الطيب هلو.. يكتب عن شاعر مغربي دخلت دواوينه إلى وجدة عن طريق الجزائر

6 يناير 2025
Screenshot
Screenshot

قريش – خاص بـ قريش

Screenshot

******

الطوبي ..أيقونة الشعر المغربي

بقلم: الطيب هلو 

محمد الطوبي، صوت شعري جميل، داخل سمفونية الشعر العربي. وهذا الصوت ـ رغم كونه جزءا من هذه السمفونية، ونغما من أنغامها، إلا أنه ـ وكما يبدو من أعماله ـ هارب من رتابة الكورس الجماعي؛ القائم على مذهبية شعرية ثابتة.

إنه نابذ لكل ما لا علاقة له بالذات المؤسسة لكينونتها، والمعبرة عن العشق في قدسية بالغة تصل حد الأسطورة. إنه، ومنذ ديوانه الأول حتى آخر نبضة شعر مخطوطة تركها، واصل اقتراف القصيدة المجازفة في عصر الإيديولوجيات الآيلة للسقوط، والقصيدة المتفردة في زمن الأفكار المعرضة للزوال.

إن الشاعر محمد الطوبي في كل أعماله كان يؤسس إيديولوجيته الخاصة المنحازة إلى الذات الشعرية القائمة على الشعري والجمالي ولا شيء سواه.

عرفت محمد الطوبي الشاعر، في بداية الطلب الجامعي حين عثرت على بعض دواوينه التي دخلت إلى وجدة عن طريق الجزائر، بعد فتح الحدود أواخر الثمانينيات، فاقتنيت “أيقونة العاشق المغربي” (المنشأة العامة للنشر، طرابلس ـ ليبيا) و”في وقتك الليلكي هذا انخطافي” (دار الحداثة، لبنان)، فأعجبت بهذا النموذج الشعري المبهر.

وبعد وقت قريب رأيته في حوار ثقافي على شاشة القناة الجزائرية، فأوهمني ذلك أنه شاعر جزائري، خاصة وأن لكنته كانت توهم بذلك، ثم لأن لا أحد من أساتذتنا، ومنهم الشعراء، لم يذكره لنا ضمن خريطة الشعر المغربي. لكني اكتشفت أنه شاعر مغربي من القنيطرة من خلال بعض الأصدقاء المهتمين بقضايا الشعر وهمومه. 

في سنة 1992، وأنا طالب بالسنة الثانية كتبت مقالي النقدي الأول عن ديوانه “أيقونة العاشق المغربي”، ونشر بالملحق الثقافي لجريدة الميثاق الوطني، ثم بعدها نشرت مقالة “شعرية الرغبة في”في وقتك الليلكي هذا انخطافي”. 

وبعد التخرج والالتحاق بالمدرسة العليا للأساتذة بفاس سنة 1994 شاءت الظروف أن نلتقي. كان ذلك في مهرجان ربيع فاس الذي كانت تنظمه الجماعة الحضرية بفاس التي كان يرأسها شاعر فذ هو د. أحمد مفدي، وكانت الدورة تكريما للشاعرين محمد الحلوي وأحمد المجاطي.

كان محمد الطوبي شامخا بأناقة في بذلته الخضراء وربطة عنقه المشجرة حين عرفني عليه الشاعر محمد بنعمارة. حين سمع اسمي ضحك بقوة ومسح على شاربه الكث وشكرني على المقالتين. كان الفرح غامرا ورافقته طيلة أيام المهرجان الشعري. استمتعت بقراءته لقصيدته الجديدة التي بدأها بالقول: “أنا انتخبت التي بالعشق تنتخب…” وأمدني بنسخة من بعض نصوصه التي كتبها بخطه المتفرد. ومع انتهاء الملتقى حصلت على صورة معه وعنوان مقر عمله بالقنيطرة، وطلب مني زيارته. 

زرته مرارا محملا بقصائدي، ثم بديواني الأول الذي وضعت له “مورق بالعشق يا وهج القصيد” عنواناً، لكنه ما إن بدأ قراءة القصيدة الأولى حتى توقف عند أحد المقاطع أقول فيه:

ما لي هنا

همس النبيلة في مداراتي استوى

قمرا تورد في استدارته العتاب

فقال: “سنأخذ من هذا السطر الأخير كلمته الأولى والأخيرة ونصوغ العنوان “قمر العتاب”. فرحت بالعنوان المقترح ووعدني بتصميم الغلاف. وفي اليوم الموالي أخذني إلى محمد البوكيلي للاتفاق على نشر الديوان.

رسائل.. الطوبي:

كانت رسائله تضج بالفرح وهو يخبرني بمراحل الإنجاز. أرسل إلي صورة الغلاف وشرب نخب الديوان حين خرج من المطبعة واحتفل بي حين ذهبت للحصول على نسخي. وحين صدر ديوانه “تجربة الإكليل في كمنجات الخريف” أرسل إلي نسخة كتب في الإهداء: 

“الشاعر الطيب هلو. كل هذا الغناء لأسطورة عشق مغربي..

 لك محبتي.

 أخوك محمد الطوبي”. 

كتبت عن هذا الديوان مقالتين، نشرت الأولى بمجلة “مجرة” التي كان يصدرها الناشر محمد البوكيلي، والثانية بجريدة “البيان الثقافي” وأرسلت كلمة عنه إلى مجلة “الوسط” اللندنية” لكن وجودي بمدينة الداخلة النائية التي لا تصلها إلا مجلات قليلة حالت دون متابعة نشرها.

لا شك أن ذكرياتي مع محمد الطوبي حاضرا وغائبا كثيرة يضيق بها هذا المجال، حيث شاركت في حفلات تأبينه بالرباط والقنيطرة بشهادات وقصائد، وكتبت عنه مرثية طويلة. وأنا الآن بصدد إعداد كتاب عنه.

سيد التطريز بياقوت الكلمات:

إذا أردت أن أتحدث عن الشاعر محمد الطوبي فيمكن أن ألخص سيرته من خلال عناوين دواوينه والتي هي محطات حياته. فقد بدأ وهو مؤمن بالتطريز الشعري ففي “سيدة التطريز بالياقوت” كان سيد التطريز بالكلمات. كان يضع خطواته الأولى وهي خطوات ثابتة واثقة تتأسس على رؤية واضحة فيها من منسوب الجدة ما يعادل منسوب المقروء.

فمحمد الطوبي قارئ ذكي لعيون الشعر العربي والغربي، يعرف كيف يحول ما أعجبه إلى ياقوت ويحسن تطريزه.

إنه سيد التطريز بياقوت الكلمات. إنه شاعر الصعود إلى القمة الشعرية والشاعر المنذور للحب ينادي الأنثى (سيدة التطريز بالياقوت) سهوا في ديوانه ” صعودا أناديك سهوا”. العنوان الذي يكشف مركزية المرأة في شعره وينبه إلى مركزية الموسيقى، فالعنوان موزون على المتقارب ينبه أنه بقدر سطوة المرأة تكون سلطة الإيقاع وأن النداء سهوا لا يكسر إيقاع الخطو في اتجاه الأنثى التي تعادل القصيدة جمالا وتسرق من الموسيقى إيقاع خطواتها وسحر نبراتها.

أيقونة العاشق المغربي:

هو العشق المستبد إذن من يرسم خطوات محمد الطوبي. هو عشق مقدس له أيقونته لما تحمله هذه اللفظة من إحالات على عالم المقدس كرمز مسيحي. فالأيقونة في معناها المعجمي رسم على المعدن أو الخشب يمثل مشهدا دينيا, كما أنها تعني تلك الصورة المقدسة الثابتة. لكن الشاعر يمنحها الخصوصية عندما يصف العاشق بالمغربي في ديوانه “أيقونة العاشق المغربي” إنه وصف للذات العاشقة. فمحمد الطوبي هو هذا العاشق المغربي الذي يرسم أيقونته بحروفه إنْ في القصيدة أو التشكيل. إنه العاشق المغربي بفوضاه وجنونه.

صبوات المجنون:

إنه الشاعر العاشق الذي يكتب “صبوات المجنون” ليبث فيها مشروع جنونه الشعري وعواطفه وصبواته. إنها تنويعات على مقام الحب والعشق. انتقال من النداء الساهي إلى العشق المقدس إلى الصبوات المجنونة ليصل إلى رسم ملامح “أسطورة النورس القتيل” أليس الشاعر هو النورس المجاور للضفاف، ضفاف الأنهار التي يختصرها سبو الذي يحتل عالم الشاعر، أليس العاشق قتيلا؟ ألم يربط منجزنا الشعري العربي بين العشق والقتل؟ إنها أسطورة النورس القتيل/ أسطورة الشاعر العاشق. العاشق المجنون في صبواته والعاشق المتبتل في محراب العشق الصوفي المنتقل من الأيقونة إلى الصبوة إلى الأسطورة إلى الانخطاف الذي يستعيره من معجم المتصوفة ليرصع به ديوانه “في وقتك الليلكي هذا انخطافي”هو انخطاف في محراب الحب وفي وقت الأنثى الليلكي بما في الليلك من عبق وأريج. إنه إعلان عن حضور الطبيعة كمكون من مكونات شعريته السامقة فبعد الحب والصبوات والجنون والالتحام بالمقدس تأتي الطبيعة الفاتنة لتنضاف إلى عوالمه الشعرية ويأتي الوقت بما له من دلالات صوفية عميقة ودلالات فلسفية أعمق ليثبت أن الشاعر محمد الطوبي شاعر فكر عميق وليس شاعر انفعال فقط وليتوجه “ملك الصعاليك الجميل”. 

الصعلوك الفقير.. العزيز النفس:

إن محمد الطوبي عاش صعلوكا بمعناه اللغوي أي فقيرا، لأنه كان عزيز النفس، كريما، شهما.  وقد لمست فقره وعزة نفسه من رسائله الكثيرة إلي ومن لقاءاتنا القليلة في أواسط التسعينيات من القرن الماضي. هو ملك الصعاليك الجميل وملك الشعراء الجميل. وسيد التطريز بالكلمات والحروف وهو أيقونة الشعر المغربي لو كانوا ينصفون.

هو الباحث عن الطهارة والمقدس في كل ما يخط الذي لا يقنع سوى بعذرية الأشياء كيف لا وهو يلح “بتول.. بتول” بما تحمله البتول من رمزية الطهر والعذرية. وهذا الطهر هو الذي دعا الشاعر إلى استلهام “طفولة الوردة” بما فيهما معا؛ الطفلة والوردة من براءة وجمال وأريج.

وبين عذرية البتول وطفولة الوردة يخوض الشاعر محمد الطوبي “تجربة الإكليل في كمنجات الخريف” وهو حريص على الجمال في الطبيعة وجمال الموسيقى وجمال العناوين التي ينحتها بأناقة ويمنحها ما في الغموض من السر وما في اللغة من السحر. هي أناقة الشاعر في اختيار ألفاظه وتناسب تراكيبه كما كانت في اختيار بدلاته وربطات عنقه لأماسيه الشعرية.

وبهذه الأناقة الشعرية وبعد صخب كمنجات الخريف سيصب أحزانه وحنينه لولديه في ديوان “قمر الأندلسي الأخير” الذي أهداه لهما. عنوان يذكرنا بزفرة العربي الأخير وكذلك كان الديوان زفرات حنين وشوق. وكم كان يحزنه سماع موسيقى القيثارات الإسبانية وتبعث فيه الرغبة في البكاء (هذ الموسيقى تجيب لي البكية)، كما قال لي يوما.

عالمه الجمالي وأفقه الشعري:

يعود الشاعر للوقت مرة أخرى وللجسد الأنثوي وللموسيقى والنبيذ ليصقل ديوانيه الأخيرين في حياته “وقت لجسد النشيد” و”المجد لينا يا حضرة النبيذ” ليستقيل من حياتنا ويتركنا للذكرى لكنه ترك لنا إرثه الشعري الخالد ووصيته “غواية الأكاسيا” التي تكرس عالمه الجمالي وأفقه الشعري المتفرد الذي يجعله بحق أيقونة الشعر المغربي. فلنا قصائده الجميلة نغمات لا تنتهي وله خلود إبداعه الذي سيمنحه الخلود إلى الأبد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com