إيف كلاين.. قفزة في الفن تخترق قواعد الواقع .. عمر السعدون

29 مارس 2025
   إيف كلاين.. قفزة في الفن تخترق قواعد الواقع .. عمر السعدون

رجل في الفضاء!

      إيف كلاين.. قفزة في الفن تخترق قواعد الواقع 

د.عمر سعدون

كنا تلاميذ في ثانوية مولاي يوسف (طنجة) في سنوات التسعينات، ننهل من دروس تاريخ الفن على يد أستاذنا عبد المجيد العروسي، نتأمل ونناقش حول قفزات إيف كلاين، تلك القفزات التي بدت لنا أشبه بمحاولة لملامسة حدود الحياة والموت، ومع قلة الوثائق التي تفسر مقاصده، خطر لنا أنه ربما كان يريد اختبار فكرة الموت، بل الاقتراب منها بجرأة.

ما زلت أذكر كيف كنا في قاعة الدرس، نتجادل بحرارة حول هذه القفزة، نحلل أبعادها ونفكك معانيها، حتى توصلنا إلى أنها ليست سوى عمل فني جريء، لا يعبأ بنتائجه، سواء أكانت خطرة أم عابرة.

اشتهر إيف كلاين بلوحاته ذات اللون الواحد، خاصة ذلك الأزرق النيلي الذي أصبح علامة فارقة في فنه، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل جعل من جسده وسيلة للتعبير، ومن أدائه الفني مغامرة بصرية آسرة. من بين أبرز تجاربه، قفزته في الفراغ عام 1960، التي التُقطت في ضاحية فونتيني-أو-روز قرب باريس، لتصبح واحدة من أكثر اللحظات شهرة في تاريخ الفن.

في الصورة التي خلدت الحدث، نرى كلاين وهو يقفز من مدخل مبنى، لكن اللافت أنه لا يبدو في حالة سقوط، بل كأنه يحلق، كأن الجاذبية لا تمسه، يداه مفتوحتان كالطير، وعيناه مشدودتان نحو السماء، كأنما يعلن أن لا حدود للإنسان إذا أراد التحليق.

لكن الحقيقة لم تكن كما بدت، فالصورة لم تكن توثيقًا مباشرًا لقفزة حقيقية، بل مونتاج فوتوغرافي أعده كلاين بمساعدة المصورين جون كيندر وهاري شنك، وقد نشرها في الصفحة الأولى من صحيفة  Dimanche التي أصدرها بنفسه، يوم  27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، تحت عنوان مثير: “رجل في الفضاء!”

وهكذا، أصبحت هذه القفزة أكثر من مجرد صورة، بل رمزًا لتلك اللحظة التي يبلغ فيها الفن ذروته، حين يخرق قواعد الواقع، ويجعل من المستحيل مجرد احتمال آخر.

في سياق براديغم الفن المعاصر، تُجسد تجربة كلاين تحولًا جوهريًا في مفهوم العمل الفني، إذ لم يعد الفن مجرد إنتاج بصري متكامل، بل صار فعلًا أدائيًا يتحدى القوانين المتعارف عليها، ويعيد تعريف حدود الجمال. هنا تصبح الفكرة أكثر أهمية من الوسيط، ويغدو الجسد ذاته مساحة للتجريب، في محاولة لتحرير الفن من ماديته، والانفتاح على المطلق. قفزة كلاين إذن، ليست مجرد حركة في الفراغ، بل إعلان عن ولادة جديدة، حيث يصبح الأداء الفني شكلًا من أشكال الابتكار ، والفراغ نفسه فضاءً لإعادة بناء 

المعنى.

الصورة:1 و2

إيف كلاين، قفزة في الفراغ، عمل فني أدائي لإيف كلاين، 1960

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com