الرمزية والواقعية في رواية “على ضفتي المجرى” للكاتب اليمني بلال أحمد

21 يناير 2025
الرمزية والواقعية في رواية “على ضفتي المجرى” للكاتب اليمني بلال أحمد

محمد المخلافي

رواية “على ضفتي المجرى” هي العمل الأول للكاتب اليمني بلال أحمد، الذي تمكن من الجمع بين الرمزية والواقعية بأسلوب سلس وفعّال. صدرت الرواية في عام 2022 عن الدار اليمنية للكتب والتراث في القاهرة، وقد لاقت استحساناً ملحوظاً من قبل القراء والنقاد منذ صدورها في مكتبات خالد بن الوليد.

تتناول الرواية مجموعة من القضايا الإنسانية المتنوعة، مستعرضة شخصيات حية وديناميكية، مما يتيح للقارئ التفاعل بعمق مع تجاربهم ومشاعرهم. يعكس أسلوب بلال أحمد واقع المجتمع اليمني بدقة، مُبرزاً الجوانب الثقافية والاجتماعية السائدة فيه.

استكشاف الهوية والانتماء في زمن التحولات

تتجلى في رواية “على ضفتي المجرى” صورة واضحة للتحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها اليمن، حيث تتناول مواضيع الهوية والانتماء والصراع الطبقي. يعتمد الكاتب على أدوات سردية مبتكرة تعزز من عمق الشخصيات، مما يتيح للقارئ الارتباط بتجاربهم الإنسانية.

تدور أحداث الرواية حول شخصية أسامة الجمهوري، الذي يجسد الصراع الداخلي الذي يعاني منه العديد في المجتمعات المعاصرة. يتميز أسامة، الذي يحمل هوية الجمهورية، بالتأرجح بين شعور عميق بعدم الانتماء وفقدان الهوية. يسعى بجهد لبناء هوية جديدة تعيد له توازنه وتساعده على الاندماج مع محيطه، مما يعكس الجهد المستمر للإنسان في البحث عن مكان له وسط الفوضى.

مع حلول عام 2014، يواجه أسامة منعطفا حاسما، حيث تنهار الهوية التي عاش من أجلها. تتلاشى هويته الجمهورية، التي كانت تمثل ملاذًا وأملًا له، أمام واقع الحرب والفوضى التي اجتاحت البلاد. تتصاعد مشاعر الاغتراب والعزلة لديه، مما يظهر الصراع بين الماضي والحاضر، وبين الهوية المفقودة والسعي لإيجاد معنى جديد..

، تستخدم الرواية تقنيات سردية متعددة تُظهر براعة في توظيف اللغة. كما تعكس الرموز المستخدمة عمق التجربة الإنسانية، مما يضفي على النص طابعًا فلسفيًا يستفز القارئ للتفكير في معاني الهوية والانتماء.

الديناميكيات الإنسانية في “على ضفتي المجرى”

تمثل رواية “على ضفتي المجرى” تجسيدًا للتجربة الإنسانية في ظل الصراعات والاضطرابات، حيث تستعرض الديناميكيات الاجتماعية المتغيرة في المجتمع اليمني. يسلط النص الضوء على التوترات بين الحفاظ على الذات والتكيف مع موجات التغيير.

تعتبر الرواية وسيلة فنية لرصد وتحليل الأزمات والتحولات التي يمر بها المجتمع. من خلال شخصياته، يعكس بلال أحمد التغييرات الثقافية والاجتماعية التي شهدها اليمن على مر العقود، مما يتيح للقارئ التعرف على الثقافة السلبية والمفاهيم التي تحكم إدارة الصراعات بين الأجيال.

يتناول الكاتب أيضًا موضوع الهوية والانتماء، مقدماً لمحات صوفية تحث القارئ على التفكير في المآزق الأخلاقية والمعنوية. تطرح الرواية تساؤلات عميقة حول مصير الجمهورية اليمنية وتأثير التحولات السياسية والاجتماعية عليها.

تتجاوز “على ضفتي المجرى” كونها مجرد سرد لقصة فردية أو اجتماعية، إذ تُعتبر شهادة على التحولات العميقة في المجتمع اليمني خلال عقود من الصراعات. بأسلوب يجمع بين الواقعية والماورائية، يقدم بلال أحمد عملاً أدبيًا يعد علامة فارقة في الأدب اليمني المعاصر.

بهذا الشكل، تتمكن الرواية من خلق حوار متعدد الأصوات، مما يتيح للقارئ المشاركة في صياغة معنى النص من خلال تفاعله معه. وهذا ما يجعلها تستحق التقدير في المشهد الروائي اليمني المعاصر.

اقتباسات تعكس عمق الرواية

“يؤسفني إخبارك بأن اليمن الواحد الذي ظنناه تحقق، لن يكون نفسه يمننا الذي حلمنا به، لا تبالغ في سقف آمالك كثيرًا، إذ لا تبدو لي الأمور ذاهبة في الاتجاه الصحيح بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانتصر أحد الشريكين على الآخر، القوى ذاتها التي عانينا منها كثيرًا ستكبح مجددًا تطلعات الناس في وطن يوفر لهم الأمان واللقمة والخدمات ويتساوى فيه الجميع أمام القانون؛ تلك القوى ستفرض قيمها باسم حرية مشوهة لن يتأذى منها في الغالب، غير أمثالنا” (صـ 29).

يعكس هذا المقطع شعور الكاتب بالخيبة تجاه آمال الشعب اليمني. حتى بعد انتهاء الحرب، لا تزال القوى المسيطرة تعيق بناء وطن آمن، مما يترك الأفراد الأكثر ضعفًا في مواجهة واقع مؤلم. يتجلى في الكلمات تحذير من ضرورة اليقظة أمام هذه القوى لاستعادة الحقوق وتحقيق حلم اليمن الموحد.

“تراتبيات دأبت على تكريسها السلطات المتعاقبة بأشكال مختلفة منذ عقود مضت؛ يتراءى لي اليوم أنها في طريقها لأن تهيمن من جديد باسم الله والوطن والأخلاق والحرية” (صـ 30).

تظهر هنا رؤية الكاتب النقدية تجاه السلطات، حيث يبرز إعادة صياغة التراتبيات الاجتماعية والسياسية تحت غطاء القيم المقدسة. يعكس هذا الاستخدام لأدوات الهيمنة استمرارية التاريخ وتكرار الأنماط السلبية، مما يستدعي الوعي الجماعي لمواجهة هذه التحديات. إن استغلال القيم السامية كوسيلة للسيطرة يتطلب من المجتمع أن يكون يقظًا وعازمًا على مقاومة هذه الهيمنة.

“سيقول إننا نكتب مصائرنا في توالي اللحظات وفي أبدية اللحظة، وإننا إذ ننتبه إلى تكرارنا الذي لا يتوقف، فإننا نحمل وعينا معنا ونجسد وجودنا في أبعاد ثلاثة ونظل شباباً إلى الأبد” (صـ 148).

في هذا الاقتباس، يتناول الكاتب مسألة الزمن والوجود، مشيرا إلى أن الأفراد يصنعون مصائرهم من خلال تكرار اللحظات. يبرز دور الوعي كعصب أساسي يُمكن الأفراد من التعبير عن هويتهم في أبعاد متعددة، معبرًا عن الاستمرارية والتجدد. ورغم التحديات، تبقى روح الشباب والأمل حاضرة في تفاعلهم مع اللحظة الراهنة، مما يمنحهم شعورًا بالخلود الروحي.

تتداخل بهذه الاقتباسات القضايا الاجتماعية والسياسية مع الوعي الفردي، مما يفتح المجال أمام تأملات عميقة حول الهوية والمصير.

قراءة في عنوان الرواية

يحمل عنوان الرواية “على ضفتي المجرى” دلالات عميقة ورمزية، مما يجعله نقطة انطلاق مهمة لفهم النص. يعبر العنوان عن فكرة التواجد بين ضفتين، مما يشير إلى الصراع الداخلي الذي يعيشه الأفراد في زمن الفوضى، ويعكس حالة الانقسام بين الهوية والانتماء.

يمثل “المجرى” مجرى الحياة، ويشير إلى الحركة المستمرة للأحداث والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها المجتمع اليمني. إن وقوف الشخصيات “على ضفتي المجرى” يوحي بأنهم يعيشون حالة من عدم اليقين، حيث يتعين عليهم اتخاذ قرارات حاسمة في مواجهة التحديات التي يطرحها الواقع. تعكس الضفتان وجهات نظر مختلفة، تجسد كل منهما جانبًا من الهوية والانتماء، مما يبرز الصراع المستمر الذي يعاني منه الأفراد.

تُشير “الضفتان” أيضًا إلى تنوع الهوية اليمنية، حيث تتداخل الثقافات والتاريخ والتحديات. يسعى الأفراد إلى التوازن بين ماضيهم وحاضرهم، وبين تطلعاتهم للمستقبل. هذه الدينامية تُظهر الصراع الذي يعيشه أسامة الجمهوري، الشخصية الرئيسية، والذي يمثل تجارب العديد من أبناء جيله.

من خلال هذا العنوان، يضفي بلال أحمد طابعا فلسفيا على النص، مما يدعو القارئ للتأمل في مفاهيم الهوية والانتماء. إن وجود الشخصيات على ضفتي المجرى يعكس حالة من الترقب والتفكير، حيث يواجهون مصائرهم في ظروف غير مستقرة.

كيف ألهمت الظروف الصعبة بلال أحمد للكتابة؟

نشأ بلال أحمد في مدينة الحديدة، وانتقل إلى جامعة صنعاء في عام 1992 لدراسة الرياضيات وعلوم الكمبيوتر. كان يتمتع بشغف بالرياضة والقراءة، وخاصة الروايات. بعد أربع سنوات من الدراسة، تخرج من كلية العلوم عام 1998، ليبدأ مسيرته المهنية في مجال التأمينات.

رغم انشغاله بالعمل، لم يفقد بلال شغفه بالقراءة، وكانت الروايات رفيقته الدائمة. كان لديه حلم عميق في أن يصبح كاتبًا، وكان يتبادل الآراء والأفكار مع أصدقائه من الكتاب والمثقفين، مما زاد من شغفه بالأدب ورغبته في التعبير عن نفسه.

مع مرور الوقت، بدأ بلال يشعر بالاستقرار في حياته العملية، مما أتاح له الفرصة للتعمق في اهتماماته الأدبية. جاءت هذه الفرصة بشكل خاص مع بداية الحرب، التي خففت من ضغوطات الحياة اليومية. في تلك الأوقات العصيبة، قرر أن يستثمر طاقته في الكتابة.

روايته “على ضفتي المجرى” تعكس ميلاد كاتب جديد في المشهد السردي اليمني، كاتب يتمتع برؤية إبداعية واضحة، ويستعد لترك بصمته في عالم الأدب. من خلال موضوعها وأسلوبها، تؤكد الرواية على أهمية الأدب في التعبير عن التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المجتمع اليمني. باستخدام أدوات فنية مبتكرة وتركيز على تجارب شخصيات متعددة، ينجح بلال في رسم صورة شاملة للواقع اليمني المعقد. ومن هنا، ارى ان “على ضفتي المجرى” إضافة ملفتة للنظر في المشهد الأدبي اليمني المعاصر.

كاتب وصحفي يمني

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com