ترامب لا يريد إسماع صوت أمريكيا في العالم ويفضل اقتصاد المال
“ضربة قوية لحرية الصحافة” .. ترامب يُسكت “صوت أميركا”
بقلم عبد العزيز حيون

كاتب وصحفي من المغرب
استيقظ العالم قبل أيام على وقع خبر مثير للبيت الأبيض انتشر كالنار في الهشيم مفاده أنه تم رسميا اتخاذ قرار وقف تمويل الإعلام الأمريكي “الحر”، في إطار سياسة التقشف التي تنهجها الولايات المتحدة وتقليص التوظيف والحد من صرف الأموال في “أمور ثانوية” لا تفيد المواطن الأمريكي في شيء .
والحد من تمويل الإعلام “الحر” (القوة الناعمة) يهم أذرعا إعلامية قوية للولايات المتحدة الأمريكية واجهت بها على مدى أزيد من سبعة عقود دولا وأنظمة سياسية كان ترى فيها واشنطن “دولا مارقة” و “أعداء الديموقراطية والحرية ” و”الأنظمة المستبدة والمتسلطة” و”الديكتاتوريات المناهضة للشعوب التي تنتهك مبادئ حقوق الإنسان” و” تهدد النظام العالمي والأمن والسلم العالميين ” و”تمارس التسلط والتعذيب في حق الشعوب المسالمة”، وهي مصطلحات وتعبيرات كانت متداولة بشكل يومي في المضمون اللغوي للصحافة المعنية .
كما أن هذا النوع من الإعلام سخرته الولايات المتحدة لإيجاد الذرائع وسدها من أجل حماية مصالحها ومكاسب حلفائها حول العالم، وشن الحروب والتدخل في الدول الأخرى، والتاريخ يشهد على ذلك، وكذا لتبرير “السلوك العدواني” لأمريكا في مناطق متعددة في العالم و للحفاظ على مكانتها الدولية ولبسط سيطرتها أكثر في أماكن استراتيجية، بحيث تصطبغ الدول التي لا تنقاد للسياسة الأمريكية بلون “غير ديمقراطية ” و”الدولة المارقة” .
والأمر يتعلق بإعلام “قوي ومؤثر” في أوج قوته من حجم “صوت أميركا ” و” إذاعة أوروبا الحرة” و”إذاعة آسيا الحرة” وشبكة الشرق الأوسط للبث التي تتبع لها قناة “الحرة” ومنصاتها الرقمية و”أصوات مغاربية ” و”راديو فاردا ” بالفارسية و”راديو سوا” ,”سوا بودكاست”، التي تشتغل تحت إمرة وكالة الولايات المتحدة للإعلام العالمي The United States Agency for Global Media (USAGM) كانت تمثل ،حسب ما كان موكولا لها ،”الصوت الحر لمواطني الكثير من الدول الديكتاتورية” ، قبل أن ينظر إليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كمجرد مؤسسات لها عبء على ميزانية البلام ، ويصدر مرسومًا يقضي بإلغاء تمويل هذه المحطات.
ووقف تمويل الإعلام “الحر” المعني يعني شيئين، إما أن هذا الإعلام قد استوفى ما هو مطلوب منه وانقطعت أسباب وجودها وأن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان تسود العالم الآن، أو أن الولايات المتحدة دخلت منعطفا ماليا/اقتصاديا صعبا وبالتالي هي مجبرة ومكرهة لا مخيرة على وقف التمويلات “الباهظة العابرة للحدود” و”تقليص البيروقراطية الفيدرالية” الذي يهم ثماني وكالات حكومية طلب منها تقليص أنشطتها وموظفيها إلى أدنى مستوى..
وهناك من المتتبعين السياسيين من يعتقد أن قرار دونالد ترامب قدَم لـ “أعداء” ولمنافسيها الأقوياء “هدية كبيرة غير مسبوقة ” ، وهو ما عبر عنه ستيفن كابوس، رئيس إذاعة أوروبا الحرة / راديو ليبرتي (RFI/RL)،الذي خلص الى أن الكثير من قادة “الدول المارقة” سيحتفلون بزوال هذا النوع من الإعلام “الحر”،وهو ما “سيجعلهم أقوى ويجعل أمريكا أضعف”.
وفي السياق ذاته، اعتبرت منظمة “مراسلون بلا حدود” Reporters Without Borders ،أن قرار البيت الأبيض “ضربة موجعة لحرية الصحافة”، وقد يؤثر وقف العمل بالإذاعات المعنية، التي تبث بأكثر من 60 لغة في الكثير من مناطق العالم المستهدفة منها لغات لا يعرفها الناس ك”الشونا” و”النديبيلي” ، على واقع شعوب بلدان “تعيق فيها الحكومات السلطوية عمل الصحافة المحلية والتغطية الإعلامية بحرية” .
كما رأى التنظيم الإعلامي العالمي أن “هذا القرار يؤثر على ملايين الأشخاص، الذين كانوا يحصلون على معلومات مستقلة من خلال محطات الإذاعة والتلفزيون الأمريكية الموجهة إلى الخارج”، وتعطي الحرية “للرقابة التعسفية على الاتصالات”، كما أن قرار البيت الأبيض يضع حدا “للأخبار المحايدة والموضوعية والدقيقة القائمة على حقائق في عالم يغرق في الدعاية والتضليل” ،من وجهة نظره .
والسلطات الأمريكية عكس هذه التقييمات والتعبيرات والانتقادات ترى أن القرار “سيادي” كما أن هذا الإعلام “لا فائدة ولا جدوى منه “، وأن دافعي الضرائب “غير مجبرين على تمويل دعاية متطرفة “، وإذاعات “يسارية متطرفة تتحدث إلى نفسها وتحرق بذلك مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين”.
وقرار إدارة دونالد ترامب يقضي بإقالة أكثر من 1300 موظف في إذاعات معنية مختلفة، أغلبيتهم ليسوا مواطنين أميركيين، بل يقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل العمل، لأن أغلبية الإذاعات توجد مقراتها على التراب الأمريكي.
وأمام هذا الواقع، من سينقذ هذه “الإذاعات الحرة” ؟، وهل ستتدخل دول من الإتحاد الأوروبي لإيجاد الدعم لهذه الإذاعات ؟، والأمر يخص بدرجة أولى “إذاعة أوروبا الحرة” ، إحدى مكونات اتحاد الشبكات الإعلامية العمومية الدولية الثمانية (DG8 -eight international public service media )، التي تضم كندا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان وألمانيا وسويسرا وأستراليا ، والتي تعد قناة “دويتشه فيله” الألمانية المعروفة جزءا منها ،وهي التي رأى مديرها العام بيتر ليمبورغ ، أن قرار إدارة دونالد ترامب “تضعف الحريات وتعزز الاستبداد” ،داعيا ” أوروبا الى فعل شيئً باستعجال “.
قرار الولايات المتحدة يبقى قرارا لا رجعة فيه ،وهو قرار قد يفتح المجال لوسائل إعلام “منافسة مدعومة “من قبل روسيا والصين ودول شرق أوسطية ، ل”ملء الفراغ الإعلامي” الذي سيتركه المرسوم التنفيذي للولايات المتحدة ،التي ترى في المقابل أن هذا النوع الإعلامي استنفذ دوره ،وهو ما أثبتته نتائج استطلاع أنجز سنة 2022 يؤكد أن مواقف شعوب دول عربية وأخرى آسيوية تجاه الولايات المتحدة “عامة قد تحسن” .
ومع هذا القرار ،هل تفقد الولايات المتحدة بسطتها الإعلامية في عالم ،في الوقت الذي هناك من يعتقد أن الممارسات السلبية في الكثير من بقع العالم لازالت سائدة ،ولازالت الكثير من الشعوب “مضطهدة” سياسيا وحقوقيا واجتماعيا واقتصاديا ،كما لازالت واشنطن في حاجة الى كل قوتها الضاربة للمحافظة على وزنها العالمي .
وأمام القرار الذي يرى فيه البعض “مجحفا في حق الإعلام الحر” والبعض الآخر “قرارا صائبا يضع حدا للإعلام الموجه الدعائي” ،تنتهي قصة إعلام كان بمثابة الذراع القوي لواشنطن عبر العالم ،واسدل ستار إعلام صال وجال لسنوات طويلة وفعل ماشاء بلا رادع ، وبالتالي The End (نهاية)و “The Game Is Over”(انتهت اللعبة) و Finish The Mission (خلصت المهمة).
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن