الاتحاد الأوربي في مفترق الطرق لانقاذ اقتصاده .. فإما الخضوع لمطالب واشنطن أو التودد إلى موسكو
هل تكون عودة بريطانيا للاتحاد الأوربي الحل الناجع له لتجاوز المأزق الذاتي واسترجاع الوضع الاعتباري الذي على وشك الضياع نهائيا ؟
بقلم: عبد العزيز حيون

كاتب وصحفي من المغرب
يوجد الاتحاد الأوروبي حاليا في مفترق طرق خطير يرهن مستقبل المنتظم القاري وأعضائه، ورغم أن هذا الواقع لم تبرز حدته بالنسبة لعموم مواطني القارة العجوز وشركاء الاتحاد، إلا أن واقع حال اقتصاد المنتظم يدق ناقوس الخطر، ما يتطلب إجراءات استعجالية وتضافر جهود جماعية منسقة، بالرغم من وجود أصوات من الداخل تشكك في جدوى استمرار هذا المنتظم الذي يواجه تحديات معقدة وتباينات واضحة على جغرافيته.
وأمام هذا الواقع المر، الذي بدأت تظهر ملامحه على الكثير من اقتصادات الدول الأعضاء خاصة الواقعة شرق القارة، قد يفكر مسؤولو الاتحاد الأوروبي الانفتاح على روسيا بمواردها الجذابة أو في فتح باب الحوار مع بريطانيا للعودة إلى أحضان المنتظم، وهي التي بدورها تحتاج إلى الفضاء الجماعي بعد انسحابها “غير المفهوم ” منه قبل سنوات.
فمن جهة يحتاج الاتحاد الأوربي إلى عضو بارز وقوي، سياسيا على الخصوص، من قيمة بريطانيا، ومن جهة أخرى تحتاج بريطانيا إلى فضاء رحب ومتماسك لاسترجاع قيمتها الاعتبارية في عالم تتنامى فيه قوة دول يرى الكثيرون أنها من سيقود العالم غدا، وأصبحت هذه العودة مطلبا شعبيا لكثير من الاعتبارات بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي مؤخرا أن ما بين 60 و75 في المائة من مواطني البلد يتطلعون إلى العودة .
ويرى الكثير من المحللين السياسيين العالميين أن هيبة الاتحاد الأوروبي ذهبت أدراج الرياح مع ضم دول ضعيفة اقتصاديا في العقدين الأخيرين وبعد ذلك انسحاب بريطانيا من المنتظم القاري، وتستدعي المتغيرات والتحولات العالمية السريعة نهج سياسة ممانعة ضد التوجهات والقرارات التي “تستهدف ” الاتحاد ودوله “القيادية”، والحفاظ على سيادة وكبرياء الاتحاد وموقعه الاعتباري الذي على وشك الضياع في وقت يفقد الاتحاد بريقه سنة تلو أخرى.
إذا ما العمل بالنسبة للاتحاد الأوربي؟، أمام الواقع الداخلي والخارجي الحالي المر، وتراجع الأداء الاقتصادي العام وبروز إكراهات أمنية وسياسية أحرجت مؤسسات المنتظم، دون الحديث عن الخلافات العميقة بين دول الاتحاد التي تظهر في تباين معدلات النمو ونسب التضخم وبالتالي رفاهية المجتمعات، كما تظهر في المواقف المتناقضة للدول الأعضاء حول قضايا استراتيجية، منها أساسا طبيعة العلاقة التي يجب أن تربط الاتحاد بالولايات المتحدة وروسيا والصين وأفريقيا، التي تعد جميعها ركائز واقع ومستقبل العالم.
وإذا تحدثنا عن اقتصاد الاتحاد الأوربي والصعوبات التي تكتنفه، يكفي الإشارة إلى ما أكدت عليه أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، في معرض تقديمها، مؤخرا، خارطة طريق تهدف توجهاتها العامة إلى تعزيز تنافسية الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مع اعتبار أن “الاتحاد الأوروبي يمتلك كل ما يحتاجه للمضي قدما في السباق نحو القمة، ولكن في الوقت نفسه يتعين عليه إصلاح نقاط ضعفه لاستعادة القدرة التنافسية”.
وترى قيادة الاتحاد الأوربي أن ما يطلق عليها “بوصلة التنافسية” هي عبارة عن استراتيجية اقتصادية تتطلع إلى تحفيز الابتكار، وتعزيز الصناعة النظيفة وتقليص التبعية الخارجية، كي يتمكن التكتل من منافسة القوى العالمية، مثل الولايات المتحدة والصين واقتصادات أخرى صاعدة بقوة وثبات.
واعترف مسؤولو الاتحاد الأوربي أن النموذج الاقتصادي الذي اعتمده المنتظم على مدى السنوات العشرين إلى الخمس والعشرين الماضية، ركز على أسس بدأت تتلاشى مع الوقت، منها المراهنة على العمالة الرخيصة من الصين أو من بعض الدول الأفريقية والأسيوية التي تشكل القاعدة الخلفية للمنتظم، والطاقة الرخيصة من روسيا والاستثمارات الأمنية عبر التعهيد (الاستعانة بمصادر خارجية)، وهي أمور ورافعات قد ولت نجاعتها وعادت من الماضي.
وحسب تصور خبراء عالميين، سوف يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى ضخ قيمة مالية كبيرة واستثمار يتراوح بين 750 مليار يورو و800 مليار يورو سنوياً لسد الفجوة مع منافسي المنتظم ولتحقيق نمو اقتصادي جديد وناجع وواعد ومتوازن وتنافسي، وهو ما سيكون صعب المنال.
كما يحتاج الاتحاد الأوربي إلى “عقيدة اقتصادية” متوسطة المدى وطويلة المدى هدفها الأساس تسريع وتيرة اقتصادات الدول الأعضاء، وهو الأمر الذي يحتاج إلى رفع مساهمات الأعضاء بالتساوي وقرارات جريئة قد تكون صادمة لبعض الدول وقد تتسبب في توترات تنظيمية واجتماعية داخلية أو إلى تجميد عضوية بعد الدول التي قد لا تحترم خارطة طريق الاتحاد، أو هناك بعض الدول التي قد تعلن انسحابها من هذا المنتظم الذي يعرف اختلالات اقتصادية كثيرة تعيق مساره العادي، دون الحديث عن الخلافات السياسية التي من الصعب تجاوزها مع احتمال عودة تيارات سياسية وطنية متزمتة إلى الحكم والسلطة.
مع وضع في عين الاعتبار رغبة بعض الأعضاء التوجه نحو الشرق واستعادة الود مع روسيا، أو التوجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية التي تعززت مكانتها باضطراد بعد صعود دونالد ترامب إلى أعلى هرم الحكم، مع تواجد أصوات أخرى تراهن على إعادة بناء الاتحاد من الداخل دون الحاجة إلى جهات خارجية.
وتتمثل مضامين “العقيدة الاقتصادية” للاتحاد الأوربي، التي يتواصل النقاش حولها في مختلف منتديات القارة السياسية والعلمية، في سد فجوة الابتكار مع قوى مثل الولايات المتحدة والصين، وخلق بيئة تشجع نمو الشركات الأوروبية الناشئة وتجاوز إشكال صعوبة الحصول على رأس المال ودعم نمو الشركات المختصة في مجال التكنولوجيا ومواكبة ما يعرف بالصناعة النظيفة و”طاقة ميسورة التكلفة”، موازاة مع تحديث قانون المناخ الأوروبي ومراجعة الضريبة المناخية على واردات ثاني أوكسيد الكربون، والترويج لقانون يتعلق بالاقتصاد الدائري، وتبني استراتيجية جديدة للموانئ، ومواكبة قطاع صناعة السيارات الذي يعرف تنافسية شديدة على الصعيد العالمي.
ويبقى الهدف الرئيسي المعلن للاتحاد الأوربي هو الحد من التبعية الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي، وسط نظام اقتصادي عالمي يرى خبراء الاتحاد أنه يتحول بشكل سريع وهو “ممزق بسبب المنافسة الجيوسياسية والتوترات التجارية”، حيث يواجه الاتحاد الأوروبي منافسة “غير عادلة وأحيانا غير شريفة ” من القوى التي تقيد الوصول إلى أسواقها، في حين أنها تغرق السوق الأوروبية بالسلع التي يتم إنتاجها استنادا لدعم حكومي هائل ومتواصل.
الحل الثاني الذي يراه جزء من الدول النافذة في الاتحاد الأوربي، هو عودة بريطانيا إلى المنتظم القاري، بعد أن أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجري مؤخرا أن 65 % من المشاركين أيَّدوا تنظيم استفتاء جديد للانضمام إلى الاتحاد الأوربي مرة أخرى، بعد أن كانت نسبة مؤيدي إجراء استفتاء جديد في الوقت نفسه من العام الماضي 55 %. وكشف الاستطلاع أن أقل من ربع البريطانيين الآن معارضون لإجراء استفتاء جديد بعد أن كانوا أكثر من 50 في المائة الى عهد قريب .
وفي هذا السياق، أشارت صحيفة “إنديبيندنت” إلى أنه منذ خروج بريطانيا رسميا من الاتحاد الأوربي، وفق ما عرف بـ”بريكست” (Brexit)، وتوقُّفها عن تطبيق قواعده يوم 31 من كانون الأول/ دجنبر من عام 2020، عاش الاقتصاد البريطاني صعوبات جمة وكان لقرار الانفصال تداعيات سلبية تزداد حدة اليوم .
وكلما أجرت مؤسسة استطلاعا جديدا، حسب الجريدة، اكتشفت معه أن عدد البريطانيين النادمين على “بريكست” قد ازداد، حتى أنه انضافت كلمة جديدة (Bregret) على موقع قاموس”كولينز” للغة الإنجليزية، في إشارة إلى “ظاهرة الندم البريطاني” على الخروج من منتظم الاتحاد الأوروبي، وذلك بإضافة حرف (B)، أول أحرف كلمة “بريكست” (Brexit) إلى كلمة (Regret) الإنجليزية التي تعني الندم.
وحسب استطلاع أجرته مؤسسة “ساڤانتا” لصالح الصحيفة البريطانية، فإن أغلب البريطانيين يرون أن “بريكست” هو السبب في تدهور اقتصادهم وتقلص قدرة البلاد على التأثير خارجيا، والشيء الوحيد الذي لا يختلف عليه البريطانيون حاليا هو ضرورة إجراء استفتاء جديد، عاجلا أو آجلا ،لفتح إمكانية العودة إلى الاتحاد الأوروبي.
وموازاة مع واقع بريطانيا، توقع صندوق النقد الدولي صعوبات جمة لاقتصاد البلد الأوربي، وتنبأت المؤسسة المالية الدولية أن يكون الاقتصاد الوحيد من بين الاقتصادات الكبرى في العالم الذي بدأ يدخل ” حالة ركود ” مع تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.6% مع، مقابل تنامي الناتج المحلي الإجمالي في باقي الاقتصادات المتقدمة في أوروبا، وكذا تسجيل ارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 10% لم يسبق أن سجلته لندن منذ أكثر من أربعة عقود.
ورأت الصحافة البريطانية أن ما وصلت إليه بريطانيا يعود إلى معطى سلبي يتمثل في فرض حواجز على التجارة والاستثمار والهجرة من طرف أكبر شريك تجاري للندن، وهو الاتحاد الأوروبي على وجه التحديد، معتبرة أن هذه الصعوبات الاقتصادية ذات التأثير السلبي على المجتمع ستكون لها حتما تداعيات كبيرة على التجارة والاستثمار والناتج المحلي الإجمالي وباقي المؤشرات الاقتصادية المرحلية والسنوية، مع العلم أنه وبسبب إعادة فرض الضوابط الجمركية في أعقاب “بريكست”، فَقَدَت بريطانيا 15% من تجارتها، وتعطَّلت سلاسل التوريد وتراجع الاستثمار مع نقص شديد في العمالة التي كانت تفضل بريطانيا على كثير من دول العالم .
وقد كلف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي (بريكست) الاقتصاد الوطني 29 مليار جنيه إسترليني، أي ما يعادل 1000 جنيه إسترليني لكل أسرة بريطانية، ومن تم فإن العودة إلى الاتحاد الأوروبي أصبحت ضرورية إن لم تكون حتمية.
وتتطلع إلى عودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوربي بروكسيل كما لندن رغم صعوبة حصولها على المدى القريب إلا أنها غير مستبعدة وقد تحدث على المدى المتوسط ،مع الزيادة الكبيرة بين صفوف المؤيدين البريطانيين للعودة، وبالأخص بين الأجيال الشابة ورجال الاقتصاد البرغماتيين، وإن كان أمر العودة لن يحل مشاكل الاتحاد كما بريطانيا بسرعة رغم أن هذا الأمر سيمثل ” مكسبا تاريخيا “لكلا الطرفين.
وفي المقابل يرى مسؤولو الاتحاد الأوربي حاليا أن عودة بريطانيا إلى المنتظم القاري لها راهنيتها لوقف “تهجم” دونالد ترامب وتهديداته المستمرة، على اعتبار أن بريطانيا، التي يوصف اقتصادها حالياً بـ “الاقتصاد المريض”، تملك جيشاً قويا يعوض ضعف الاتحاد في هذا المجال في وقت تتراجع فيه بسطة منظمة حلف الشمال الأطلسي “ناتو” إلى حد ما .
والتقارب بين بريطانيا والاتحاد الأوربي، ورغم أنه تكتنفه الكثير من الصعوبات والعوائق، إلا أنه قد يكون الحل الناجع للطرفين للحد من النزيف الاقتصادي و” التهلهل السياسي” الذي يعلق بأطراف الجانبين، مع الحاجة إلى تقوية العلاقات لأسباب تفرض نفسها بإلحاح أمام صعوبة الجانبين لضمان اتفاقات تجارية ذات نتائج ملموسة ومواجهة الواقع الصعب بتوازن يضمن مصالح الجانبين .
خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة