت بالقادمين في سبيل السابقين، والعقل يفرض خلق توازن بين الماضي والمستقبل، في المعرفة والقيم وحتى الوجود، ولتحقيق هذه الغاية، جرت مبادرات منذ استقلال العالم العربي والإسلامي، إذ طرح سؤال ما العمل بعد الاستقلال؟ وقد أشرت إلى ذلك في مقدمة كتاب “الوحي والقرآن”، إذ تناقضت خيارات البناء، بين سلفيين وليبراليين وانضاف إليهم الاشتراكيين، ربما فشلت كل التجارب أو أعيقت وربما في بعض الدول العربية أدت لحروب أهلية، مخلفة ضحايا وجروح لا يمكن نسيانها بسهولة،
في هذا السياق، كان الديني حاضرا وما يزال، مؤثرا ومعيقا بل محرضا على الصراعات والمواجهات والتقاطبات الحادة، كل هذا اقتضى ظهور دراسات للدين، موقعه الاشتراكيون طبقيا، والحداثيون تاريخيا، وحتى الطائفيون ذهبوا به إلى منطق النقل والتصحيف دفاعا عن مشروعية موروثة محتكرة لحق الحق والتصرف بالفتوى ومختلف القياسات، بينما اختار مفكرون غيرهم، محاولة الفهم للديني، للكشف عن حدود فكره في تنظيم المجتمعات المعاصرة، وبعد ذلك استمرت عمليات الحفر لتصل بوضوح إلى معنى الوحي وأبعاده، مستفيدين من اجتهادات غيرنا في تعاملهم مع الوحي واستثمارا للفكر الدلالي، ولا أزعم أنني الوحيد من يشتغل على الوحي، ولكنني فرد من جماعة قليلة العدد، هدفها تحريك البركة الآسنة والتي ندرك جميعا صعوبة ذلك، لكن مستقبل القادمين، أبناءنا وحضارتنا وإنسانيتنا، تفرض علينا أن نقول كلمتنا فيما آلت إليه مجتمعاتا وما يلزمها لتحقيق تطورها وإقلاعها، والذي نعتبر الجواب عليه لا يمكن أن يكون إلا ثقافيا، مدخله إصلاح ديني لتفسيرات الإسلام التي لم تعد تواكب العصر ولم يعد العق البشري يقبل بها/ من قبيل عدم مساواة النساء بالرجال، ضرب النساء، انتظار الساعة لإنصاف المسلمين، عودة المسيح الدجال، فاعلية العفاريت والشياطين، علاج المرضى النفسانيين بالشعوذة وكتابة النصوص القرآنية على أجسادهم وجباههم، هذه الأشياء لم تعد تطاق، وصارت تعرض صغارنا للسخرية أمام الغير، حتى غيبت فينا قيم العقل، وصار المسلم رمزا للتخلف الخ هل القول بالخيال في الوحي مس بقداسته؟؟ هل تكلم الله باللغة العربية من خلال الوحي، أم
كان الوحي صورا ألهم النبي القدرة على صياغتها عربيا؟ هل التفسير خال من التخيلات، أم أنه أباحها لنفسه محرما إياها على غيره؟ ما الفرق بين الرؤيا والوحي والحلم؟
هل للأنبياء خيالات وافقت الوحي وأخرى خالفته فألغاها بفعل نسخ المنسوخ؟
للوحي أبعاد تتجاوز التفسير الذي أحاطها بهالة من القداسة، معتقدا أنه بذلك يحمي الفكرة باستبعادها من التفكير، لكنه فسر بناء عليها فقبل المجتمع من خلال سلطته بذلك مادام يفرض الوحدة ويحميها، لكن تلك اللحمة سرعان ما انفرطت روابطها بمجرد اختلاف الناس حول أهلية الحاكم ودينية الولاية، بل حتى البيعة التي هي غير التعاقد، تعرضت للنقد والاختلاف، فتم تضييق الجماعة التي توكل إليها تلك المهمة، بقيت محصورة في الفقهاء فانضاف إليهم أعيان القوم وعليتهم ثم فيما بعد، قادة الجيش وكلهم اعتبروا مدعوين من أهل العقد والحل، أي يعقدون البيعة وربما يحلونها إن اقتضى الأمر ذلك، هكذا غدا الوحي المقدس في صلب الدنيوي، فنشطت تأويلاته حتى حجبت ما دونه من أشكال التدين والتعبد، بل صارت السلطة عماد الدين بدل أن يكون هو عمادها، ومع الزمن بقيت التأويلات حاضرة ونتجت عنها مذاهب اجتهدت في تصورها لمجتمع الخلافة أو الإمامة، إلى أن انفصل الديني عن السياسي سرا، فصارت معايير السياسة محددة للخلفاء والأئمة دون التصريح بذلك، وانبعثت النزوعات القبلية لتصير شرطا للخلافة، وهي الأخرى وضعت لها اعتبارات جديدة، فالدولة الأموية رسخت الانتقال من الأب للابن، أما العباسية فكان الانتقال يتم من الأخ إلى أخيه، وجمعت الدولة العثمانية بين الاثنين حسب الحالات وقرارات أم السلطان وحساباتها، وهذه الاختلافات دليل غياب نموذج واضح في الحكم الإسلامي، ولذلك تم تأبيد النموذج القديم لأسباب سياسية، فالخلافة سلطة لها صلاحيات متعددة ولا تحتكم إلا لنصوص الوحي القابلة لتعدد القراءات، عكس الدساتير التي تفرض لغة مغلقة لا لبس فيها ولا تداخل بين السلطات، والتي في تطورها التاريخي قادت إلى الديمقراطية بما هي نزع للقداسة عن الحكم واعتباره شأنا بشريا لا دخل للآلهة فيه، وقد كانت هذه النتيجة حصيلة تجربة طويلة مع الإمبراطوريات القديمة وخصوصا الرومانية بعد تبنيها للمسيحية لتطيل بها سيطرتها وتهب نفسها قداسة تطهير الأرض من الديانات الوثنية، لكن كانت هناك تجربة أخرى مختلفة عنها كليا، وهي المدينة اليونانية، التي تم الرجوع إليها لمقاومة أشكال التيوقراطية الدينية القديمة أو التي عرفت في القرون الوسطى عندما تحالفت الدولة مع رجالات اللاهوت لتمارس ما عرف بالحق الإلاهي، أي جعل الدولة مقدسة بتعاليم المسيح الذي لم يشيد دولة، بل نشر القيم الدينية المسيحية متجاهلا السياسة والإمبراطوريات، ولا يمكن حصر الديانة في حدود جغرافية، بذلك انتشرت المسيحية لكنها لم تنج من التوظيف السياسي من خلال رجال الكهنوت الديني، الذين تعنيهم السلطة أكثر من الإيمان، بل يعتبرون السلطة ضرورة دينية لا محيد عنها ليعيش الناس.
عذراً التعليقات مغلقة