الوصايا السِّت
مصطفى ملح
شاعر من المغرب
أولا: لا تكن غيرك.. كن أنت
لا تَكُنْ غَيْرَكَ.. كُنْ أَنْتَ
وحلِّقْ بِجَناحَيْنِ بَسيطَيْنِ،
فَقَدْ تَلْمَسُ تَلاًّ أو رُكاماً مِنْ رِمالٍ،
لَسْتَ مَدْعُوّاً لِتَرْقى فَوْقَ أَعْناقِ المَجَرّاتِ.
غَديرٌ واحِدٌ مُؤْتَمَنٌ،
أَفْضَلُ إِنْ قورِنَ بِالطّوفانِ.
ماءٌ نافِعٌ تَشْرَبُهُ الأَفْواهُ،
خَيْرٌ مِنْ مُحيطٍ غَيْرِ ذي مَنْفَعَةٍ يُغْرِقُ مَنْ يَلْمَسُهُ.
لا تَكُنْ غَيْرَكَ.. كُنْ أَنْتَ فَقَطْ
أَرْضُكَ لا يَحْرُثُها غَيْرُكَ،
أَفْراسُكَ لا يَرْكَبُها غَيْرُكَ،
فِنْجانُكَ لا يَشْرَبُهُ غَيْرُكَ،
تابوتُكَ لا يَدْخُلُهُ غَيْرُكَ،
أَمّا الآخرونَ المُتَراصّونَ أَمامَ البابِ،
لَيْسوا أَنْتَ قَطْعاً..
لا تَكُنْ غَيْرَكَ.. كُنْ أَنْتَ فَقَطْ.
ثانيا: لأن الفراغ يضيق بنا
لأَنَّ الفَراغَ يَضيقُ بِنا،
فَاسْتِعاراتُنا غَيْرُ آمِنَةٍ أَبَداً.
سَوْفَ نَحْتاجُ مُتَّسَعاً مِنْ خَيالٍ،
لِنَعْرِفَ كَيْفَ نَعيشُ إِذا نَحْنُ عِشْنا،
ونَعْرِفَ كَيْفَ نَموتُ إِذا نَحْنُ مِتْنا..
مِنَ المُسْتَحيلِ زِراعَةُ نَجْمٍ بِأَرْضٍ،
ولا غَرْسُ زَيْتونَةٍ بِسَماءٍ،
وغَيْرُ مُباحٍ تَسَكُّعُ مَوْجٍ بِيابِسَةٍ،
أَوْ سِباحَةُ بَغْلٍ بِيَمٍّ..
تَضيقُ السَّماواتُ في عَيْنِ صَقْرٍ،
ويَتَّسِعُ الجُحْرُ في عَيْنِ جُرْذٍ!
ثالثا: لا وجود لمنطقة وسط
لا وُجودَ لِمِنْطَقَةٍ وَسَطٍ،
كُنْ أَبا لَهَبٍ أو عَدُوّاً لَهُ.
لا يُباحُ اعْتِمادُ المُسَدَّسِ في حِصَّةِ الرَّسْمِ،
وغَيْرُ مُباحٍ كَذَلِكَ رَشْقُ الزُّهورِ لِصَدِّ عَدُوٍّ..
وكُلُّ شُعاعٍ تُخاطُ بِهِ الأَرْضُ،
كُلُّ عَروسٍ تُضاءُ النُّجومُ بِها،
كُلُّ وادٍ تَهيمُ الأَفاعي بِهِ..
مَنْ أَكونُ أَنا؟
شُهُباً في السَّماواتِ لامِعَةً،
أَمْ مُجَرَّدَ أَفْعى بِوادٍ سَحيقٍ بِلا ضِفَّتَيْنِ؟
وإنّي عَليمٌ بِألاّ مَكانَةَ لِلْوَسَطِ العَبَثِيِّ المُحايِدِ؛
إِمّا أَكونُ القَذيفَةَ في مِدْفَعِيّاتِ بارِجَةٍ،
أو أكونُ اشْتِعالَ البَساتينِ في شَفَتَيْنِ مُتَيّمَتَيْنِ..
وأَنْتَ كَذَلِكَ لَسْتَ شُذوذاً،
فإِمّا تَكونُ أَبا لَهَبٍ.. أو تَكونُ عَدُوّاً لَهُ!
رابعا: لأخف قليلا خلعت جسدي
لأَخِفَّ قَليلاً خَلَعْتُ – بِلا نَدَمٍ – جَسَدي
ومَضَيْتُ أَجوبُ طَريقَ الحَياةِ،
خَفيفاً كَريشَةِ عُصْفورَةٍ ووَحيداً كَقَوْسِ قُزَحْ.
جَسَدي يَسْتَريحُ قَليلاً،
أنا الرّوحُ، مَفْصولَةً عَنْهُ، أَسْبَحُ في مَلَكوتِ الفَراغِ..
وحينَ رَجَعْتُ إِلى غُرْفَتي لَمْ أَجِدْ جَسَدي،
مُنْذُ تِلْكَ العُهودِ بَدَأْتُ أَعيشُ،
خَفيفاً كَريشَةِ عُصْفورَةٍ،
ووَحيداً كَقَوْسِ قُزَحْ..
إن كنت عبدا
إِنْ كُنْتَ عَبْداً لا تُصافِحْ كَوْكَباً،
وارْضَ إِذا عِشْتَ بِصُحْبَةِ البَعوضِ..
إِنْ كانَ قَلْبُ امْرَأَةٍ وَلْهى زُجاجِيّاً،
فَلا تَرْمي قُلوبَ العاشِقينَ بِالحَجَرْ..
إِنْ كُنْتَ نَسْراً لا تَخَفْ مِنْ جَبَلٍ عالٍ،
وإِنْ كُنْتَ مَحاراً لا تَخَفْ مِنْ غَرَقٍ..
بِصَرْخَةٍ واحِدَةٍ نَسْتَقْبِلُ الحَياةَ وِلْداناً،
ولَكِنْ بِصُراخٍ غامِرٍ نُوَدِّعَ الحَياةَ شيباً.
صَرْخَةُ الميلادِ..
صَرْخَةُ الوَفاةِ..
صَرْخَةٌ ثالِثَةٌ لا يَنْبَغي نِسْيانُها؛
صَرْخَةُ مَنْ لَمْ يولَدوا بَعْدُ؛
أَجِنَّةٌ بِأَرْحامِ النِّساءِ؛
أَنْفُسٌ خَرْساءُ في طَوْرِ التَّشَكُّلِ الفَجائِعِيِّ،
قَدْ تَفَجَّرَتْ بِصَرْخَةٍ ثالِثَةٍ؛
صَرْخَةِ مَنْ كانَ،
ولَمْ يَكُنْ،
ورُبَّما يَكونْ!
خامسا: قطرة من مطر
قَطْرَةٌ مِنْ مَطَرٍ لا خَوْفَ مِنْها.
نَسَقٌ مِنْ قَطَراتٍ تَنْتَهي مُسْتَنْقَعاً.
ماءٌ مُضافٌ لِمِياهٍ أُخَرٍ يَغْدو غَديراً.
وغَديرانِ يُضافانِ إِلى ماءٍ يَصيرونَ مَصَبّاً.
ويَنابيعٌ مُضافٌ جَسَدُ النَّهْرِ إِلَيْها،
سَوْفَ تَغْدو فَيَضاناً..
عَجَباً مِنْ قَطْرَةٍ بِالكادِ تَحْيا،
ومَعَ الأَيّامِ صارَتْ غَرَقاً!
سادسا: لا علم لضفدعة
لا عِلْمَ لِضِفْدَعَةٍ بِمَحارٍ أَوْ قِنْديلٍ بَحْرِيٍّ أَوْ قِرْشٍ،
موقِنَةً أَنَّ المُسْتَنْقَعَ خاصَّتَها هُوَ، دونَ سِواهُ، البَحْرُ..
هُتافاتُ الجُمْهورِ أَمامَ مُظاهَرَةٍ في الشّارِعِ،
لَمْ تَنْجَحْ في قَلْبِ مُعادَلَةٍ أَوْ حَفْزِ مُعارَضَةٍ،
لَكِنْ يَكْفيها أَنَّ عُيوناً قَدْ فُتِحَتْ،
ومَمَرّاتٍ ما كانَتْ آمِنَةً فُتِحَتْ،
وطُيوراً كانَتْ عالِقَةً مِنْ قَبْلُ قَدِ انْطَلَقَتْ..
لَيْسَ المَطْلوبُ خَريطَةَ أَنْدَلُسٍ،
أَوْ مَوْعِظَةً تَتَجَلّى في شَفَتَيْ لُقْمانٍ،
أَوْ ميتافيزيقا أَفْلاطونٍ،
أَوْ رُؤْيا حَمّورابي
أَوْ عَبَثَ التَّكْعيبِيّينَ..
فَقَطْ مَطْلوبٌ مِنّا مَنْحُ بَرابِرَةٍ سَبَباً كَيْ يَنْصَرِفوا،
مِنْ غَيْرِ إِراقَةِ أَيِّ دَمٍ في حَرْبٍ ما اشْتَعَلَتْ بِإِرادَتِنا..
مَثَلاً: نُعْطيهِمْ أَزْهاراً،
أَوْ نَدْعوهُمْ لِوَليمَةِ حُبٍّ؛
ساعَتَئِذٍ لَنْ يَبْقَوْا قَطُّ بَرابِرَةً،
بَلْ قَوْماً مُخْتَلِفينَ يُحَيُّونَ الأَزْهارَ،
بِدونِ إِصابَتِها بِرَصاصٍ أَوْ رَشّاشْ!
لا عِلْمَ لِأَرْضٍ مَيِّتَةٍ في مُنْحَدَرٍ،
بِوُجودِ حَياةٍ أُخْرى يَحْمِلُها مَطَرُ اللهِ!
القصيدة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
اللوحة للفنان المغربي الحروفي، مصطفى أجماع خص بها صحيفة قريش
عذراً التعليقات مغلقة