القصيدة الأخيرة للشاعر المغربي الراحل محمد السكتاوي

9 يناير 2025
 القصيدة الأخيرة للشاعر المغربي الراحل محمد السكتاوي

 المحطة الأخيرة

محمد السكتاوي

الحياة هي محطة .. ومحطات .. وفي آخرها محطة أخيرة . والبنت دائما يصعب عليها فراق أبيها، وفقدان الأب، هو لحظة كالمسافر ، تستحق الوقوف في ذكريات وصور، وكلمات كتبت من القلب والروح والصدق.

وهنا  كتبت ميسون السكتاوي، كريمة الشاعر والحقوقي الراحل محمد السكتاوي، وقالت: “هذه آخر قصيدة (المحطة الأخيرة) كتبها والدي قبل رحيله”. 

وعلقت ميسون على القصيدة : وقالت “في كلماتها، (يعبّر والدها) “عن آخر تأملاته في الحياة والموت، حيث يلتقي الألم بالسلام في لحظاته الأخيرة.” 

وتابعت ميسون “كانت هذه القصيدة بمثابة وداعه، يروي فيها سيرته الأخيرة بين الوجود والغياب.”

أما الشاعر مراد القادري،رئيس بيت الشعر في المغرب، فبدوره كتب وقال ..” منذ أيام قليلة، و ردّا على دعوتي له لحضور حفل جائزة الأركانة العالمية للشعر، كتب إلي السي محمد السكتاوي: 

صديقي العزيز مراد القادري 

أعتذر أني لن أستطيع أن أحضر معكم في حفل الشعر الكبير جائزة أرگانة العالمية، فأنا منذ خمسة أيام في قسم الإنعاش بإحدى عيادات الرباط في وضع حرج ولا أدري متى تستقر حالي ويصبح في إمكاني العودة إلى حياتي الطبيعية، لذلك من الصعب أن ألتزم بأمر آت قد لا أوفي به.

بالغ شكري على ترحيبك بشخصي وصفاء عبارتك الصادقة، ولعلك تعرف أيّها العزيز ما أكنه لك من احترام ومحبة من زمن قديم، وكم أتمنى أن ألتقي بك تحت “بيت الشعر” أو تحت شجرة تين ظليلة في حقول بني خلاد الجميلة.

 كل التقدير لك 

(محمد السكتاوي).

وأضاف مراد القادري ” كم يؤلمني أن الوعد الذي ضربه لي السي محمد السكتاوي يتعذر الوفاء به، فقد غادرنا هذا الصباح السي محمد، الشاعر والمناضل الحقوقي الذي أحببته كثيرا.” 

قريش- خاص بـ قريش:

** ** ****

محمد السكتاوي

شاعر راحل من المغرب

 المحطة الأخيرة

‎حينما اتصلت بي منذ أربعة أيام 

‎وتحدثنا لثوانٍ

كنت عاجزا عن الحركة تماما وقلبي يركض بعنف

مثل حصان جامح

وصلت قسم الإنعاش 

‎ومن حينها لا جهد لي على الحركة

‎وضعوني في السرير وبقيت كذلك

قالوا إن وضعك حرج

قلبك تمرد عليك

وأنت فقدت قدرة مسك اللجام

وقفز الحواجز 

‎وضعية حرجة جدا 

‎لأن القلب أمعن في تمرده 

وتضامنت معه الكلمات 

والخطوات والنظرات 

وفر الهواء من صدرك

وجف الماء في سواقي جسدك 

‎ لا شيء على ما هو 

‎والأطباء في حيرة من أمرهم

‎ ينتظرون الأسوأ

‎أما أنا فأحس أن ثقلا كبيرا يزول عني

‎وأتقدم منتشيا نحو محطة الراحة الأبدية

ففيها أيضا ما يمكن أن يقتنصه المرء

‎من سديم الوجود المطلق

بلا حلبة سباق 

أو خيول جامحة

حين اتصلتَ منذ أربعة أيام

صوتك تلاشى في ذاتي

كان قلبي يركض بعنف

مثل حصان جامح بلا لجام

وفي قسم الإنعاش

لم يجد عشباً أخضر ولا جبال ثلج

نحنح ورفع ساقيه عاليا 

فصار جسدي معلقا بين الريح

تربطه شبكة أسلاك

“وضعك حرج”، قالوا.

تمرَّد القلب،

ورمى لِجامه، وكفّ عن قفز الحواجز.

الهواء فرّ خائفا من رئتك،

وجفّت السّواقي داخلك.

عيون تحدق في الصَّمت،

ينتظرون الأسوأ،

أما أنا فأنجرفُ ببطء

لا سقوط، لا صعود،

بل دوامة تتسعُ، تتسع،

وثقل غريب ينزاح عن صدري

أمامي باب رخامي

يفيض منه الفراغ لزجا 

هناك انكشاف ما الوراء

حيث لا سباق،

لا خيولٌ جامحة،

أخطو لا أرض لي 

أغرق في السر الأخير

وتشف في فمي كلمات

قصيدة لم تكتمل

وتمد لي يدها الصامتة

لتقودني نحو الفراغ المطلق

ذاك الكمال الغريب

الذي لا يخشى النّهاية.

إلى سديم الغياب

حين خاطبتني، كان الزمنُ مشروخًا،

ثوانٍ تتهشّم كأجرانٍ جافّة،

وصوتي انطفأ في صدى غامض،

وقلبي

رياحٌ تقودها جيادٌ بلا لجام.

في غرف الضوء البارد،

أُلقيتُ كريحٍ كسيرة،

جسدي وشاحٌ مصلوب،

والأطباء قرّاءُ طلاسم

يتنصّتون لصمتٍ أعمق من النبض.

قالوا: “وضعك حرج”،

لكنّ القلب طفق ينزف موسيقى متمرّدة.

آه، أيها القلب، أيُّ سرٍّ ناداكَ؟

أيُّ ليلٍ فاض فيك،

فأسلمتَ جسدي لريحٍ تمحو المدى؟

الهواء، ماء الحياة،

تلاشى،

والسواقي جفّت كما جفّ التوق.

كلماتُ الأرض خانتني،

وأنا أنجرفُ

لا سقوط، لا صعود،

بل مدارٌ يتسعُ، يتسع،

كصلاةٍ تهيم بلا اتجاه.

لا شيء هنا سوى الفراغ،

يبتسم كشيخٍ صوفيٍّ غارقٍ في السرّ.

ثقلُ الحياة يذوب،

وثوبُ العدم يشفُّ كقصيدةٍ لم تكتمل.

هناك، خلف الستار الذي لا ينزاح،

لا سباق،

لا خيولٌ هوجاء.

هناك حيث تؤول الخطى إلى سكونٍ

يحتضن صراخ الأكوان،

أسيرُ نحو سديم الغياب،

حيث الجمال ينفلت من المعنى،

وحيث النُّور، عارياً، يُولد من العتمة.

* الصورة: الراحل محمد السكتاوي، رفقة عقيلته لطيفة وكريمته ميسون.

35X35 cm – 2004

خاصة لصحيفة قريش – لندن

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com