ملك الصّعاليك الجميل.. عانق نهر سبو الفاتن المجنون، وتوقع عبوره في الغياب
بقلم: مصطفى أجماع
شاعر وفنان حروفي من المغرب
عتبة
عاشقٌ وعلى قدر الكشف يسير.
يسير إلى سراديب الهوى وقصائده تشير،
وما بين اتصال وانفصال موغل في التفكير.
يتأبط مودته … ويعانق فرات الشعر إشراقا
وفي ربوع مباهجه يقيم مأدبة لأهله ويشير.
يَحْدُثُ أن تعلن غابة المعمورة نَعْيَهُ للكائنات، هامسة لشط المهدية بأنَّ الفتى الأنيقَ، جميل الخُلقِ، الذي قدم إلينا بأوراق اعتماده ذات زمان، شاعراً تواقاً، مدثراً بِالحلُم، وبشهادات واعترافات الأصقاع والبلدان البعيدة…
قد ترجل منذ أكثر من عشرين سنة خلت. راحلا في صمت إلى منفاه الاضطراري..ولأنه متأزِّرٌ ببساطة الزُّهاد وأهل الطيبوبة. كان لا يحمل أي إشارة من مركبات التُّرهات.. بل كان نسّاجاً لِبساط فُصول الأمنيات للقصيدة، نائياً عن الأصباغ الرَّخيصة التي بقدر ما تكون غايتها تجمل الوجوه في حينها، بقدر ما تزيدها تجاعيدا وذبولا … فتنمحي مفاتنُ الجمال وينصهر البريق المصطنع.
هو الذي كان يغمس أصابعه في جابيته العطرة بروائح التين والعنب واللّيمون، كي تروض ذائقته الحرف والكلمة، من أجل مناجاة البلابل، و شحارير البحيرة، ونوارس الميناء، وقطعان الأيائل، وقبائل طائر الحسون …
فلكي تفهم العالم عليك أن تتحسسه بيدك. فتدركه، فتسميه.
هكذا رأيته …
كان يُوزع ألوان اللغة أصنافا، وبالأشكال تعدادا، معانقا الربيع الطَّلق أُقحوانا لكل الفصول. وفي رِيَّاضِه يرتب ضياء القصيدة، وعلى ضفائرها يبصم بَسْمَتَهُ بخطه المتفرد.
الطوبي …
هو الذي لوَّن الحُلُم القابع في الأرجاء، وعزف عل الأرغن بترانيم الصبابة، كطِفل مُزدهٍ بشفافية البراءة اتجاه ولادة السؤال…
إنَّه ورقة التوت البرية الشّاهدة والمَشهودة، نغمة من نغمات الحنين. طوافا كان بوضاءة الضوء وبنغم الشعر، يلوح من بعيد للغيم حاملا دهشة الرَّحيل. وفي البال أغنية لمرافئ العشق الفاتنة، مضمخة برسائله وحبه وهيامه المعلن الصريح للحياة.
هو الذي كان للدروب سالكا، كي يعانق سبو الفاتن المجنون، وتلك الخبازات توقع غياب عبوره في الغياب.
هناك، كنت ترتدي معطفك الشتوي بقبعتك وغليونك، ترتب ردهات الوقت، بينما الشوارع غذت تكلى بأسرار الفواجع والمضاجع والمواجع واندثار المراجع …
غاب الطوبي …
عشرون عاماً وسنة خلت. وهو في ملكوته
(فأيُّ سُؤالٍ يُؤَسِسُ في شَبَقِ الْبَرْقِ بَيْتِي
وَأَيُّ شُمُوسٍ تَسُوقُ
إلَى مَلَكُوتِ الْحَمَامِ
تَبَارِيحَ بـــــــــَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــابِي؟)
شهوته يرتبها للفتح، والسَّنا الشَّفاف كان لوعته، غير أنَّ المشهد صار حائرا في تدابير أسرار الأصدقاء، لمدينة تُغالب الرِّيح ويعانقها الضَّباب في مواسم اليقظة والغياب.
عشرون عاماً وسنة خلت،
ذهب الطوبي يستعجل الوقت، ومشارف جلسته حيرى بردهة فندق المعمورة حيث كان ينكب على تتويج رسائل الخلان والأصدقاء، ولمن ينبغي البوح لهم بمودة الألفة وأواصر القرب.
ذهب كمريد إغريقي يرفع عقيرته لتدوين اليقين في مباهج القصيدة. وللقصائد انخطاف الموردين، وللغاوين حلقات الصَّبابة. وهو الفتى الطيب الذي كان يوثق ألقه، ويده تخط مداه وجزره بحروف المتوحد، وبرعشة الفتنة الفاتحة ألق المحو.
وما تلك المسالك، والأهواء، واليقين، والأصابع، والأقواس، والنقط، والصمت، والبياض، والفراغ والأقلام… قد أوغلت في مساكن مراياها للغياب المطلق.
يا مَراعِيّاً عَليلَةً في اندلاع النَّهر العظيم. إن أصل النهر نونٌ
– قال النون وهو من علته يُشيح: إن لك إخوة ماكرين، يغتالون الياسمين. وفي غواية فاتحة الوجود، يختارون الفواجع من أجل ترتيب صفحة الشقاء …
وأنت الذاهب المُذَهَب، المُهَدَبُ. لا زِلتَ هزارا باذخا في جنان الأقحوان، توقظ صبابة الأغنيات في أعراس المراكب، وفي دروب الحضور، وجسارة جسور المواكب …
يا سيد الجمهرة بنسائمها؛
من أحل استهواء ادعاء الأدعياء؟ حتى غدت العشائر وكأنها تملك وصل الأريب والعندليب والأديب … فصارت تتباهى في سبق صرع قطف الأغاريد، وتتبجح بخلق مراتب الزغاريد.
ذاهب … وهذا طيفك حاضر. يتسلل محملا بالحنين والأنين، يَسألني عن كثير من أسماء الرُّفقة والخلان وعن البراري والوجوه، وعن النَّوافذ والشُّرفات والَّشوارع، وعن الوقت بصمته، وعن الصمت بحكمته وعن الكلام بمذاهبه، وعن المهمش والملتزم، وعن البعيد والحاضر وعن الحلم والشعور، وعن الغناء والكلام المنثور، وعن مدينة هي منا ونحن منها، لكنها أبعد عن الرؤية وأقرب الى الرؤيا.
ذاهب .. وهذا الوقت الزاحف غير مكترث، وفي اللغة يبقى النهار شفافا.
ولأنك الجميل الأنيق الذي حَمَلَ البنية والإيقاعات الجمالية في القصائد. فأنت الشَّاعر الحقيقي المتعالي بشقائق النعمان، المتماهي بالنخوة القابض على كرامته حد الاحتفالية بأناقة خطك المتفرد ..
نم قرير العين عزيزي، لأنك عشت كبيرا ومت منسيا.
من أعماله الشعرية :
1- سيّدة التطريز بالياقوت، 1980- دمشق.
2- صعوداً أناديك سهواً ، 1983 – دمشق.
3- أيقونة العاشق المغربي، 1985 – طرابلس .
4- صبوات المجنون، 1986 – بغداد .
5- في وقتك الليلكي هذا انخطافي، 1987- بيروت .
6- مَلِك الصَّعاليك الجميل، 1990 – دمشق.
7- بتول ..بتول 1992 – دمشق .
8- تجربة الإكليل في كمنجات الحريق، 1995 – القنيطرة .
9- أسطورة النورس القتيل،1996 – دمشق.
10- طفولة الوردة، 1996 – القنيطرة.
11- قمر الأندلس الأخير، 1997 – القنيطرة.
12- وقت لجسد النشيد،2003 – الرباط.
13- أنت الرسولة أيقوناتك اندلعت، 2003 – الدارالبيضاء.
14- المجد لينا يا حضرة النبيذ،2003 – الرباط.
15- غواية الكاسيا، 2003 – القنيطرة .
المقال خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن