رؤية مغربية لمسرحية العراقي منير راضي

26 ديسمبر 2024
رؤية مغربية لمسرحية العراقي منير راضي

عبدالنبي بزاز

كاتب من المغرب

تنبني مسرحي ” العزيف ” للكاتب المسرحي العراقي منير راضي على أسس رمزية وتاريخية تستمد أحداثها من موروث حضاري عبر شخصيات حضرت بشكل صريح ،وأثثت فضاء المشهد المسرحي ك ” نيرون ” ،والشبح 2 / الشاعر، وكاليكولا ، والحفار( حفار القبور)  ، أو ضمني مثل حمو رابي ، ونابليون ، وجلجامش ، وأبي نواس بثقلهم التشريعي والقانوني ( حمو رابي ) ، والسياسي القيادي ( نابليون ) ، والتاريخي الأسطوري ( جلجامش ) ، والشعري الإبداعي ( أبو نواس ) .فضلا عن شخوص ك : الغانية ، سابينا ، أوكتافيا ، العازف  ، وسينيكا.

وانطلقت تفاصيل المسرحية من مكان تجسد فيه الموت من خلال أشكال وإشارات مختلفة ” شواهد لحود ، ودخان ملون ، وحفر ينبعث منها لهيب أحمر…” ، ورغم ذلك يظل ، أي المكان ، غير محدد المعالم والأركان . فيبادر الشبح 2، وهو من شخوص المسرحية البارزين والأساسيين ، إلى  وصف حالة 

منير راضي

الشعب الموسومة بالتيه داخل أجواء يحضر فيها الموت المجلل بطقوس خاصة ” الشعب في تيه من أمره ، والناس تلتقم الحصى ووطن ابتسامة الغرباء ، وهو يتعطر ببخور الثكالى من الأمهات في محرقة الموتى . ” ، وما يفتأ الشبح 2 يدخل في جدل حاد مع نيرون وحاشيته كاشفا جرائره النكراء في حق الحضارة والإنسانية ، والمتمثلة في إحراق روما ” أنت أيها المجنون . ياحارق  روما العظيمة ، أما زلت تتلذذ بدماء عبودية شعبك المقهور ” ، مشبها إياه ، في جبروته وطغيانه بنابليون ” ها أنت مثل نابليون كان يراقص البغايا على شعلة الحرائق والخراب … ” ، ليدخل  أي شبح 2 في نقاش محتدم مع أنصار نيرون مثل كاليكولا الذي رد عليه  قائلا : ” لماذا تنكرون ما تقوله كتب التاريخ عن نيرون العظيم ” ، فما يلبث شبح  2 أن يتحول إلى شاعر بعد ( أن ينفض عنه ما لف جسده ويظهر بلباسه العصري حيث البنطلون والقميص ونظارة طبية ويحمل بيده كتابا ) الشيء الذي أثار تساؤل نيرون : ” ما هذا ؟ أنت شاعر على ما يبدو”  ، ثم يواصل :  ” لا تزال ذاكرتي متقدة مذ غادرت الوطن العلوي والشاعر لا يمحق بصيرتي فيما أرى . ” ، ولا يتردد في احتقاره واستصغاره : ” اعلم أيها الشاعر عندما تفترش الكتب الأرصفة … عند ذلك سيكون هناك أناس يغطون بنوم عميق . ” ، ويبدأ نيرون في تعظيم ذاته وتأليهها : ” أنا الإله نيرون الذي سيعيد ترتيب أبجديات الكون بعيدا عن الجحيم المزعوم …” ، ليواصل كاليكولا عزف  سمفونية تمجيد وتأليه نيرون قائلا : ” وها هو الإله نيرون قد كان له معلما وفيلسوفا وحكيما وشاعرا َنيِّرا في خدمته ، إنه الفيلسوف والكاتب سينكا ابن روما البار…” . ثم يعود الشاعر للإمساك بناصية الحوار معتمدا عدة من براهين وأدلة في رده على كاليكولا : ” ولكن إلهكم نيرون سرعان ما راح يفضل الاستقلال بقراراته ورأيه ورأى أنه لن يكون قادرا على هذا إلا بانعتاقه من سيطرة أستاذه الفكرية عليه . ” ، مما رفع من منسوب غيظ كاليكولا ، وحدة انفعالاته لينعت الشاعر بنعوت تنم عن مدى تذمره من رؤيته ، أي الشاعر ، المبنية على أسس الإقناع القائم  على الحجة والدليل واصفاه إياه بالوحش : ” إنك وحش بلباس آىمي . ” ليبادر الشاعر، بعدها ، نيرون بسؤال محرج ومستفز : ” أخبرني أيها الإله نيرون ، كيف وأين مات الفيلسوف سينيكا ؟ ” . و لا يكف نيرون من التمادي في طغيانه واستعباده لأتباعه : ” يصرخ بهم فيجلسون عند قدميه طائعين . ” ، ويسترسل الشاعر في إماطة القناع عن سلوكيات نيرون المدمرة والمتمثلة في إحراق روما : ” لقد كان هذا ( يشير إلى نيرون ) من على شرفته ينظر إلى روما وهو يعزف على الكمان بينما تشتعل روما بحريق هائل . ” ، مواصلا الكشف عن حقائق تظهر الجوانب اللإنسانية  في شخصية نيرون والتي تعكس وتترجم أفعالا منافية للثوابت والمواضعات القيمية النبيلة ؛ مثل زواجه من أخته غير الشقيقة أوكتافيا ، بل عمد إلى نفيها وقتلها : ” لقد تزوجت أختك غير الشقيقة أوكتافيا ، ثم أقدمت على نفيها ، وفي النهاية حكمت عليها بالموت بتهمة الزنى التي كانت تهمة باطلة وغير صحيحة . ” ، كاشفا ( الشاعر ) عن باقي فضائح نيرون ، وأفعاله النكراء والمتمثلة في قتل أمه من أجل حرمانها من وراثة الحكم : ” ثم قتلت أمك الوريث الشرعي للحكم . ” ، ولم يفوت كاليكولا الفرصة للتدخل ورده على الشاعر مذكرا  إياه بجرائم  اقترفها قومه من قتل للرُّسُل ، والتمييز بين البشر على أساس العرق واللون : ” وانتم ، ألم تقتلوا رسل الرب المنزلين من السماء العليا ، وجعلتم الناس درجات ، وأعراقا ، وألوانا . ” ليتطور الجدل ، وتتسع دائرته بدخول أطراف حيزه مثل الحفار ، والذي يحتل مكانة أساسية ضمن شخوص المسرحية ؛ بحيث استهل ولوجه معمعة الحوار على شكل انزياح ذي طابع وجودي عن مجريات النقاش القائم قائلا : ” اسمحوا لي أن أقيم على روحي صلاة الوحشة قبل أن أموت . ” في إشارة إلى ما عاناه  وكابده من اغتراب داخل محيط انطلقت منه بداية تفاصيل ومشهديات المسرحية ممعنة في هلامية تكتنفها أجواء الموت وأماراته  . لينتقل  ، أي الحفار ، إلى تأكيد ما ذكره الشاعر من جرائم نيرون الذي أحرق روما ثم ما فتئ يتفرج على حريق العراق  : ” وماذا يدور في بال نيرون ، وهو يتفرج على حريق العراق ؟ ُيسْعِده أن يوقظ في تاريخ الغابات ذاكرة تحفظ اسمه عدوا لحمو رابي وجلجامش وأبي نواس . ” ، في إشارة إلى ما تعرضت له العراق من هجمة همجية على يد المغول بقيادة هولاكو الذي أحرق خزانتها الغنية ، وقَتَّل سكانها ، ونَكَّل بهم ،  وهو ما لم يمنع نيرون من التمادي في الاعتقاد المَرَضِي بتحكمه في الكون والوجود مما قاده للجرأة  بإعلان القيامة وسط أجواء  وطقوس خاصة  ؛ كالنفخ في الصور ، وإذكاء نار السعير وفتح بابه  : ” الآن أزفت ساعة القيامة … سأنفخ في الصور وسأفتح باب السعير على مصراعيه … ” في انتحال لصفة وسلطة الألوهية . مشهد يختتمه الحفار باختزال حقيقة الاستبداد والطغيان  الخاصة بكل زمان ومكان في عبارات : ” لأني أدركت أن لكل عصر نيرونه . ” ، قبل الشروع في حفر قبره : ” يحمل معوله ويبدأ بحفر قبره ” ، ثم اغتساله بالتراب : ” وها أنذا أغتسل بالتراب … ” . وتنحو المسرحية منحى منفتحا على الفناء بدق أجراسه : ” هيا لتعزف أجراس الفناء ” . 

وكما استهلت المسرحية مشاهدها بأجواء ضبابية تنتهي في نفس الأجواء ” تتصاعد الأبخرة والدخان … ” ، وما يفتحه ذلك  ، وما ينفتح عليه من آفاق يتقاطع فيها ، ويتداخل التاريخي والرمزي والعقدي عبر شخوص ووقائع انتظمها حوار نهل من مرجعيات حضارية ودينية وفكرية أضفت على مجريات المسرحية ومشاهدها صبغة التنوع والسعة والعمق.

عبد النبي بزازـ المغرب 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com