د جاسم محمد صالح الدليمي
موجز في السيرة والفن
من هناك، من بين الازقة والدروب الضيقة في الموصل القديمة، من بين تلك البيوت المتكئ بعضها على كتف بعض، من ذلك المكان المنسي الآن بين ركام الخرائب والحرائق والدمار نبت وأزهر الطفل البريء العينين واليدين والقلب، وأشرق صافياً كسماء في يوم ربيعي من أيام أم الربيعين.
ابن سقّاء الماء الملا عثمان الموصلي (1854م-1923م) وقبل ان يثمر أدركته عتمات ثلاث، عتمة اليتم وعتمة المرض وفقدان البصر وعتمة الفقر والعوز،اذ سرقت منه ضياء الحياة وبهجة الفرح فيها وغافلته عن النظر الى الماء والخضراء والوجه المليح الحسن وتركت له نور البصيرة واشراق الفكر واصالة الموهبة وقوة القلب ونشاط الذاكرة وسرعة البديهة وثراء الإحساس بالأشياء من حوله.
رعته عناية الله وحفظته من الضياع بأن سخرت له يدا كريمة من آل العمري ( محمود أفندي العمري وجيها من وجهاء الموصل في عصره) لترعاه وتقوم على تربيته وتعليمه وقد أدركت ان ثمة موهبة أصيلة مضمرة بين طيات الفقر والمرض واليتم في هذا الجسد الناحل والوجه الذي أكل منه الجدري اللعين فوفرت له من يعلمه تلاوة القرآن الكريم وحفظه والتجويد وقواعده والعربية وعلومها وتوسعت علومه وتفتحت مداركه على يد شيوخ من علماء كبار في مدينته الموصل الحدباء كالشيخ عمر الاربيلي والشيخ عبدالله الفيضي والشيخ صالح الخطيب ، ونال الاجازة من الشيخ محمد بن حسن في القراءات السبعة على الطريقة الشاطبية وأخذ عن شيخه في الموصل محمد بن جرجيس الطريقة الصوفية القادرية ، وأتقن بعد ذلك اللغتين الفارسية والتركية ، وتوافر له معلم – من لدن مربيه وراعي نعمته – يعلمه أصول الموسيقى وقواعد الألحان والانغام وطرائق المقامات وأساليبها وفنون الغناء فنبغ في ذلك كله وحفظ الاشعار والانغام والتلاوات والمقامات وأصبح سيدا للنغم وشيخا للحن والايقاع وشاعرا للقصيد وناظما للموشح .وتوافرت له حساسية عالية في السمع والشعور والوجدان عوضته عن فقدان البصر وادراك الأشياء عيانا وأجاد العزف على العود والقانون والطبلة ، وذكر له أنه كان يجيد لعب الشطرنج ويعرف الشخص من صوته أو ملامسة يده وربما عرف طوله أو قصره ونحافته وضخامته وتلك مواهب حباها الله تعالى له فضلا وكرما وعوضا عن فقدان البصر، وأشتهر بصوته العذب الندي في تلاوة القرآن الكريم والمدائح النبوية وقراءة المقامات العراقية بخصوصية شخصيته وطريقة أدائها لفنون المقام وأساليب انتقالاتها من نغم الى آخر ومن مقام الى مقام دونما نشاز أو خلل في الأداء انما بتمكن واحترافية عالية وأستاذية راقية وموهبة أصيلة في هذا الفن العريق لبلاد الرافدين ، وتتلمذ عليه من قراء القرآن الكريم الشيخ محمد رفعت وهو أقرب قارئ يشبهه صوتا وأسلوب قراءة ومن الملحنين الشيخ سيد درويش مجدد الألحان والانغام وفنون الغناء العربي الحديث ، طاف مدنا كثيرة ابتدأ من بغداد الى حلب والشام وبيروت والقاهرة وطرابلس ليبيا واستقر زمنا في الأستانة عاصمة الخلافة في عصرها ليأخذ عن الشيخ أبي الهدى الصيادي الطريقة الرفاعية في التصوف ، وليصبح قارئ السلطان عبد الحميد ومبعوثه في سفارات عدة وشيخ قراء جامع آيا صوفيا ويلقبه الاتراك بحافظ أفندي عثان الموصلي ويبقى لقبه هذا وطريقته في تلاوة القرآن الكريم خالدين في تركيا الى يوم الناس في زماننا. له الحان خالدة في الذاكرة الموسيقية والغنائية العربية اشتهرت بأصوات عراقية وعربية وجهل أكثر الناس نسبتها الى الملا عثمان الموصلي من أشهرها لحن (فوك العرش فوك) ليصبح (فوك النخل فوك) بصوت ناظم الغزالي ومن جاء بعده ، ولحن موشح (يا صفوة الرحمن سكن فيكم غرامي) ليصبح (ربيتك زغيرون حسن) من الغناء التراثي العراقي ولحن (زر قبر الحبيب مرة) ليصبح (زوروني كل سنة مرة) بصوت سيد درويش وكلمات الشيخ محمد يونس القاضي ،ولحن (بهوى المختار المهدي) ليصبح (طلعت ياما احلى نورها) ولحن وأغنية (قدك المياس ياعمري) بصوت صباح فخري ليظن المستمعون أنها من القدود الحلبية والتراث الشامي. وله لحن لأغنية البنت الشلبية أشتهر عالميا في تركيا والهند وإيران وإيطاليا وكازاخستان فضلا عن البلاد العربية. ان القيمة الفنية الحقيقية للملا عثمان الموصلي في إطار التقييم الإبداعي لإنجازاته الموسيقية والغنائية لا تتقيد بمن أخذ ولمن أعطى انما تتحقق في إبداعاته اللحنية والغنائية والانشادية التي تجاوزت عصره لتبقى من خلال أثرها أو وظيفتها الجمالية النوعية خالدة على مر الزمن في الذاكرة السمعية للإنسان العربي تهتز لها أذنه ويطرب لها وجدانه ويتمايل معها بدنه وتنفعل بها شجونه فقد صدرت عن موهبة ذات أصالة وجدة وابتكار.
عذراً التعليقات مغلقة