التاريخي والرمزي في مسرحية ” العزيف “
عبدالنبي بزاز
كاتب من المغرب
تنبني مسرحي ” العزيف ” للكاتب المسرحي العراقي منير راضي على أسس رمزية وتاريخية تستمد أحداثها من موروث حضاري عبر شخصيات حضرت بشكل صريح ،وأثثت فضاء المشهد المسرحي ك ” نيرون ” ،والشبح 2 / الشاعر، وكاليكولا ، والحفار( حفار القبور) ، أو ضمني مثل حمو رابي ، ونابليون ، وجلجامش ، وأبي نواس بثقلهم التشريعي والقانوني ( حمو رابي ) ، والسياسي القيادي ( نابليون ) ، والتاريخي الأسطوري ( جلجامش ) ، والشعري الإبداعي ( أبو نواس ) .فضلا عن شخوص ك : الغانية ، سابينا ، أوكتافيا ، العازف ، وسينيكا.
وانطلقت تفاصيل المسرحية من مكان تجسد فيه الموت من خلال أشكال وإشارات مختلفة ” شواهد لحود ، ودخان ملون ، وحفر ينبعث منها لهيب أحمر…” ، ورغم ذلك يظل ، أي المكان ، غير محدد المعالم والأركان . فيبادر الشبح 2، وهو من شخوص المسرحية البارزين والأساسيين ، إلى وصف حالة
منير راضي
الشعب الموسومة بالتيه داخل أجواء يحضر فيها الموت المجلل بطقوس خاصة ” الشعب في تيه من أمره ، والناس تلتقم الحصى ووطن ابتسامة الغرباء ، وهو يتعطر ببخور الثكالى من الأمهات في محرقة الموتى . ” ، وما يفتأ الشبح 2 يدخل في جدل حاد مع نيرون وحاشيته كاشفا جرائره النكراء في حق الحضارة والإنسانية ، والمتمثلة في إحراق روما ” أنت أيها المجنون . ياحارق روما العظيمة ، أما زلت تتلذذ بدماء عبودية شعبك المقهور ” ، مشبها إياه ، في جبروته وطغيانه بنابليون ” ها أنت مثل نابليون كان يراقص البغايا على شعلة الحرائق والخراب … ” ، ليدخل أي شبح 2 في نقاش محتدم مع أنصار نيرون مثل كاليكولا الذي رد عليه قائلا : ” لماذا تنكرون ما تقوله كتب التاريخ عن نيرون العظيم ” ، فما يلبث شبح 2 أن يتحول إلى شاعر بعد ( أن ينفض عنه ما لف جسده ويظهر بلباسه العصري حيث البنطلون والقميص ونظارة طبية ويحمل بيده كتابا ) الشيء الذي أثار تساؤل نيرون : ” ما هذا ؟ أنت شاعر على ما يبدو” ، ثم يواصل : ” لا تزال ذاكرتي متقدة مذ غادرت الوطن العلوي والشاعر لا يمحق بصيرتي فيما أرى . ” ، ولا يتردد في احتقاره واستصغاره : ” اعلم أيها الشاعر عندما تفترش الكتب الأرصفة … عند ذلك سيكون هناك أناس يغطون بنوم عميق . ” ، ويبدأ نيرون في تعظيم ذاته وتأليهها : ” أنا الإله نيرون الذي سيعيد ترتيب أبجديات الكون بعيدا عن الجحيم المزعوم …” ، ليواصل كاليكولا عزف سمفونية تمجيد وتأليه نيرون قائلا : ” وها هو الإله نيرون قد كان له معلما وفيلسوفا وحكيما وشاعرا َنيِّرا في خدمته ، إنه الفيلسوف والكاتب سينكا ابن روما البار…” . ثم يعود الشاعر للإمساك بناصية الحوار معتمدا عدة من براهين وأدلة في رده على كاليكولا : ” ولكن إلهكم نيرون سرعان ما راح يفضل الاستقلال بقراراته ورأيه ورأى أنه لن يكون قادرا على هذا إلا بانعتاقه من سيطرة أستاذه الفكرية عليه . ” ، مما رفع من منسوب غيظ كاليكولا ، وحدة انفعالاته لينعت الشاعر بنعوت تنم عن مدى تذمره من رؤيته ، أي الشاعر ، المبنية على أسس الإقناع القائم على الحجة والدليل واصفاه إياه بالوحش : ” إنك وحش بلباس آىمي . ” ليبادر الشاعر، بعدها ، نيرون بسؤال محرج ومستفز : ” أخبرني أيها الإله نيرون ، كيف وأين مات الفيلسوف سينيكا ؟ ” . و لا يكف نيرون من التمادي في طغيانه واستعباده لأتباعه : ” يصرخ بهم فيجلسون عند قدميه طائعين . ” ، ويسترسل الشاعر في إماطة القناع عن سلوكيات نيرون المدمرة والمتمثلة في إحراق روما : ” لقد كان هذا ( يشير إلى نيرون ) من على شرفته ينظر إلى روما وهو يعزف على الكمان بينما تشتعل روما بحريق هائل . ” ، مواصلا الكشف عن حقائق تظهر الجوانب اللإنسانية في شخصية نيرون والتي تعكس وتترجم أفعالا منافية للثوابت والمواضعات القيمية النبيلة ؛ مثل زواجه من أخته غير الشقيقة أوكتافيا ، بل عمد إلى نفيها وقتلها : ” لقد تزوجت أختك غير الشقيقة أوكتافيا ، ثم أقدمت على نفيها ، وفي النهاية حكمت عليها بالموت بتهمة الزنى التي كانت تهمة باطلة وغير صحيحة . ” ، كاشفا ( الشاعر ) عن باقي فضائح نيرون ، وأفعاله النكراء والمتمثلة في قتل أمه من أجل حرمانها من وراثة الحكم : ” ثم قتلت أمك الوريث الشرعي للحكم . ” ، ولم يفوت كاليكولا الفرصة للتدخل ورده على الشاعر مذكرا إياه بجرائم اقترفها قومه من قتل للرُّسُل ، والتمييز بين البشر على أساس العرق واللون : ” وانتم ، ألم تقتلوا رسل الرب المنزلين من السماء العليا ، وجعلتم الناس درجات ، وأعراقا ، وألوانا . ” ليتطور الجدل ، وتتسع دائرته بدخول أطراف حيزه مثل الحفار ، والذي يحتل مكانة أساسية ضمن شخوص المسرحية ؛ بحيث استهل ولوجه معمعة الحوار على شكل انزياح ذي طابع وجودي عن مجريات النقاش القائم قائلا : ” اسمحوا لي أن أقيم على روحي صلاة الوحشة قبل أن أموت . ” في إشارة إلى ما عاناه وكابده من اغتراب داخل محيط انطلقت منه بداية تفاصيل ومشهديات المسرحية ممعنة في هلامية تكتنفها أجواء الموت وأماراته . لينتقل ، أي الحفار ، إلى تأكيد ما ذكره الشاعر من جرائم نيرون الذي أحرق روما ثم ما فتئ يتفرج على حريق العراق : ” وماذا يدور في بال نيرون ، وهو يتفرج على حريق العراق ؟ ُيسْعِده أن يوقظ في تاريخ الغابات ذاكرة تحفظ اسمه عدوا لحمو رابي وجلجامش وأبي نواس . ” ، في إشارة إلى ما تعرضت له العراق من هجمة همجية على يد المغول بقيادة هولاكو الذي أحرق خزانتها الغنية ، وقَتَّل سكانها ، ونَكَّل بهم ، وهو ما لم يمنع نيرون من التمادي في الاعتقاد المَرَضِي بتحكمه في الكون والوجود مما قاده للجرأة بإعلان القيامة وسط أجواء وطقوس خاصة ؛ كالنفخ في الصور ، وإذكاء نار السعير وفتح بابه : ” الآن أزفت ساعة القيامة … سأنفخ في الصور وسأفتح باب السعير على مصراعيه … ” في انتحال لصفة وسلطة الألوهية . مشهد يختتمه الحفار باختزال حقيقة الاستبداد والطغيان الخاصة بكل زمان ومكان في عبارات : ” لأني أدركت أن لكل عصر نيرونه . ” ، قبل الشروع في حفر قبره : ” يحمل معوله ويبدأ بحفر قبره ” ، ثم اغتساله بالتراب : ” وها أنذا أغتسل بالتراب … ” . وتنحو المسرحية منحى منفتحا على الفناء بدق أجراسه : ” هيا لتعزف أجراس الفناء ” .
وكما استهلت المسرحية مشاهدها بأجواء ضبابية تنتهي في نفس الأجواء ” تتصاعد الأبخرة والدخان … ” ، وما يفتحه ذلك ، وما ينفتح عليه من آفاق يتقاطع فيها ، ويتداخل التاريخي والرمزي والعقدي عبر شخوص ووقائع انتظمها حوار نهل من مرجعيات حضارية ودينية وفكرية أضفت على مجريات المسرحية ومشاهدها صبغة التنوع والسعة والعمق.
عبد النبي بزازـ المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسرحية العزيف لمنير راضي الفائزة بمسابقة الرؤى الثقافية للإبداع والنقد في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد لسنة 2024.
عذراً التعليقات مغلقة