اليمين المتطرف يرسم ملامح أوربا بريشة ألمانية خشنة

4 مارس 2025
اليمين المتطرف يرسم ملامح أوربا بريشة ألمانية خشنة

: عبد العزيز حيون

كاتب وصحفي من المغرب

آلت نتائج الانتخابات التشريعية بألمانيا، التي جرت قبل أسبوع ونيف، إلى تكتل المحافظين بزعامة فريدريش ميرتس تلاهم حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، وأهم ما ميز نتائج هذا الاقتراع تقهقر الحزب  الديمقراطي الاجتماعي الحاكم وحلفائه في الحكومة حزب الخضر وحزب اليسار ،الذين أصيبوا بخيبة أمل .

وإن كانت هذه النتائج تؤكد على التداول المنطقي على تدبير السلطة التنفيذية بألمانيا وتعكس مواقف المجتمع المواكبة للواقع السياسي للبلاد، إلا أن هذه الانتخابات تتجاوز حدود الدولة لتبين مدى التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي “المطرد” التي تعرفه أوروبا بشكل عام والاتحاد الأوروبي بشكل خاص ،بسبب قضايا راهنة مختلفة تعرفها المنطقة ،منها ماهو مرتبط بالدور الأمني للقارة العجوز في المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا وتصاعد هيمنة الولايات المتحدة على صعيد العالم، وكذا تدفق الهجرات وتنامي الكراهية وتعقد الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة وتقلص حجم النمو وارتفاع مؤشرات التضخم.

ونتائج الانتخابات التشريعية في ألمانيا ،التي انهزم فيها التيار السياسي المعتدل والمساند للاتحاد الأوروبي، تعطينا صورة واضحة عن التطور السياسي الذي تعرفه غالبية الدول الأوروبية التي بدأت  تتصاعد فيها موجة القوميين الذين تركز برامجهم الانتخابية على الدفاع عن المصالح الوطنية والحد من اللجوء والهجرة والتعامل ببراغماتية مع الشركاء الاقتصاديين ، وهناك منهم من يتبنى  خطاب الكراهية جهرا ويدعو إلى “طرد” المهاجرين رغم أن بلادهم في حاجة ماسة الى سواعد المهاجرين بسبب الخلل الديموغرافي المزمن .

 كما أن تفوق كتلة المحافظين (حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي) واحتلال حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف المرتبة الثانية كنتيجة بالنسبة إليه “تاريخية” وغير مسبوقة لحزب من أقصى اليمين في انتخابات اتحادية منذ الحرب العالمية الثانية ، يؤكد تغير المشهد السياسي في أوروبا وتطور إيديولوجيات متعصبة بخطابات مناهضة لكل ما هو أجنبي وداعية الى “المحافظة على خصوصيات”  القارة العرقية بالخصوص .

إلا أن هذا الخطاب الجديد كان سيكون له معنى لو أن أوروبا ، ومنها ألمانيا ، كانت في أوج قوتها وتأثيرها على مجريات الأحداث في العالم، سياسيا واقتصاديا،ولم تكن الولايات المتحدة مسيطرة على زمام الأمور ،خاصة مع صعود دونالد ترامب، وهي الدولة التي  لا تعترف لا بالصداقة ولا بالعاطفة ،وكذا رفض روسيا التعامل مع دول أوروبية إلا بشروط، والأمر يعني كذلك ألمانيا التي ولت ظهرها لموسكو في أوقات عصيبة ،مع بحث الدول الإفريقية التعامل مع دول الشمال إلا وفق مبدأ رابح/رابح وكذا تحول موقع بعض الدول العربية شرق الأوسطية في خريطة الاقتصاد العالمي وتنامي تأثيرها .

وحقيقة ومنطقيا ستكون  كتلة المحافظين بقيادة فريدريش ميرتس، ملزمة بالبحث عن حليف أو إثنين لتشكيل إئتلاف حكومي والتفاوض بشأن ذلك ،وهو الأمر الذي  قد يستغرق  أسابيع أو شهورا عديدة حسب طبيعة المتفاوضين ونسبة تقدم المفاوضات وقد يفرض الواقع التحالف مع مكونات الحكومة المنتهية ولايتها، إلا أن نجاح الكتلة المحافظة واليمينيين يحول بوصلة السياسة في ألمانيا ،الدولة المحورية في أوروبا التي يلتزم سياسيوها ب”حماية الديمقراطية ونبذ الأفكار المتعصبة والعنصرية”.

  ويفرض التطور المعقد للأحداث على الصعيد العالمي على زعيم المحافظين ،فريدريش ميرتس، التسريع بأقصى إيقاع في التفاوض مع الأحزاب الأخرى بشأن تشكيل الحكومة، وأكد بنفسه أن “العالم الخارجي لن ينتظرنا، ولن ينتظر مفاوضات ائتلافية مطولة”، مشددا على أنه يتعين على ألمانيا ، حتى لا تتخلف عن الركب، أن تكون “جاهزة ” للعمل بسرعة  للقيام بما هو ضروري على الصعيد الداخلي” ، ولكي تصبح ألمانيا ،حسب قوله ، “حاضرة في أوروبا مجددا”.

وفي المقابل، تبقى هزيمة الحزب الديمقراطي الاجتماعي، التي وصفت ب”المروعة” رغم أنها كانت منتظرة ومتوقعة، “كارثة غير مسبوقة” لأقدم حزب في ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي إشارة سياسية واضحة تعكس الإستياء المتزايد من الأحزاب الرئيسية في ألمانيا وأن هذا النوع من الخطاب السياسي يتوارى الى الوراء في انتظار تحولات ممكنة على المدى المتوسط قد تأتي باليمينيين الى سدة الحكم بعد الانتخابات التشريعية القادمة ، في وقت يبدو أن خطاب الحزب الديمقراطي الحر الليبرالي، الشريك في الحكومة المنتهية ولايتها ،يتوارى الى الخلف لعدم جاذبيته في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ ألمانيا والقارة العجوز، وهو أمر على العموم يسائل فاعلية الأحزاب الليبرالية ودورها المجتمعي ووزنها في المشهد السياسي العام.

ورغم أن الزعيم السياسي فريدريش ميرتس ،الذي سيقود لامحالة الحكومة القادمة، استبعد التحالف مع اليمين المتطرف، تكهنت زعيمة اليمين أليس فايدل، التي تتميز حياتها المهنية والشخصية بالتناقض و هي تعيش في سويسرا وتتقاسم منزلها مع سيريلانكية الأصل وتعارض في ذات الوقت “المثلية”، أنه إذا استمر المحافظون في رفض التعاون مع حزبها “لتنفيذ إرادة الشعب”، فإن حزب “البديل من أجل ألمانيا ” المتطرف، الذي تقول إنه حزب “تحريري” ولا علاقة له ب”القومية المتعصبة”، سيتفوق” على باقي الأحزاب في الانتخابات المقبلة بعد أربع سنوات من الآن ،معتبرة أن خطاب حزبها يثبت قيمته في المجتمع من سنة لأخرى  .

والكثير من المتتبعين للشأن السياسي في ألمانيا يعتبرون أن نجاح الحكومة الألمانية القادمة رهين بمدى “رضى ” واشنطن على مكوناتها ،ويبدو من مضمون خطاب التهنئة الذي وجهه دونالد ترامب للأحزاب الفائزة أنه يزكي التحول السياسي الجديد ، لكنه في الوقت ذاته ينوه بزعيمة الحزب المتطرف فايدل ويرى بأنها “شخصية مفضلة لدى الإدارة الأميركية الجديدة”، كما رأى أن خبرتها الاقتصادية وإتقانها اللغة الإنجليزية بطلاقة ومظهرها العام ساعدها في كسب حلفاء دوليين، بما في ذلك الملياردير إيلون ماسك، الذي نوه بدوره بزعيمة الحزب أثناء إحدى حملاتها الانتخابية، وقلل ، في ذات الوقت ، من أهمية ماضي ألمانيا النازي.

وهناك من المحللين من يرى أن اليمين المتطرف الألماني بشكل خاص والأوروبي بشكل عام  قد تستهويه توجهات ترامب الأيديولوجية في قضايا “القومية” ومعارضة “سياسات المناخ” والهجرة بشكل عام وحماية “الهوية الوطنية “، إلا أنه لا يتقاسم معه نفس الآراء حين يتعلق الأمر بسياساته الاقتصادية والخارجية ، التي بالطبع لا تتماشى وطموحات المجتمعات والكيانات الأوروبية .

وأمام هذه الوقائع السياسية في ألمانيا وتنامي الخطاب “الحزبي ” المتطرف  يحق لنا أن نتساءل إن كان المجتمع الألماني ميالا فعلا للخطاب المتطرف ويرجح كفة الأحزاب التي تتبنى هذا الخطاب القديم/الجديد؟، سيكون الجواب على غير ما هو منتظر ” لا” ، والسبب هو أن الإعلام الألماني في مجمله روج، خلال الحملة الانتخابية وبدعم من أشخاص يحملون الجنسية الألمانية وهم من أصول روسية وفق ما أشارت إليه تقارير صحفية عديدة ، لافتراءات وأباطيل وأكاذيب تجعل من الهجرة واللجوء السبب الأساسي في تدهور الاقتصاد .

كما أن فئة من الإعلام الألماني غطت عن حقائق تضع الأصبع عن أسباب فشل السياسات الاقتصادية ، والذي كان مرده الى ارتفاع فاتورة المواد الطاقية وتخريب خطي أنابيب الغاز “نورد ستريم 1 و2” لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا الغربية سنة 2022 ،و كذا تداعيات إغلاق السوق الروسية العريضة والمساعدات السخية لبرلين لأوكرانيا ودعمها “اللامشروط وغير محسوب العواقب ” لأوكرانيا ضد روسيا ،وبالتالي ليس بسبب الهجرة المكثفة كما ادعى الإعلام الموجه  .    

في هذا السياق، يرى خبراء ألمان أن الخطاب المتطرف الذي واكب الانتخابات وسبقها وروج له في الإعلام كان “مدروسا بعناية” خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي ،والهدف منه هو ” جعل جزء من المجتمع الألماني أكثر تقبلا لهذا الخطاب رغم ارتباط بعض أعضائه بالنازيين و مؤامرات تهدف للإطاحة بالدولة “، مع العلم أن الألمان من أصول أخرى والمهاجرين هم عصب الاقتصاد ويشكلون نسبة مهمة من المجتمع ، خاصة الذين ينحدرون من تركيا وسوريا وأفريقيا  .

وليست النتائج وحدها مثيرة للاهتمام بعد فوز المحافظين والمتطرفين، بل إن نسبة المشاركة، التي بلغت نحو 83 في المائة وهي غير مسبوقة منذ إعادة توحيد ألمانيا سنة 1990، في حد ذاتها تطرح الكثير من علامات الاستفهام ، لسبب مهم يرتبط بقضية الهجرة ورغبة الناخبين في الإدلاء برأيهم في الموضوع ،سواء من الرافضين أو القابلين، وذلك بعد حملات استقطاب مكثفة دفعت الناخبين إلى التصويت بأعداد أكبر للدفاع عن مواقفهم” ،حسب الخبير المرجعي فيرنر كراوس .

وأمام هذه التحولات ذات الدلالات السياسات العميقة ما على الدول العربية والإفريقية ،بشكل عام، إلا تأسيس تحالفات متينة وإعادة ترتيب علاقاتها واختيار استراتيجياتها بتبصر وبعد نظر حتى تكون هذه السياسات ناجعة وفاعلة ومفيدة في عالم لا تعترف فيه الدول النافذة إلا بما يراعي مصالحها .

خاص لصحيفة قريش – لندن

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com