شيوخ الألحان في الموسيقى العربية.. من تخوم الشام الى بساتين مصر

12 يناير 2025
شيوخ الألحان في الموسيقى العربية.. من تخوم الشام الى بساتين مصر

د. جاسم الدليمي

                                                                        صدحت أصواتهم فوق المآذن وبين المحاريب وترنحت اجسادهم في حلقات الذكر وطافوا بين القرى والارياف والمدن القريبة والبعيدة يؤدون الحانهم بحناجر قوية ماهرة الأداء عذبة الأصوات، يحملون أنغامهم بين ثنايا أنفاسهم ويضربون ايقاعاتهم بأنامل مواهبهم الاصيلة ، محيين ليالي الانس والطرب والذكر والمولد الجميل بأبهى ما يكون وناثرين الفرح والبهجة بين الحاضرين المأخوذين بجمال الابداع ودهشة الفن. تخرجوا في حلقات الانشاد والذكر الصوفي في المسجد الجامع أوفي الزوايا والتكايا والربط الصوفية ولم يدرسوا في معاهد للفن والموسيقى. إنهم شيوخ الالحان وأساتيذ الأنغام.                                                                                         فقد توافر تاريخ الموسيقى العربية منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على مصطلح الشيخ صفة لملحنين كبار في مصر وبلاد الشام لهم ارث تلحيني موسيقي خالد في ذاكرة السميعة والزمن. وهو مصطلح متداول على نطاق واسع في تلك المرحلة وغالبا ما تنحصر دلالته العامة في اذهان السامعين بالمعنى الدال على اشتغال الشيخ بعلوم القرآن والشريعة والتففه بأمور الدين وما يتصل به لينفتح معنى الشيخ بعد ذلك ويضم المشتغلين في مجال الموسيقى المهتمين بفنونها ومقاماتها وانغامها والحانها الذين اجتهدوا في اكتساب علومها وابدعوا فيها وأصبحوا اعلاما لها في مشرق بلاد العرب ولم يبق لهم من معنى الشيخ دينيا سوى الزي الظاهر في هيئتهم وهو الزي الازهري في مصر الذي يتألف من غطاء للرأس وهي العمامة وغطاء للجسم هو الكاكولة والجبة وتحتها الجلابية (الثوب). والعمامة أو الطربوش الملفوف بالشال في بلاد الشام .                        

    أما المعنى الفني للشيخ في اطار الموسيقى وفنونها والغناء وأشكاله فدلالته تنفتح على استيعاب معنى المهارة الفنية وإتقان الصنعة الموسيقية والتمكن من الأشكال الغنائية والمحافظة على أصول التخت العربي  والاجادة والابتكار والتطوير في فنون الموسيقى والغناء وتقديم أعمال فنية تبقى مؤثرة في الذائقة السمعية للناس ومساهمة في تكوينها وخالدة في الذاكرة الشعبية للمجتمع العربي ويتضح أثر هذا المعنى عند المتلقي السميع خاصة من خلال التفاعل الشعوري المريح والتوتر الوجداني الجميل التلقائي  حين يعرف ان العمل الفني من الحان الموسيقار الشيخ فلان وربما بتفاعل أو توتر وجداني أدنى أو مختلف حين يعرف أن العمل من الحان الموسيقار فلان مع التقدير لما يقدمه هذا الملحن الذي لا يحمل صفة الشيخ ، من هنا اخذ مصطلح الشيخ تميزه في وعي المتلقين وتجاوز الهيئة الظاهرة للشيخ في الزي فضلا عن أنه قد تمحور حول دلالة (الأُسطى الحريف) في وعي السميعة وأذهانها.                                                                                                وقد انطلق هؤلاء المشايخ من الموهبة التي حباها الله سبحانه وتعالى لنفوسهم التي فطرت على حب كتاب الله والتعلق به حيث النشأة الدينية التي نشأ عليها جُلُّ هؤلاء المشايخ والتربية المحافظة التقليدية التي تربوا عليها في أطار العائلة ، فيبدأ الواحد منهم بقراءة القرآن الكريم -ارتبط تجويد القرآن الكريم وترتيله بحلاوة الصوت وجماله وعذوبته – بين يدي شيخ معلم أصول القراءة وقواعدها ثم يحفظه أو يحفظ أجزاء منه وحين تتفتح مواهبه في التلاوة يمضي الى دراسة المقامات الموسيقية وتعلم أصولها وقواعدها على شيوخ حذاق مجتهدين في الموسيقى وفنونها ، ويتتلمذ على شيخ موسيقي معروف ليأخذ عنه طريقته في صياغة  اللحن وأداء المقام.        

                وبعد اتقان ما تعلم يسعى الى الارتباط بفرقة المنشدين بطانة شيخ يؤدي معه وبعده منشدا موشحاته واذكاره ويحفظ عنه ذلك اتساعا لمداركه الغنائية ومشاربه الموسيقية وتنوعا في الأخذ عن شيوخ الصنعة واساتيذها ولأجل ان يضبط المقامات والالحان والأنغام والايقاعات عمليا ويتحقق له النضوج الموسيقي الفني في أصالة اللحن وإنشائه والابداع في إقامة النغم واستوائه ويصبح معلما مقتدرا وشيخا يؤخذ عنه.                                                   تلك الطائفة من طلاب الدرس الأول بين كتاب الله نضجت واستوى عودها واينعت ثمارها فمضت في رحلة تلاوة خاشعة لآيات الذكر الحكيم تسمو في مدارج الروح وترتقي بالنغم الشجي وقد جمعت بين اتقان أداء التلاوة المباركة وبين التعبير عن معانيها وتصويرها بنبرات أصواتها للمستمعين فتزرع فيهم خشوع النفس ورقة الوجدان وسمو الخيال وجلال الروح في حضور لمعاني آيات الكتاب الحكيم كأنها تبصرها رأي العين ، فضلا عن أنها تتعالى طربا بالإنشاد الديني في إحياء موالد الاولياء والصالحين. وترسخت خطواتها في طريق الموسيقى وفنون الغناء العربي الأصيل المعبر عن الوجدان العربي في عصره وبيئته ونهضت بأعباء التطور الموسيقي لفنون الغناء العربي وطرائق أدائه وأساليب بنائه خلاصا من الآثار التركية والفارسية وليكون عربيا أصيلا يتناسب وطبيعة الذوق العربي للألحان والانغام .غناء راق في اللحن والكلمة لا اسفاف فيه ولا ابتذال ولا سوقية في المعاني سمو في الذوق ورفعة في الخلق يناسب وقار الشيوخ واحترام صنعتهم ، الحان مبدعة تصدر عن عبقرية موسيقية تعترف لهؤلاء الشيوخ بالأصالة في الابداع والابتكار في الإنتاج لا تقليد ولا أخذ عن أحد انما هو احتراف ماهر لصناعة الانغام والالحان وإقامة سوق الغناء والطرب بأيدي (اسطوات) هذا الفن.                                                             وقد نشأ عن جهود مشايخ الالحان أجيال من السميعة بأذواق راقية تدرك مواطن الجمال في اللحن وتتحسس عذوبة الصوت وتقانة الأداء ومهارة التصرف بالإيقاع والنغم. وتحترم تقاليد السماع حين يأخذها الطرب بين يدي هؤلاء الشيوخ فضلا عن أنهم اكتشفوا أفضل المطربين والملحنين من الأجيال اللاحقة عليهم وتلمذوا لهم ونشؤوا بأحضان رعايتهم. ولنا أن نقدم تعريفات موجزة لأشهر هؤلاء الشيوخ الذين ملأت الحانهم الدنيا وشغلت الناس وهي خالدة في ذاكرة الزمن. 

                                                 

الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب 1793م 1928م :ولد بمدينة قنا في صعيد مصر، ألحقه والده بأحد الكتاتيب التي كانت تنتشر بكثافة في ذلك الزمان، وحفظ القرآن الكريم لينتقل بعدها إلى قاهرة المعز لكي يدرس بأزهرها  الشريف  العلوم الدينية..  وكان شيخاً معمماً ملتحياً حاضر البديهة شديد الذكاء يجيد الإنشاد الديني بكل أنواعه.غير أن الشيخ المسلوب عقب انتهاء دراسته بالأزهر أيقن أن موهبته الموسيقية والغنائية أوسع وأعرض من أن يحدها ويؤطرها بالإنشاد الديني فقط على كبر ساحته وعظمته ليصبح هذا الأزهري الصعيدي رائداً للأغنية المصرية وصاحب مدرسة جديدة في التلحين والغناء، بل عُد المسلوب صاحب أول مدرسة موسيقية وغنائية مصرية في العصر الحديث، واستطاع أن يوائم بين جماليات الإنشاد الديني والابتهالات والتواشيح؛ وبين حيوية غنائية جديدة، وانتقل المسلوب من قالب الطقطوقة إلى قالب الدور ليقرب الموسيقى إلى عموم الشعب المصري. وقد لحن المسلوب وغنى عشرات الأدوار الغنائية الشهيرة مثل  “العفو يا سيد الملاح” و” البدر لاح في سماه ” و “أنعم وزار زاهي الجبين” و إليه أيضا تنسب أغنية ” يا حليوة يا مسليني” التي غناها عام  1850م.           

                                   الشيخ احمد الشلشموني أواخر ق18م – بدايات ق19م كان معاصرا للشيخ المسلوب وهو واحد من اشهر فناني مدرسته الفنية وهو رائد من رواد فن الموشحات وكان كفيفا لكنه من اصحاب الحس الفني المرهف والصوت العذب والعبقرية في الاداء والتلحين ويرجع إليه الفضل في اكتشاف الشيخ سلامة حجازي ويوسف المنيلاوي وكان ذا حديث وشهرة داخل مصر لدرجة انه في اخريات حياته اتجه إلي حفل يحييه عبده الحامولي إلي التوقف عن الغناء لكي يسأل عن سبب ذلك فأجابوه بأن الشيخ الشلشموني قد حضر الحفل مما جعل الجمهور يذهب إليه فترك عبده الحامولي علي الفور تخته وقصد الشيخ الشلشموني وقبل يده اعترافا بفضله ومكانته.                                                                                    الشيخ سلامة حجازي 1852م -1917 م: ولد الشيخ سلامة بالإسكندرية، وكان مؤذنًا في مسجد الأباصيري قبل عصر الميكروفونات، فقويت أوتاره الصوتية. اتجه إلى الموسيقى عبر العزف على آلة “السلامية”. وقد بدأ محمد عبد الوهاب حياته الفنية بألحان حجازي، مثل “ويلاه ما حيلتي”، و”عذبيني فمهجتي بين يديك”، و”أتيت فألقيتها ساهرة”. 

                                                                      الشيخ سيد درويش 1892م – 1923 م :كان والده نجارًا بسيطًا، ألحقه بالكتاب ليحفظ القرآن. استكمل دراسته بالمعهد الديني، وكان شغوفًا بالإنشاد الديني. عمل في بعض المهن البسيطة، وكان يغني لزملائه في العمل، وتصادف أن سمعه أثناء ذلك الممثل أمين عطا، فأعجب بصوته ودفعه إلى الانضمام لفرقة أخيه أمين عطا المسرحية، حيث سافر مع الفرقة مرتين إلى الشام سنة 1909 و1912، فتهيأت له فرصة تعلم الموسيقى من الملا عثمان الموصلي. تتميَّز ألحانه بأنها تعبر عن روح الشعب؛ فعالج مشكلاته في بعض أغانيه مثل “الشيالين” و”السقايين”، كما تفاعل مع ثورة 1919، فأسهم فيها بأغانيه الوطنية والحماسية.                                                                                                         الشيخ إبراهيم القباني 1852م-1927م : ولد بالقاهرة، وعشقَ الإنشاد الديني والعزف. عمل في وظيفةٍ حكوميّةٍ بعد حصوله على الابتدائية، ثم تركَ الوظيفة ليتفرَّغَ للغناء والموسيقى. طرق أنغامًا ومقامات لم يستخدمها أحد قبله، مثل: المستعار والبسنديده والسازكار والأوج. 

                                                الشيخ أبو العلا محمد 1878م- 1927م : بدأ حياته قارئًا للقرآن، ثمَّ اتَّجه للغناء، وكان من القلائل الذين يجيدون أداء المواويل. لمعَ اسمه بين أشهر مطربي عصره، مثل سيّد الصفتي وعلي السبع. اتّجه للتلحين، وصار معلمًا للعديد من نجوم الغناء العربي، مثل أم كلثوم التي تعلمت على يديه في بدايتها، وغنت له العديد من الألحان مثل: “وحقك أنت المنى والطلب” و”الصب تفضحه عيونه. 

                                                        الشيخ درويش الحريري 1881م 1957م: عندما بلغ الثالثة من عمره أرسله والده إلى كتاب الحى ليحفظ القران الكريم فأتم حفظه وهو في التاسعة من عمره على يد أستاذه السيد أبو الهاشم. وبعدها أرسله والده ليدرس في الأزهر الشريف وبعد ذلك استمر يدرس العلوم الدينية واللغة العربية وكان حبه للموسيقى والغناء يمثل جانبا جوهريا في شخصيته؛ فدرس مبادئها على يد الشيخ على محمود ثم واصل دراستها ولما بلغ مرحلة النضج سمح له بالتدريس فتعلم على يديه الكثيرون ممن صاروا مشاهير فيما بعد. ومنهم الشيخ عبد السميع بيومي والشيخ سيد الطنطاوي. كما عمل أستاذا بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية وتخرج على يده الكثير من كبار الموسيقيين الذين صاروا نجوما فيما بعد.                                                         الشيخ زكريا احمد 1896م – 1961م : ولد بالقاهرة، وتلقى تعليمه بالأزهر الشريف، فتلقى العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية وأجاد حفظ وتلاوة القرآن الكريم ومن هنا لقب بالشيخ زكريا. كان يهوى سماع التواشيح الدينية ذات المقامات العربية الأصيلة. وفي عام 1922 اتجه إلى تلحين بعض الطقاطيق. ثم اتجه للمسرح الغنائي بعد أن تعاون مع فِرَق مسرح علي الكسار وعكاشة وعزيز عيد. وقدم العديد من الألحان الوطنية الجادة المميزة مثل “يا أرض رجي وزلزلي عرض الطغاة الظالمين” من فيلم “قراقوش”.     

  الشيخ عبده بقطر1894-  1971م : اسمه عبد الفتاح، والده أحد علماء الأزهر هو الشيخ مصطفى بقطر. حفظ القرآن في السابعة. وتعلَّم الموسيقى على يد الشيخ علي القصبجي، عاصر سيّد درويش وكامل الخلعي وتأثَّر بهما. اتجه للتلحين. ومن أشهر موشحاته “شاغلي بالحسن بدر” و”أنت سلطان الملا”.   

                                                                       الشيخ الحلبي علي الدرويش1882م – 1952م : ولد في مدينة “حلب” في حي “المزوّق” الواقع حول القلعة، وقد عُرف عن والده “إبراهيم” تدينه وانتسابه إلى الطريقة المولوية التي تُعنى بالإنشاد، ومن مداومة حضور طقوس الذكر في الزاوية المولوية تعلق قلبه بالموسيقا والإنشاد الدينيين. دفعه والده إلى الكتّاب ليحفظ القرآن ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ولم يمنعه الدوام في مدرسة دينية أن يتعلم العزف على آلة الناي ودراسة الموسيقا التي تعلم أصولها على أيدي كبار الأساتذة. ظهر تأثير الشيخ “علي” في الموسيقا العربية والإسلامية من خلال رحلاته التي قام بحثاً عن العلم والمعرفة والاحتكاك بالثقافات الأخرى وكذلك في حضوره لأول مؤتمر موسيقي عربي.  

                                                                                         الشيخ الحلبي عمر البطش 1885م – 1950م : ولد في حي الكلاسة في مدينة حلب لأسرة حلبية صوفية شاذلية مهتمة بالفن الف ولحن حوالي ثلاثين ومائة موشحة، ومن موشحاته الشهيرة: يمر عجباً.. كما قام بتلحين عدة أدوار. وتتلمذ على يديه عدة أعلام موسيقيين والمطرب صباح فخري. ومحمد خيري. وصبري مدلل ويعتبر عمر البطش أول من نقل فن رقصة السماح من حلب إلى دمشق ومنه إلى العالم. حيث علمه للفتيات (وكان مقتصراً على الفتية) وطوره وضاف عليه حركات جديدة.                                                                                                    

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com