أخبروهم أن فولتير كان ماسونيا ؟

30 يناير 2025
أخبروهم أن فولتير كان ماسونيا ؟

مواطن الكون” بين الفكر الفلسفي والأدبي”:

 بين المثال والواقع

د. لبنى الجود

أستاذة بجامعة القاضي عياض 

لطالما شغلت فكرة “مواطن الكون” عقول الفلاسفة والأدباء، حيث مثلت جدلية الولاء للوطن مقابل الانتماء للبشرية موضوعًا للنقاش العميق، فبينما سعى بعض الفلاسفة إلى التأسيس لفكرة المواطنة العالمية باعتبارها أفقًا أخلاقيًا للإنسان، انقسم الأدباء بين من رأى فيها خلاصًا للبشرية من التعصب القومي، ومن حذر من أن تكون غطاءً لخدمة أجندات خارجية.

مثّل فولتير واحدًا من أبرز المدافعين عن فكرة “مواطن الكون”، حيث رأى أن الإنتماء الإنساني يجب أن يسمو فوق الولاءات الضيقة التي قد تعيق التقدم. في نظره، المواطن الحقيقي هو من لا يريد لوطنه أن يكون لا أكبر ولا أصغر، لا أغنى ولا أفقر، بل أن يكون جزءًا من توازن كوني يسوده العدل.

كانت هذه الرؤية تعبيرًا عن نزعة عقلانية تحرر الإنسان من قيود التعصب القومي، لكنها في الوقت ذاته لم تتجاهل أهمية الاستقرار السياسي للدول، في كتاباته، كان فولتير يقترح ملكية معتدلة، حيث يكون الملك مستنيرًا ويعمل كمدافع عن حقوق وحريات رعاياه، بينما يقوم أيضًا بدور تحت رقابة نوع من التمثيل الأكبر وإدارة أفضل للسلطات. بالنسبة له، كان لا ينبغي أن تكون السلطة الملكية تعسفية، بل يجب أن تكون موجهة بالعقل والعدالة والتسامح.

لم يدافع فولتير البتة عن أسس الإشتراكية ، بما فيها التوزيع العادل للثروات ، لكنه كان يفضل الليبرالية المبنية على إحترام القدرات الخاصة بالأفراد .

على عكس فولتير، كان جان جاك روسو أكثر حذرًا في التعامل مع فكرة “مواطن الكون”. ففي نظره، لا يمكن للإنسان أن يكون مواطنًا عالميًا دون أن يكون أولًا مرتبطًا بجذوره الوطنية، إذ يرى روسو أن الدولة الوطنية هي الإطار الطبيعي لتحقيق الحرية والعدالة، وأن السعي إلى كونية مجردة قد يؤدي إلى فقدان الهوية والإنتماء، و تسهيل الإستيلاب و الطمس الهوياتي ، و هنا يأتي بمفهوم “العقد الإجتماعي” و ينتصر لمفهوم “السيادة” .

في الأدب، تناول الكثير من الكتاب فكرة المواطنة الكونية، لكن برؤى مختلفة. فيكتور هوغو، على سبيل المثال، دافع عن الوحدة الإنسانية في إطار تحرري، لكنه لم ينكر أهمية الوطنية كدعامة أساسية لهوية الإنسان، أما جورج أورويل، فقد حذر من أن بعض الشعارات الكونية ليست سوى وسائل لتبرير الهيمنة والتدخل في شؤون الدول الأخرى، حيث يمكن أن تتحول الكونية إلى سلاح ناعم لضرب الاستقلال والسيادة.

إذا كانت الفلسفة والأدب قد طرحتا فكرة “مواطن الكون” كمبدأ أخلاقي وإنساني، فإن الواقع السياسي كشف عن أوجه أخرى لهذه الفكرة، ففي العصر الحديث، باتت الكونية في بعض الأحيان أداة تستخدمها القوى الكبرى لإعادة تشكيل العالم وفقًا لمصالحها، حيث يتم تسويقها على أنها دفاع عن القيم الإنسانية، بينما تخفي في طياتها مشاريع تخدم أجندات دولية على حساب سيادة الأوطان.

غالبًا ما يجد المدافعون عن حقوق الإنسان أنفسهم في موقع الصدام مع مفهوم الهوية الوطنية، إذ يرفعون شعار القيم الكونية التي تتجاوز الخصوصيات المحلية، معتبرين أن الحقوق والحريات يجب أن تكون مطلقة وغير مقيدة بأي سياق ثقافي أو ديني ، في المقابل، يرى أنصار الهوية الوطنية أن لكل مجتمع خصوصياته التي لا يمكن تجاوزها، وأن أي محاولة لفرض معايير كونية دون مراعاة هذه الخصوصيات قد تؤدي إلى تآكل السيادة الوطنية وزعزعة الاستقرار الداخلي.

إن التوتر بين الطرفين ينبع من حقيقة أن بعض الحقوقيين لا يتعاملون مع قضايا حقوق الإنسان بمعزل عن الأجندات الدولية، بل يستخدمون خطابًا انتقائيًا يخدم توجهات سياسية معينة. فهم قد يركزون على انتهاكات محددة داخل بلدانهم بينما يغضون الطرف عن ممارسات أكثر خطورة في دول أخرى، خصوصًا عندما تكون هذه الدول من القوى الكبرى أو الحلفاء الاستراتيجيين للجهات التي تدعمهم، وهذا يطرح تساؤلات حول ما إذا كان دفاعهم عن القيم الكونية ينبع من قناعة إنسانية خالصة، أم أنه مجرد أداة للضغط السياسي؟

حين يتبنى البعض خطابًا كونيًا يجعله في حالة صدام دائم مع وطنه، ويدفعه إلى تبرير التدخلات الأجنبية أو التحريض على زعزعة الاستقرار الداخلي، فهل يمكن إعتبار هذا السلوك مجرد تعبير عن انتماء إنساني عالمي، أم أنه شكل من أشكال الخيانة المقنّعة؟

إن الوطنية لا تعني الإنغلاق على الذات أو رفض القيم الإنسانية، كما أن الكونية لا ينبغي أن تكون مبررًا للتنصل من الانتماء للوطن، و غير أن الخطر يكمن حين تصبح “الكونية” غطاءً لمصالح أجنبية، حيث يتم استغلال قضايا حقوق الإنسان كأداة لإضعاف الدول وإخضاعها لتوجهات خارجية.

الولاء للوطن لا يعني بالضرورة رفض المبادئ الكونية، ولكن من يتبنى هذه المبادئ عليه أن يكون واعيًا بالسياق الذي يعمل فيه، وأن يدافع عن حقوق الإنسان بمنظور شامل لا يخضع للانتقائية أو الاستخدام السياسي.

أما أولئك الذين يتخذون من الدفاع عن “الكونية” وسيلة لخدمة أجندات خارجية على حساب أوطانهم، فهم ليسوا أوفياء للإنسانية بقدر ما هم أدوات في يد قوى تستخدمهم لإعادة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية وفقًا لمصالحها.

وهكذا، يبقى السؤال مطروحًا:

هل يمكن تحقيق كونية إنسانية حقيقية دون أن تتحول إلى ذريعة للهيمنة؟

هل يستطيع الفرد أن يكون مواطنًا عالميًا دون أن يفقد ارتباطه بوطنه؟

يبدو أن الإجابة تكمن في تحقيق التوازن بين الإنتماء الوطني والإنفتاح على العالم، بحيث لا تكون الكونية قناعًا يخفي تبعية سياسية، بل جسرًا حقيقيًا نحو إنسانية عادلة ومتوازنة.

وكإشارة أخيرة لمن يهمهم الأمر :

أخبروهم أن فولتير كان ماسونيا ؟

المقال خاص لصحيفة  قريش – لندن

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com