الصراع الوجودي بين الروح والجسد في رواية “ليليث وهايل” لحميد عقبي

25 مارس 2025
الصراع الوجودي بين الروح والجسد في رواية “ليليث وهايل” لحميد عقبي

محمد المخلافي 

كاتب يمني

سمعت اسم بلدي، اليمن، لأول مرة من ليليث. رأيت الطفل حليق الرأس وكأنه يقفز، وأشار لي بيده. صرخت: “ليليث، خذي الطريق عن يمينك، هناك مخرج”. “استغربت لكلامي وترددت للحظات، ثم نفذته. ظل الطفل يركض بمهارة أمامنا، وأنا أخبر ليليث، فتطيعني مبتسمةً حتى خرجنا من الطريق الوعر المخيف. بحثت عن الطفل لكنه اختفى. سمعت تأوه الكلب؛ إنه حي”.

بهذه الكلمات، استهل استعراض رواية “ليليث وهايل” للكاتب اليمني حميد عقبي، المقيم في فرنسا بعيدًا عن وطنه وأهله وجذور هويته. تبدأ الرواية بذكر اسم “اليمن”، مما يثير شعور الحنين والانتماء. هنا نجد أن ذكر الوطن لا يقتصر على كونه جغرافيا، بل هو تجسيد للذكريات والأحاسيس التي تشكل الهوية.

يمثل الطفل حليق الرأس براءة مفقودة، ويعكس الأمل في النجاة والخروج من الأزمات. تعبر إشاراته عن الحاجة إلى التوجيه والإرشاد في لحظات الضياع. يظهر تفاعل ليليث مع الطفل روح التعاون والشجاعة، حيث تستمع لنداأت الراوي وتتبعه رغم ترددها. هذه الديناميكية بين الشخصيات تسلط الضوء على أهمية العلاقات الإنسانية في الأوقات الصعبة.

اختفاء الطفل بعد الخروج من الطريق الوعر يرمز إلى الفقدان، مما يترك الراوي في حالة من الحيرة والفراغ. يعزز هذا الفقدان الشعور بالوحدة والضعف، ويعكس كيف يمكن للذكريات أن تكون مبهجة ومؤلمة في آن واحد.

يمثل صوت الكلب في النهاية الأمل والحياة، حيث يُظهر أن هناك دائمًا جانبًا إيجابيًا حتى في أحلك الظروف. يُذكّر تأوه الكلب الراوي بأن الحياة تستمر، وأن الأمل لا يزال موجودًا رغم الصعوبات.

تعتبر رواية “ليليث وهايل” واحدة من الأعمال الأدبية اللافتة التي تنتمي إلى الأدب الوجيز، إذ تتألف من خمسين فصلاً، كل فصل مئة كلمة. صدرت عن دار أطياف للترجمة والنشر في المغرب العربي هذا العام 2025، وهي الرواية الحادية عشرة للكاتب حميد عقبي.

رغم قصرها، إلا أنها مكتملة وتتوفر فيها العناصر والمكونات الأساسية لكتابة الرواية. تتناول جوانب الحياة السفلى بعد الموت، وتسليط الضوء على مواضيع وجودية عميقة تتعلق بالطبيعة البشرية، مما يجعلها تجربة فريدة تثير التفكير.

 استكشاف الهوية بعد الموت

تبدأ الرواية بلحظة مأساوية، حيث يواجه الراوي تجربة الموت ليجد نفسه في مكان غامض يفتقد الجاذبية. يشعر بشعور عميق من الضياع والفراغ، وتزداد رغبته الملحة في التدخين، التي تتجاوز كونها عادة لتصبح رمزًا لصراعه الداخلي بين حياته السابقة وعالمه الجديد. تتجلى في هذه اللحظات مشاعر الحنين إلى الوطن، إذ يعي الراوي أن الموت ليس مجرد فقدان الحياة، بل هو فقدان للانتماء والهوية. تتسرب البرودة إلى جسده، ويتساءل عمّا إذا تم دفنه بهذه السرعة، مما يعكس شعوره بالانفصال عن وطنه وأهله.

مع تقدم الأحداث، يبدأ الراوي استكشاف هذا العالم الغريب، حيث يسمع صوت صرير باب حديد، مما يثير لديه شعورًا بالخوف والارتباك. يحاول التحليق، لكنه يجد نفسه محبوسًا في جسده، مما يعكس الصراع بين الروح والجسد. يظهر مشهد طفل حليق الرأس تحت المطر، رمز البراءة والفقد، مما يعزز عمق تجربته النفسية ويُبرز شوقه لوطنه.

تتضح تفاصيل المكان حوله، ويبدأ في سماع صوت امرأة تبكي، قد تكون زوجته. تعكس هذه المشاهد الألم الذي يشعر به الآخرون نتيجة الفقد، مما يثقل قلبه بالمشاعر ويجعله يتساءل عن هويته ومكانته في هذا العالم الجديد. تتداخل مشاعر الألم والحنين، ليصبح الصوت الذي يتردد في ذهنه هو صوت الحياة التي فقدها، مما يبرز مدى تأثير الغربة فيه.

عندما يتعرض لآلام جراحية، يشعر بالراحة بعد فقدان بعض الأعضاء، مما يسلط الضوء على فكرة العطاء حتى بعد الموت. تتجلى الأصوات والحوار حول حالته، مما يزيد من حالة التوتر والقلق. تعكس هذه المحادثات الصراع بين الحياة والموت، وتدفع القارئ للتساؤل عن قيمة الوجود.

تتواصل الذكريات بشكل عابر، حيث يحاول الراوي استرجاع لحظات من حياته ويشعر بالشوق إلى وطنه. تتصاعد الأصوات، ويظهر صوت كلب حزين، يبعث في قلبه دفئًا مألوفًا. هنا، يظهر الحب والولاء حتى بعد الفقد، مما يضيف بعدًا إنسانيًا عميقًا لتجاربه.

صراع الزمن

يمثل الزمن في “ليليث وهايل” عنصرًا محوريًا يُستخدم بذكاء لتعزيز التجربة النفسية للراوي. يظهر الزمن بصورة غير خطية، حيث يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل في نسيج واحد، مما يعكس حالة الاغتراب والضياع. يدرك الراوي الوقت كعدو بطيء، حيث تمتد اللحظات إلى ما لا نهاية، مما يعزز تجربة الموت ويجعل الدقائق تتحول إلى ساعات.

تتداخل أبعاد الزمن والمكان بشكل معقد في الرواية، حيث يشعر الراوي بأنه عالق في مكان غير مُحدد، مما يزيد من شعوره بالعزلة. يصبح الزمن عقبة، إذ يُفقد الراوي ارتباطه بذكرياته وماضيه، مما يجعله يتساءل عن هويته. تتكرر الإشارات إلى مرور الوقت، مما يعكس شعورًا بالانتظار والترقب، ويضيف طبقة جديدة من الألم والحنين.

تظهر الرواية أن الزمن بعد الموت يصبح مفهومًا غريبًا، حيث يتساءل الراوي عمّا إذا كانت الحياة تستمر في هذا العالم الجديد. تتداخل الذكريات مع الزمن، مما يعكس صراعه مع الذاكرة والحنين.

دلالات تعكس الهروب والحنين

تتجلى رمزية السيجارة والكلب في الرواية كعناصر تحمل دلالات عميقة. تمثل السيجارة الرغبة في الهروب والبحث عن هوية بديلة، حيث تعكس لحظة من التواصل والحميمية بين الراوي وليليث. الكلب، من جهته، يمثل الولاء والحماية، لكنه يحمل أيضًا دلالات على الخطر. نباح الكلب يعكس قلقًا داخليًا، ويصبح رمزًا للتوتر الذي يرافق الرحيل، مما يُبرز التحديات التي تواجهها الشخصيات.

في سياق الرواية، يمثل المطر شعورًا بالضياع والحنين إلى الحياة. فتح الفم لملء الماء يعكس محاولة الراوي للتواصل مع مشاعره أو للتعبير عن حالة من الغمر والاختناق. إن فعل شرب الماء، رغم عدم القدرة على بلعه، يشير إلى عدم القدرة على استيعاب ما يمر به.

ارتفاع حرارة الفضاء قد يرمز إلى الضغط النفسي والتوتر المتزايد الذي يشعر به الراوي. يعكس هذا الشعور بالاختناق وعدم الارتياح في هذا المكان الغامض، مما يعزز الإحساس بالعزلة والقلق.

صوت الريح الذي يزداد ويغيّر لون الضوء إلى البنفسجي الفاتح يمكن أن يُفسر كعلامة على التغيرات النفسية والداخلية التي يمر بها الراوي. الريح تمثل حالة من الحركة والتغير، لكنها في الوقت نفسه تعكس عدم القدرة على الشعور بالراحة أو الأمان. الصوت المتزايد يضيف إلى شعور الخوف والارتباك الذي يعيشه.

كما تقدم الرواية عدة مشاهد تتعلق بالعالم السفلي، حيث تطرح أسئلة فلسفية عميقة، مثل الجدل بين الملائكة حول لون المداد وسجل القيد، بالإضافة إلى بناء مسكن ضخم لاستقبال الموتى. هذه اللقطات تحمل تنوعًا مناخيًا، تتراوح بين المطر والثلج والحر، مما يخلق أجواءً متغيرة تعكس الصراعات الداخلية للشخصيات.

تظهر بعض المشاهد وكأنها مأخوذة من لعبة فيديو، حيث تتجلى حركة البناء والانهيار، وسقوط الأشجار، مما يعكس الفوضى والارتباك في هذا العالم. يتنقل الراوي بين مشاعر مختلفة، كالقفز والتشبه بالوطواط أو القرد، حيث تطول يديه ثم تقصر، مما يرمز إلى التحولات التي يمر بها في رحلته.

تتداخل الغرائب والأساطير في السياق، مثل البرك الثلاث في النهاية وتحول الكلب إلى ضفدع بأجنحة، مما يضيف عمقًا سحريًا إلى النص. بينما تتعرض شخصية ليليث للهلاك، يبقى لوسيفر، الذي زرع العديد من العراقيل في طريق الشخصيات، حاضرًا حتى النهاية.

تبقى النهاية مفتوحة، حيث لا تُعد هزيمة لوسيفر أو التخلص من مكره حتمية. هذه النهاية الغامضة تتيح للمتلقي حرية تفسير الأحداث كما يشاء، مما يعكس عمق الرواية ويشجع على التفكير النقدي.

مداخلة الناقدة اللبنانية دكتورة دورين

أوافق تمامًا على ما قالته الناقدة اللبنانية الدكتورة دورين في مداخلتها خلال ندوة المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح عبر قناتهم في اليوتيوب. إذ تقدم الرواية تجربة فريدة حيث تنزل الشخصية الواقعية إلى العالم السفلي، مما يُذهل القارئ ويُربك حواسه. تستكشف الرواية عالم ما بعد الموت بشكل شخصي ومباشر. هذا الابتكار في السرد يمنح القارئ تجربة متميزة، ويجعله يتفاعل مع الأحداث بعمق. إن تصوير هذه التجربة الفردية يعكس قدرة الكاتب على تجسيد مشاعر الفقد والانتماء، مما يزيد من تأثير الرواية ويجعلها محط اهتمام.

أرى أن الرواية لا تقتصر فقط على كونها سردًا لوقائع، بل تتجاوز ذلك لتقدم رؤية فلسفية حول الوجود والهوية، مما يعزز قيمتها الأدبية.

أؤكد أيضًا على ما أوردته الدكتورة دورين، أن الشخصية الرئيسية تظل تشعر بوجودها ككيان مستقل حتى بعد الموت، مما يُثير تساؤلات عميقة حول العلاقة بين الروح والجسد.

إن هذه النقطة تعكس عمق الفهم الفلسفي الذي تحمله الرواية. فالشخصية، رغم فقدانها للجسد، لا تزال تحتفظ بشعور الهوية والوجود، مما يفتح بابًا لمناقشة معاني الحياة والموت. هذه الديناميكية تثير تساؤلات حول طبيعة الروح ومدى ارتباطها بالجسد، مما يجعل القارئ يتأمل في مفهوم الوجود والوعي.

أسلوب السرد السينمائي

تتميز الرواية بأسلوب سينمائي، حيث يُشبه كل فصل منها مشهدًا مكتملًا، مما يخالف تقاليد كتابة الرواية التقليدية. تتيح هذه الطريقة في السرد للقارئ أن يتفاعل مع النص وكأنه يشاهد فيلمًا، حيث تتداخل الحوارات والمشاهد والأحداث بشكل ديناميكي.

تتجلى قوة هذا الأسلوب في قدرة الكاتب على نقل المشاعر والأحاسيس عبر تفاصيل بصرية دقيقة، مما يجعل القارئ يشعر بأنه جزء من الأحداث. وقد أشارت الناقدة د. دورين إلى أن هذا الشكل التجريبي يضع النقاد في أزمة، إذ يصعب عليهم تحليل النصوص بالوسائل النقدية المعروفة. وهذا يدفعهم إلى البحث عن أدوات جديدة تتناسب مع طبيعة النصوص السينمائية.

تتداخل في الرواية التقنية السينمائية مع فنون أخرى، مثل المسرح والفنون التشكيلية، مما يثري التجربة السردية. وأكدت أن يد حميد عقبي، كونه مخرجًا سينمائيًا وفنانًا تشكيليًا ومسرحيًا، لم تهتز في خلق مناخ الرواية باستخدام هذه التقنيات. كل مشهد يحمل لمسة فنية، حيث يتم تقديم التفاصيل بشكل يجذب الانتباه، مما يعزز عمق النص ويجعلها أكثر تأثيرًا.

خلفية “ليليث وهايل”

تستند رواية “ليليث وهايل” إلى خلفية مؤلمة تتمحور حول شخصية هايل، الذي هو أخ الكاتب. كان هايل ذكيًا جدًا، لكنه توفي في سن مبكرة بعد معاناة طويلة من المرض الذي أضعف جسده حتى أصبح هزيلاً. لقد شهد لحظات وفاة أخيه، وهذا المشهد ترك أثرًا عميقًا في نفسه، حيث عكس مأساة الفقد والحنين إلى الماضي.

بالإضافة إلى ذلك، يشعر الكاتب بالغربة والبعد عن وطنه، في بلاد المهجر، بعيدًا عن أهله وبيئته التي قضى فيها أجمل أيام عمره. هذه المشاعر المركّبة من الحزن والحنين، إلى جانب تجربة الفقد، دفعت الراوي إلى كتابة هذه الرواية الجميلة.

تتوفر هذه الرواية والعديد من روايات وكتب حميد عقبي على موقع ومنصة نيل وفرات وأمازون كيندل وعدد من منصات عرض الكتب بصيغ رقمية وورقية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com