تعديلات المدونة ومستقبل فقه الموازنات بين الفئات النسائيةالمغربية

22 يناير 2025
تعديلات المدونة ومستقبل فقه الموازنات بين الفئات النسائيةالمغربية

د. مريم آيت أحمد

نوهت العديد من النساء المغربيات  باقتراحات تعديلات مدونة الأسرة الجديدة خاصة في  مسألة بقاء الزوجة في بيت الزوجية بعد وفاة الزوج او الطلاق. 

ولعل هذا الموضوع أحدث لحساسيته جدلا واسعا  بين كافة مكونات الأسرة المغربية التي تضم المرأة والرجل والطفل. فهل تحفظ هذه المقترحات موضوع الدراسة حقوق كل المواطنات المغربيات ؟ أم أن فيها لمسة تحيز لمجموعة نسائية دون أخرى ؟

نعلم جيداً أن الاجتهاد الفقهي  يحتاج الى مقاربة شرعية تشمل برؤية تكاملية غير تجزيئية كل الحقوق والواجبات الشرعية المؤسسة للأسرة في الإسلام.

بما فيها تحميل الرجل واجب النفقة عن الزوجة والأبناء ومن هم في عهدته بعد وفاة الوالد كالأم والاخوات؛ فقد كفل الشرع حق الإرث بنصيبين للرجل بما أوجب عليه من  إنفاق على أهله بعد رحيل الأب  كأمه وإخوته الصغار  وأخواته دون رميهم للشارع .فكان  حظ الذكر بقسميتين  مقترن بواجبه الشرعي كمكلف باستمراية الإنفاق على من تركوا في عهدته  أما أختا عمة جدة ….كافلا لهم بعد رحيل الأب.

ومن تم فالمسألة بالنسبة لنا نحن نساء المغرب مقرونة بمبادئ تشريعية إسلامية تحافظ على سلامة التكافل الأسري برؤية شرعية تكاملية غير تجزيئية بعد غياب الأب . 

وعلى فرضية اعتبار أننا نسير على خطى العدالة  في حماية حق المرأة هل نقبل على أنفسنا بتفاضل الحقوق بين فئة وفئة أخرى من النساء ؟ هل تسعد امرأة بحقوق وتهمش امرأة وكلاهما  مواطنات مغربيات في حاجة لحماية مستقبلهن من ألوان الإقصاء والمظلومية التي قد يتعرضن لها ؟! أم أننا نقر مقترحات تعديلات اعتمدت مقاربة تجزيئية تحيزية لفئة دون أخرى؟

لاشك أن التعديلات ناقشت بشكل واضح وتقييم أحادي الهدف والمآل مصالح المرأة المتزوجة التي يمتلك زوجها بيت الزوجية مما يخول لها حق العيش الكريم وأطفالها بعد الوفاة أو الطلاق.

إلى هنا فالأمر فيه   صون لكرامة الزوجة التي  ربت وسهرت على أبنائها و بيتها ليحق لها استمرار العيش الكريم داخله بعد غياب زوجها. 

لكن المقترحات غفلت الحديث عن نسبة هائلة من النساء المغربيات لايدخلن ضمن هذا الوضع الاجتماعي الخاص بحالات دون أخرى !! إذ لم يتم  التطرق لوضعية المرأة المتزوجة التي تعيش تحت سقف بيت الإيجار ان غاب عنها زوجها ! وقد شاهدنا اليوم في وسائل الإعلام ضرب رجل مسن صاحب بيت لامرأة مطلقة في بيئة معوزة هشة ضربا مبرحا مع ركل لطفلتها الصغيرة بلا رحمة ولا شفقة  لأنها لم تؤدي ماعليها من واجب كراء شهري لغرفتها !!! فهذه التعديلات لم تناقش فئة واسعة من حالة اجتماعية لعازبات غير متزوجات وهن يمثلون شريحة واسعة داخل المجتمع المغربي أي مصير لهن بعد وفاة الأب  ؟؟ التعديلات لم تلامس وضعية أم الزوج المتوفى  وحمايتها من التشرد بعدما كانت تحت كفالته في حياته. بحيث لم تضمن حقها في العيش المشترك تحت سقف بيت ابنها  بعد حيازة الزوجة لبيت الزوجية ؟! فهل يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية متوازنة إذا استثنيا حالات اجتماعية لنساء دون أخريات ؟ 

الاحصائيات السكانية سجلت  نسب النساء العازبات الغير متزوجات في المغرب  فما مصيرهن بعد غياب الأب أو الأخ المعيل لهن ؟ كذلك احصت نسب الأسر التي تسكن في بيوت الإيجار فما وضعن بعد غياب الزوج بالوفاة أو الطلاق مع حالات البطالة والأزواج تحت خط الفقر  ؟!!!

 أيضا لو أحصينا نسب النساء المطلقات والارامل والمهجورات والأمهات العازبات من يكفل لهن حقوقهن وأطفالهن ؟؟ ..

بمعنى أن الحاجة ملحة لوضع راهنية الحالات على اختلاف مستوياتها أمام اللجنة المكلفة حتى تكون الدراسة مستوفية للبيئة موضوع الدراسة؛ والتي تحتاج الى مقاربات متعددة اجتماعيا لمواكبة أوضاع فئات نسائية هشة ينتظرن حلولا  واقعية تنزيلية؛ تحميهن وتدافع عن مصير حقوقهن المجهول المآل على أرض الواقع .

إن تدارس مشروع تعديلات منفصل عن سياقات اجتماعية  واقعية تحمي كل الاطراف دون تحيز او تجزيء ؛ لايمكن إلا أن تساهم  في  خلق  جدل مجتمعي سيؤدي  بتجاذباته الواسعة إلى إحداث نوع من الانقسامات المتباينة الوجهات داخل الأسرة المغربية الكبيرة  الأمر الذي قد يزعزع ثقة الشباب في مؤسسة الزواج ككل !  فحين يطلب من الزوج ترك بيت الزوجية للأم وأطفالها والانفاق عليهم مع منحها حق الحضانة في حالة الزواج برجل آخر وهي في بيته الذي لازال يدفع أقساطه . أيظن المشرع المغربي أن هذا البند اذا حول لقانون سيشجع أبناءنا على تسجيل عقود  الزواج ! لأن عقد  الزواج في هذه الحالة قد يعتبره البعض منهم مهددا لمصير  حياتهم  بعد الطلاق!! . اذ لن يتمكن المطلق بعد خروجه من البيت وتحمله ديون مشتركة لأقساط البيت أو غيره ؛ من تأسيس أسرة جديدة حياة كريمة  مستقبلا !

إن  السياقات الواقعية  لبيئتنا المغربية لايمكن فصلها عن القيم  المبنية على الأخلاق الإسلامية التي تركز على قيمة التكافل الأسري والذي به عشنا تاريخيا ومازلنا  تعيش  به اليوم نحن آلاف الأسر المغربية اليوم . حيث يتكفل الأخ بأخواته وأمه وعمته وجدته … ويتكفل الأبن بزوجته وأمه وعائلته المعوزة من الأقارب داخل بلده وفي غربته …

هذا النوع من  التكافل الاجتماعي  لايمكن مقارنته بوضع  مجتمعات أخرى لها منظومتها الفلسفية والقيمية المغايرة لمبادئنا وثقافتنا الإسلامية . حيث  يتجرد فيها الابن عن تحمل اعباء أسرته بمجرد بلوغه سن 18 عام وخروجه من البيت للدراسة او الزواج!! . فتدخل  مباشرة هياكل مؤسسات الدولة والضمان الاجتماعي على الخط .لحماية من هم في كفالتها من آباء وامهات وابناء قصر تحقق لهم ظروف العيش الكريم. اليوم حين نناقش قضية مكتسب احتفاظ الزوجة ببيت الزوجية بعد الطلاق أو الوفاة . علينا ان تفكر بصوت عال  ونتساءل عن وضع الزوجة في بيت زوجية رهين بإيجار .ان لم يؤديه الزوج اصلا في حضوره يطرده صاحب البيت  بعد ثلاثة أشهر . مابالك بالنسب العالية وهي الأكثر  من النساء اللواتي لا يملك أزواجهن بيوت تمليك  ؟!!!  وما مصير البنات العازبات الغير متزوجات من الأخوات ؟ وما مصير الأمهات اللواتي كن تحت كفالة الزوج  قد ترميهن الزوجة  للشارع بعد وفاته ؟!!!

كم من أخ يتكفل بأمه وأخواته البنات بعد وفاة والده في هذا البلد المغربي الأصيل القيم التكافلية. لكن للأسف  مؤسسات الضمان الاجتماعي المغربي لا تحمي هذا الحق ولا تناضل الجمعيات النسائية حول استحقاقاته حين يتوقف راتب الابن العازب أو المطلق  المتوفى بدون أبناء ؛ لتقفل صناديق الضمان الاجتماعي المغربية  أبوابها في وجه هذه  الفئة الهشة من النساء  وتحرم تلك الأم أو الأخوات العاطلات عن العمل أو الصغيرات في حيازته عن تلك الكفالة .وتحرمهم من لقمة عيش كريم بعد وفاته !!!   وبالتالي فإن النضال الحقيقي لحماية حقوق المرأة ينبغي ان يكون متكافئ الفرص في مستوياته لكافة أنماط الحالات الاجتماعية النسائية دون تحيز لصنف من النساء دون الآخر .فكل امرأة مغربية هي ام لنا وأخت وعمة وجدة وزوجة ابن وزوجة أخ ….. على هياكل الدولة أن تسعى بمؤسساتها الائتمانية الضمانية الاجتماعية للحفاظ على حقها في ضمان العيش الكريم .  إذ لا يقبل   تشخيص ظرفية حالة بعينها  في إطار منفرد وتجعل منه قالبا موحدا يسري على كافة حالات النساء الاجتماعية المغايرة !!

ومن تم فمقاربة هذا التعديل لم تكن شمولية برؤية تشاركية لكافة شرائح وحالات الوضع النسائي لضمان حقوق الأسرة المغربية وفق منظور تكاملي في الرؤى الاستراتيجية بمآلات  متوازنة ومخرجات مناصفة مستقبلية.. ان المقاربات الاجتماعية في مجتمعاتنا العريقة  بعاداتها الثقافية وقيمها  الأسرية التكافلية الجمعية الأصيلة؛ تحتكم لسياقات مغايرة عن الأنماط الحضارية لمجتمعات لا تكافلية. تعتمد كليا على هياكل الدولة الاجتماعية في حماية حقوق الأسرة والطفولة .  فتاريخانية اللحمة الأسرية المسلمة في العالم  لايمكن ان نجتزأ منها اليوم أجزاء مستقلة؛ لخلق واقع  يحتكم  لمنظومة  أخلاقية فردانية مفصولة عن  قيمها التضامنية التكافلية . وإلا سنرى مآلاتها في الشوارع بعد حين إذا لم نحمي حقوق الامهات ما قبل هذا التعديل واللواتي قد  يطردن في الشوارع في ظل غياب  الابن الحاضن لهن ؛ ورفع يد هياكل مؤسسات الدولة عنهن !  وقد نجد ايضا بناتنا العازبات في غياب الاخ  بلا  محضن ولا بيت يحميهن من جور قهر اليتم والعوز !!!. 

أظن أن المرأة المغربية الواعية اليوم برسالة ضمان الإنصاف والعدالة لشقيقتها المرأة .عليها أن تراعي ظرفية كل النساء على اختلاف  حالاتها الاجتماعية ؛ بعيدا عن اي تحيز  يخدم مصلحة فئة  دون أخرى. فإذا كان القانون المغربي ينظم  توزيع التركة وفق الفرائض الشرعية، مما يمنح لكل وارث نصيبه المحدد. فيترتب  على ذلك أن بيت الزوجية يدخل ضمن قسمة التركة ؛ وفي حالة احتفاظ الزوجة به  يصبح ملكية مشتركة في ضمان حق الاستغلال العادل  بين الورثة لتحقيق  الأمن النفسي و السكني لجميع الاطراف  دون تحيز . فبيت سعته ألف متر هو غير بيت سعته 50 متر . وبيت قيمته الملايير هو غير بيت قيمته 200.000 درهم !!  وكما ينص القانون المغربي على ضرورة مراعاة الأوضاع الاجتماعية والإنسانية لكل الأطراف ويفضل حل النزاعات عبر التفاهم أو الوساطة القضائية؛ هنا ينبغي أن تمنح للسلطة القضائية اشتراط ضمان الاتفاق الودي بين الورثة بتوقيع مشترك قبلي؛ تضمن فيه الزوجة حق العيش المشترك لمن كن تحت كفالة الزوج  في بيت الزوجية قبل وفاته أما كانت أو أختا عازبة.

إن عقلية نون النسوة اليوم .تفرض علينا التعامل بحكمة في اهم مكونات المجتمع وهي نواة الأسرة  التي بها نضمن السلم المجتمعي بوعي مؤطر بآليات ودعامات تشريعية شرعية قانونية اقتصادية سوسيوثقافية وفق مقاربات تكاملية؛ واعية بجهود المشرع المغربي في دعمه ومناصرته لحقوقها. مع هندسة مقاييس فقه موازنات حمائية تصون الحقوق برؤية جمعية عادلة غير تجزيئية تفصل الحقوق الفردية عن الحقوق الجماعية؛ الأمر الذي سيعزز سلمنا الاجتماعي الداخلي؛ ويبعدنا عن  خلق ارتباك من نوع جديد لدى جيل الناشئة  من أبنائنا. قد يغرس في نفوسهم عقلية العزوف عن مؤسسة  الزواج خوفاً من إمكانية عدم التمكن من بناء  حياة جديدة  كريمة ما بعد الطلاق لاقدر الله  !! 

فيكون الأسلم  ترك الأمر اختياريا للزوج المطلق فإذا رأى في نفسه قدرة على ترك البيت للمطلقة الحاضنة يفعل ذلك. بالحسنى وعدم نسيان الفضل . وإذا رأى في نفسه أن المصلحة هي إخراج مقابل مالي للسكنى يحكم القاضي بذلك بعد تخييره ب.حيث  لا تكون المدونة الجديدة في هذه المسألة  ملزمة له على ترك بيت الزوجية للمطلقة وجوباً.

في حياته .لاسيما ان الملكية لايتم تحويلها ارثا وتمليكا بالطلاق وإنما بالوفاة !  الأمر الذي سيحول دون تشجيع الأزواج على بناء بيت مستقر في المستقبل . وحرمان الأبناء من شراء بيت الزوجية اصلا تحسبا لمآلات مابعد الطلاق ..!!! الشباب اليوم له من الوعي في ظل زمن الثورة الرقمية ما قد يمكنه من التهرب من كل قيد يؤثر سلبا على مسار حياته المستقبلية .  وبالتالي فالأصل هو ان نربي أبناءنا وفق مناهج تربوية تعليمية تغرس فيهم قيم العدل والنيل والايثار والتكافل والإحسان وجبر الخواطر و عدم نسيان الفضل طبقا لمنهج الهدي الرباني في قوله تعالى (ولاتنسوا الفضل بينكم) .هذا الفضل الذي يوفر به  الزوج  إذا كان  موسرا  مسكنا لطليقته ويجعله في ملكيتها؛ من باب الإكرام لها  وليس من باب  الإلزام ..

فحالات العنف والظلم والقهر هي حالات  شاذة  لا تقاس على المؤمن الذي اقترن إيمانه بعمل الصالحات  . وكما نعلم ان الشاذ لا يقاس عليه ،ومن تم فالقاعدة القانونية لتلائم تنظيراتها تطبيقاتها بتنزيل واقعي سليم  لا بد أن تأخذ حكم الأغلبية والاطراد.مع جلب المصلحة ودرء المفسدة  لجميع مكونات الأسرة المغربية المرأة كما الرجل والأطفال . 

 إن  المكتسبات الريادية  التي حققها المغرب في مناصفة المرأة تحت قيادة العاهل المغربي جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ورعاه . تروم لاصلاح مجتمعي يعمه الأمن النفسي ويحقق الاستقرار الاجتماعي  للمرأة للمراة المغربية صانعة الرجال ؛ وفق منظور استشرافي يحتكم  الى منطق العدالة والإنصاف في الرؤية والهدف والسياق والأنساق والمآلات المستقبلية لمجتمع تشبع بعبق بأجمل  إضاءات  التكافل الأسري  الذي أبهر كل زائر لهذا البلد وهو يسجل أدوار الأسر  المغربية المتلاحمة بموروثها التكافلي التضامني التاريخي العريق.

المقال خاص لصحيفة  قريش – لندن

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com