التوثيق..من أفلام هوليود إلى تلفون صنع بلاد التيجان الثلاثة

28 فبراير 2025
التوثيق..من أفلام هوليود إلى تلفون صنع بلاد التيجان الثلاثة

 

 د. توفيق رفيق التونجي

هناكً لحد اليوم قنوات تلفزيونية اعتادت على ان تعرض فقط أفلاما أمريكية قديمة وهي ممتعه رغم أننا شاهدناها عدة مرات . كما ان هناك أفلاما أصبحت في عداد الكلاسيكيات التاريخية كما نسميه في الأدب ب “الأدب الرفيع “ و،منها فيلم سبارتاكوس ، بن هور ، الحرب والسلم ، دكتور زيفاكوً ، أنا كارنينا وترأس بوليا وأفلام المقتبسة من الأساطير الإغريقيّة والدينيةً والتاريخية ومئات الأفلام الأخرى. 

لكن هناك أفلاما أخرى والتي كانت حديثة وعصرية وتعكس العصر والزمان الذي أنتج فيها وبتقنيات ذلك الزمان حين نشاهدها اليوم نضحك و نضحك كثيرا حين نراهم يستخدمون تلك التقنيات القديمة التي أخذت مكانها في المتاحف كما هي التلفونات الأرضية القديمة ماركة( إريكسون) الرصاصية اللون. لكنهم جميعا حاولوا توثيق صور الشخصيات والحوادث والملابس وامور اخرى كثيرة، وربما نرى اناسا جل معلوماتهم التاريخية تأتي من صور تلك الأفلام وحتى تصوراتهم لحياة الناس وملابسهم. أتذكر افلاما من الخمسينيات ذات مضامين تاريخية كانت تعرض في السينمات في مدينة كركوك (أطلس، علمين، صلاح الدين، الحمراء، خيام…)، ويروى بان احدهم اكتشف خطأ تاريخيا في ملابس احدى الممثلات فما كان منه الا ان أرسل رسالة الى منتجي الفلم في هوليود يعلمهم عن ذلك الخطأ ،فردّ عليه المنتجون بإرسال بطاقة طائرة للسفر و للحضور الى الولايات المتحدة والغريب انه نسى ان يعود الى العراق.

كما ان ملابسهم تغيرت وطبعا هناك أمور أخرى كثيرة تغيرت مع مرور الزمن . فالملابس تتأثر بالجو والبيئة المحيط وربما بالشعوب التي تتنقل من جراء الحروب والهجرات. اعتقد جازما ان ما نراه من ملابس الرجال وما يسمى في العراق “التنوره”* هي من تأثير روماني – بيزنطي لان رجال المحاربين كان تلك ملبسهم وهي موثقة في التماثيل في الإمبراطورية الإغريقية . ومن ثم نقلها الرومان إلى روما. وانعكس الكثير منه لحد يومنا هذا في الملابس الشعبية التراثية في العديد من دول اوربا في اسكتلندا ، رومانيا، اليونان، إيطاليا والأخيرة تأثرت كذلك بالسروال الشرقي ( الشروال) الذي انتشر بين الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية في اسيا، أفريقيا و اوربا.

ونرى انعكاسات لبس التنوره للرجال بين شعوب دول ومنها ايران، باكستان وأفغانستان وكانت كذلك ملبسا للرجال ابان العهد العثماني والتي تحولت إلى ملبس للرجال في تلك الدول ولحد يومنا هذا. اما الملبس “التنورة ” وبجميع أحجامها وأطوالها العصري منها فقد تحولت إلى ملبس خاص منحصر بالنساء بالنسبة لهم نحن في المستقبل وسنكون نحن بدورنا في الماضي لمن سيشاهدنا بعد مائة عام ،ولكنهم سيرون صورنا وأفلامنا ما لم نستطع نحنً جيل القرن العشرين مشاهدة أجدادنا وحتى صورهم . تخيل ولو للحظة كان باستطاعتنا نحن كذلك رؤية كل هؤلاء الشخصيات التاريخية وهم يتحدثون في أفلام موثقة! التوثيق الآني أصبح ممكنا بعد اكتشاف آلة التصوير اما قبله فكان يعتمد على مهارة الرسام وهؤلاء أمثال ليوناردو دافنتشي ً و مايكل أنجلو ورامبرانت وخرون كثيرون تمكنوا من توثيق البيئة والأشخاص لكن سطوة الكنيسة أدى إلى تمحور الرسم حول القصص الإنجيليّة والشخصيات الدينية وطبعا الملك والعائلة الحاكمة. 

تلك اللوحات لا تزال تزين قاعات المتاحف في معظم مدن العالم اليوم. لهذا نرى بان معظم الشخصيات المرسومة في الشرق تعود بالدرجة الاولى للقادمين من سهول منغوليا والصين وهي منتشرة في صور ما يسمى بالمنمنمات وهي توثيق للحوادث الدينية وإخبار الملوك والأساطير .

وقد شاهدت معرضا لتلك الصور لم يسمح لي بالتقاط الصور داخله في الدنمرك ،وكانت مبهرة حقا خاصة في كون احجام تلك اللوحات صغيرة جدا وهذا ما كنت قد شاهدته في قصور السلاطين العثمانيين، كما في قصر توب قالي قبل خمسين عاما خلت. وقد دأب حكام إيران، خاصة الصوفيين والقاجارين وفترة حكم كريم خان زند وصولا الى العهد الجديد. الجدير بالذكر بان في بداية الثورة الإيرانية ومع تغير نظام الشاهنشاه كان الملالي قد وعدوا بعدم نشر صور لقادتهم حتى على العملة الوطنية ولكن تلك الوعود تناثرت في إدراج الرياح كما نرى انها أكلتها الأيام .

 كذلك توثيق انفسهم في لوحات ولكني شاهدت الكثير من همً من الباحات ومنً أصول تركية وهذا طبعا يعود إلى تاثير الثقافة المنغولية والمختلطة بالصينية والتي جلبت فن الرسم إلى الشرق. نرى تأثيره المباشر في رسومات يحيى بن محمود الواسطي في مقامات الحريري.

من اعمال الواسطي

لكننا نرى كذلك ان المصريين القدماء وثقوا في صور الشخصيات في رسم صورهم على التوابيت وكذلك صور الحائط وطبعا التماثيل وهي قريبة جدا للصور الحقيقية للأشخاص وجرد روية تمثال الملك اخناتون الموحد وهو قبيح بعض الشيء ومع زوجته الجميلة نفرتيتي الميتانيةً صوروا على هيئتهم الحقيقيّة، لا تزال تمثالها في احد متاحف برلين شاهد على جمالها الأخاذ وروعة ومهارة النحاة المصري . 

وكنت قد شاهدت لوحة للسلطان محمد الفاتح في متحف العاصمة  أنقرة حيث دأب السلاطين استقدام الرسامين  من اوربا لرسم صورهم  ولا نرى أي منحوتة أي تمثال للسلاطين لنبذ النحت واعتبارها “صنما ” وبذلك تركوا لنا لوحات مثيرة تصورهم وأبناء عوائلهم فقط من الرجال وربما نجد بعض اللوحات تمثل الحياة الاجتماعية في اسطنبول والقاهرة ومدن المغرب العربي ومعظمها لرسامين أوربيين. لكن ذلك توثيق للحياة الناس حين لم تكن الكامرة قد اكتشفت وقد شاهدت العديد من تلك اللوحات في متاحف اوربا وخاصة في إسبانيا. لقد فرحت جدا حين شاهدت صورة لجدي الملا أحمد في مجلة العربي الكويتية الغراء وهي الصورة الوحيدة له لأنه كان يرفض التصوير إلى درجة تحريمها وطبعا لم يشاهد التلفزيون وكان يرفض ان التقط له صور بالكاميرا القديمة “كوداك” وبذلك خسرنا توثيق فترة زمنية مهمة في حياة العائلة والتي وثقت فيها منذ إنهائك الخمسينات وبأسلوب طفولي الأشخاص. تجدون العدد تحت هذا الرابط؛

نابليون بونابارت

لذا نرى ان هناك فجوة توثيقي كبيرة في صور الشخصيات التاريخية في الشرق ومعظم صورهم وتماثيلهم خيالية وتعتمد احيانا على الوصف. فمن يعرف كيف كان شكل عنتر بن الشداد او هارون الرشيد مثلا.  لكننا نتمكن من مشاهدة تماثيل ملوك حضارات العراق القديم وبكل التفاصيل كما يمكن للمصري اليوم مشاهدة تماثيل وصور ملوكهم. اما ملوك اوربا وحتى نابليون بونابارت فلهم مئات اللوحات. 

أتراهم اي أحفادنا وأحفادهم في المستقبل سيضحكون كذلكً حين يشاهدون تقنيات اليوم في التوثيق والتي نعتبرها متطورة كما هي عليها اجهزة التصوير والفيديو الكومبيوتر والتلفون الخلوي النقال. على الأقل سوف لا يحتاجون لتخيل أشكالنا. قارئي الكريم، وثقوا حياتكم للأجيال القادمة! من يعلم ما سوف يراه أحفادنا وأبنائهم من بعدهم. 

الأندلس ٢٠٢٥

إشارات:

*جاءت كلمة أزار او التنورة معربة من الفارسية ” تَنُورَه”، أو الجَبِيْبَة، النُّقْبَة أو الخرّاطة ويقابلها بالإغريقية، اليونانية  τανυρρίνοςأي الشخص اللابس جلداً طويلاً. وهي ملابس الجنود عند الإغريق والرومان وكذلك هي لباس ترتديه المرأة والفتاة في العصر الحالي يغطي أسفل الجسد وبأطوال مختلفة .

Comments

Sorry Comments are closed

    Breaking News
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com