كاتب مغربي كتب القصة متكئاً على لملمة تفاصيل الحكاية

22 يناير 2025
كاتب مغربي كتب القصة متكئاً على لملمة تفاصيل الحكاية


القاص المغربي علي درويش .. سردية الحكاية والقصد في المجموعتين القصصيتين “بلا ستار”و”الشرفة الخلفية”  

بقلم: الزبير خياط

ناقد من المغرب  

ربطتني منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي علاقة مهنية تربوية مع الأستاذ علي درويش بصفته مفتشا تربويا بمديرية الناظور، وبصفتي أستاذا ضمن المقاطعة التي يشرف عليها. ومن خلال اللقاءات التربوية والزيارات الصفية كنت أكتشف فيه المربي والمثقف المتمكن الجاد، مع اطلاع  جيد على ثقافتين ولغتين عربية وفرنسية. 

وقد استمرت علاقتنا وتحولت إلى صداقة متينة بعد تقاعده، إذ جمعتنا أحيانا مقاهي وجدة ثم صفحات الفضاء الأزرق الذي بدأ الأستاذ علي درويش ينشر فيه بعض كتاباته ومنها نصوص هاتين المجموعتين القصصيتين. ولقيمة ما كان ينشر من نصوص تمنيت أن أقرأها بين دفتي كتاب كما جاء في أحد تعليقاتي الفايسبوكية. والحمد لله أن  تحقق ذلك فصدرت المجموعتان عن دار الطالب بوجدة سنة 2024.

المجموعتان تحتفيان بالحكاية مكونا سرديا أساسيا بعيدا عن النزعة التجريبية الجديدة التي قفزت على الحكاية من أجل تغليب التكسير الزمني، وتنويع وجهات النظر السردية، والتكثيف الوصفي والتهجين اللغوي والأجناسي، وأحيانا تغييب القصد أو الرؤية للعالم ولو تلميحا فنيا. وإذا كان التجريب قد أنقذ القصة/الحكاية من نمطيتها عند محترفي الكتابة الذين مارسوا التجريب بوعي نظري وتمكن فني ورؤية صحيحة للعالم، فإنه عند كثير من قليلي المواهب أربك التلقي، وضيع بوصلة القارئ العادي والمتخصص، ودَلَّ تَغييب الحكاية وتعويمها عندهم والتخفي وراء التكسير الزمني وتعدد زوايا نظر الرواة أو تكثيف اللغة الوصفية على فقر في المخيلة، وفقر في التجربة الحياتية التي يمتح منها القاص أو الروائي الصادق عصارة سرده.  

       

القاص علي درويش إذا أردنا ربطه فنيا برواد القصة المغربية فإنه أقرب إلى ماكتبه محمد زنيبر في الهواء الجديد، ومحمد ابراهيم بوعلو في السقف إذ تحضر الحكاية واقعية ورمزية بطرافتها وتشويقها وقصدها مضمرا وصريحا.

في مجموعة بلا ستار تحكي القصص بلغة فصحى غير مهجنة ولو في الحوارات عن وقائع إنسانية واجتماعية وثقافية مرتبطة بالأمة من خلال مأساة الفلسطينيين في قصة “خطوط اللعبة”. ومرتبطة بالوطن وأعطابه كالعنف الأسري في قصة “عندما تصفح الجراح” وانتهازية السياسيين في قصة “حضرة اللص المحترم”، وطفرة اغتناء تجار المخدرات في قصة “اغتناء فقير”، والبؤس الفكري للمثقف السفسطائي والتنظيري في قصتي “فرسان الهرف” و”لنحرّك الشاحنة”، وصنع المبدعات المزيفات في قصة “باقات من كلام”. 

السرد الحكائي قصدي يرفض هذه الأعطاب ويدينها، وواضح الإشارة سواء من خلال الهوامش أوالإهداءات إذ نقرأ مثلا: “إهداء إلى لبيبة التي استشهدت سنة 1947 بالقدس رفقة أخيها وعشرين من رفاقهم _ من وحي زلزال الحوز ” أو من خلال صياغة بعض العناوين كاغتناء فقير.

الحكايات يؤديها سارد ممسك بخيوط السرد وهو الموجه للحوارات، وتقوم على بناء زمني منطقي حتى في استرجاعاته، واللغة واقعية حتى في غرائبيتها المستمدة من الأحلام والكوابيس التي نقرأ منها هذين النموذجين: الأول من قصة أوراق من تحت الرماد وفيه يقول السارد: “يا إلهي لقد صرت جثة بلا قلب، وبلا ركبتين، حتى لساني الطويل الممتد في كل الاتجاهات خانني ..” والثاني من قصة: “أرواح لا تنام” وفيه يقول: “عيون حمراء يشع منها ضوء مخيف، أسنان كأنياب الوحوش تقطر دما وأثداء الإناث يفيض منها لبن أسود”.

هذه الواقعية ليست دائما حرفية إذ تنفلت أحيانا نحو أبعاد رمزية تحتاج بعدا قرائيا مستغورا من المتلقي، وأبرز نموذج لذلك قصة “نزيل الجبل” التي تحكي عن “عمي البراني” الرجل الغريب المقيم في منحدر الجبل بعيدا عن أفراد القبيلة بعاداتهم، وبعيدا عن أعين السلطة، قريبا من الأطفال لاسيما السارد/الطفل رمز البراءة. عمي البراني الرجل الغامض العزيز النفس ابن المغرب العميق المهمش الساكن بالجبل رمز الوطن الشامخ الراسخ بمقاومته عواديَ الدهر وتقلباته. عمي البراني  يتطلع إلى الشمس رمز الحرية ويحلم مثل النسر أن يحلق في الآفاق العالية. عمي البراني لا يريد أن يكون حشرة، ولا أن يتماهى مع أعراف القبيلة المتهالكة، ولا أن يخضع لسلطة القايد والشيخ. عمي البراني يختفي حين يعلم أن السلطة قادمة إلى مكان إقامته بالجبل. وانسجاما مع أبعاد القصة فإنها كتبت بلغة رمزية بعيدة الإشارة إذ نقرأ منها على لسان عمي البراني مخاطبا الطفل/السارد: “لو أن ذلك النسر ظل مختبئا مثل الحشرات خلف هذه الصخرة هل كان بإمكانه أن يرى الشمس؟؟ الحشرات لا ترى الشمس، لذلك حين تخرج من تحت الصخرة تصطادها الطيور.”.

بلا ستار بناء قصصي متخيل مبني على وجود حكاية تلم شعث السرد وتقوده نحو مقاصده صريحا أو مضمرا.

أما مجموعة الشرفة الخلفية فهي مجموعة السيرة الحياتية التي تكشفها بعض الإشارات التي تلتقي بالحياة الخاصة للكاتب فبعض القصص شخصيتها الرئيسية تحمل اسم علي الذي عاش طفولته الأولى في دبدو، ثم انتقل في فترة مراهقته للدراسة بمدينة وجدة، وعلي في قريته أحب الخيول وتعلق بالأدهم الذي كان يضع صورة له في بروفايله الفايسبوكي. ودبدو كانت مستقرا ليهود المغرب ومنهم “إيلي” رفيقته في المدرسة الابتدائية التي رحلت وسائر أهلها إلى ما وراء البحار. كما أن الإهداء الذي خص عبارة منه للروح الإفريقية التي قومت أولى خطواته قد يكون ذا علاقة بالمرأة الإفريقية: “ما مسعودة” أو “الخادم” التي شكلت عالمه الصغير كما جاء على لسانه في قصة: “صفحة من مجلد الحياة”. 

كتابة القصة انطلاقا من تجارب حياتية حقيقية تعود باكورتها في أدبنا العربي إلى رواية “حكايات حارتنا” لنجيب محفوظ التي جمعت بين الرواية جنسا مصرحا به، وبين القصة إذ وردت الحكايات مرقمة منفردة بحوادثها وبين السيرة الحياتية إذ تنطبق كثير من أحداثها على الحياة الخاصة لنجيب محفوظ.

في الشرفة الخلفية تلتقي القصة المفروض أن تكون عملا متخيلا يرويه سارد لا علاقة للكاتب به وبالوقائع، مع السيرة الذاتية التي يرويها الكاتب عن بعض أحداث حياته. فإذا كان التجنيس يصنفها ضمن القصة فإن صورة الكاتب الحقيقية مع صورة الطفل والأدهم تخلخل يقينية التجنيس المعلن ليكون المؤلف شرفة خلفية يطل منها علي درويش الأستاذ الراشد المثقف على حياته السابقة ببراءتها وعنفوانها وطيشها الطفولي. 

الشرفة الخلفية بوقائعها التي قد تكون خاصة بالكاتب أو بمحيطه في دبدو أو وجدة أو فرنسا التي يتردد عليها كثيرا تحكي عن الفقد في “نواح الغسق” و”غولة تحت الما” وشروط الحرية في “أحلام كلب” وواقع العربي المهزوم في “لكمات غير متبادلة” وعن التخلف في “جلباب الفقيه” وعن اغتصاب الإرادة وتسفيه الحب في “مع سبق الإصرار”، وعن قساوة البادية التي عاشها الطفل/السارد/الكاتب في دبدو في “أنياب الطبيعة”، واصطدام التعليم النظامي بالممارسة الاجتماعية في “تبا لطلاسم العدول”. هي كذلك نكأ لجراح لا تندمل في تجربة الفقد الصعبة التي شهدت غرق الطفل “الطيب”الأخ الشقيق للكاتب.                      

القصة/السيرة “الشرفة الخلفية” يؤديها كذلك سارد ممسك بخيوط السرد وصفا وحكيا وحوارا، وهو الموجه بضمير المتكلم لأحداث الحكاية التي تكشف قصدها إضمارا أو تصريحا، ويستهلها غالبا بحكم انتمائها إلى الماضي/ماضيه بما يدل على هذا الزمن من أفعال وإشارات تعبيرية. واللغة الحوارية في الشرفة الخلفية تميل كثيرا إلى التهجين بالعامية المغربية لشرق المغرب.

المجموعتان تنتميان حسب تجنيس الغلاف إلى القصة القصيرة غير أن الحكاية في الشرفة الخلفية هي حكاية سيرة ذاتية مع إحاطتها أحيانا بما يوهم بأنها متخيلة. والحكاية القصصية في مجموعة “بلا ستار” فيها كذلك كثيرا من تجارب الكاتب الحياتية في طفولته وحياته الطلابية.

اهتمام القاص علي درويش بالحكاية نابع من غنى تجاربه ونضجه الفكري وعمق تأملاته في ما مر من حياته ليجعل من التجربة الفردية تجربة جماعية ينغمس فيها المتلقي ليجد تفاصيل واقعه بمشكلاته وتحدياتها المختلفة.

كتب القاص علي درويش القصة القصيرة متكئا على الحكاية ومقصدها عن وعي بقيمة هذا الفن في التقاط التفاصيل ولملمتها، وإشراك المتلقي في متعتها وتجربتها ومقصدها. 

المقال خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com