رأي في اللغة ..«6»
بين الصدر والأصْدَرَين..
د ايمن فضل عودة
يقول خير الرسل سيدنا محمد ﷺ في حديثه:
{فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ} (صحيح البخاري، كتاب العلم)
كم أراها هذه الكلمات صادقة ومنطبقة على عصرنا هذا، فإنه عصر ضياع القيم، حيث لم تعد الحقيقة حقيقة، ولا العدل عدلا، ولا العلم علما، ولا الأخلاق أخلاقا، في بعض كل هذا أو كثير منه. وأصبح كلٌّ مع حقيقته التي ترضيه، وعدله الذي يرتضيه، وعلمه الذي يخدم مصلحته ويبغيه؛ فضُيعت الأمانة، ولا عجب!
ومن ضياعها أن يُوظّف العلم لخدمة أجندات سياسية أو دينية أو اجتماعية، تهدف إلى سلخ المجتمع عن القيم والأخلاق الدينية الحقّة، وتشويه التاريخ وكتابته من جديد، والترويج لكل هذا بما أُتيح من وسائل الإعلام والاتصال، بدعاية دجالية كاذبة، ضاربة بالحقائق العلمية والتاريخية عُرض الحائط.
وإذ نحن في مثل هذا الضياع، لم يكن للعربية أن تسلم من كل هذا العبث والتشويه وقلة الأمانة العلمية والمهنية، خدمة لبعض المصالح الدينية والسياسة والشخصية. فترى ثلة ممن يدّعون العلم والمهنية اللغوية من ذوي الألقاب الأكاديمية وممن ينتسبون لجامعات معروفة عربية – كنت قد ذكرتهم في مقال سابق- يبيعون لغتهم وعلمهم والألقاب التي يحملونها في اللّغة، بثمن بخس دراهم معدودة، خدمة لمصالحهم الذاتية؛ لتنطبق عليهم أقوال سيدنا محمد ﷺ، إذ كانوا ممن ضيّعوا الأمانة، حيث وُسّد أمر اللغة إليهم وهم من غير أهله.
وإن كنت عزيزي القارئ تعجب مما أقول، فلعل هذا العجب ينمحي ويزول، إذا أعلمتك بأن هؤلاء ينزلون حكما بخطأ كلمة (أصْدَرَيهم) في مثل قولنا: رجعوا يضربون أصدَريَهم. ولعل ما يعيد إليك العجب ويزيد، أن تراهم يقولون بأن كلمة (أصْدَرَيهم) هي جمعٌ خاطئ لكلمة (صَدرهم) والصحيح أن تكون (صُدورهم).
ذلك قولهم بألسنتهم، أُفٍّ لهم ولأقوالهم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا! ولما كانت الحرب قد استحرّت بيننا وبينهم في مسائل اللغة، فما كان لنا أن نمرّ على هذا العبث دون ردّ وتعقيب وأن نطوي الكشح عنه دون توبيخ وتأنيب، وكنّا من قبل قد أذقناهم كأسا دهاقا من الصدّ ودنّا طافحا من الردّ، فزدنا عليه مستدركين على قولهم هذا بما يلي:
شتّان- من حيث المعنى- الصدرُ والأصدران، فهما شيئان مختلفان؛ فالصدر معروف، وأما الأصدران فهو لفظ وأمر غير مألوف، له وفق المعاجم معنيان، أولها: عرقان من الأوعية الدموية تحت الصُّدغين، والصُّدغ هو ما بين العين والأذن، والثاني: “المَنكِبان”، والمَنكِب هو طرف الكتف، أي مجتمَع أعلى الكتف مع العضُد. وفيه تقول المراجع اللغوية ما يلي:
جاء في التاج:
(والأَصْدَرَانِ: عِرْقانِ) يَضْرِبانِ (تَحْتَ الصُّدْغَيْنِ) ، لَا يُفْرَدُ لَهما واحدٌ. [تاج العروس (12/ 297)]
وفي معجم اللغة العربية المعاصرة:
أَصْدَرُ [مفرد]:… عِرْقٌ تحت الصُّدْغ، وهما أَصْدران. [معجم اللغة العربية المعاصرة (2/ 1277)]
وفي اللسان:
“والأَصْدَرَانِ: عِرْقان يَضْرِبَانِ تَحْتَ الصُّدْغَيْنِ، لَا يُفْرَدُ لَهُمَا وَاحِدٌ. وَجَاءَ يضرِب أَصْدَرَيْه إِذا جَاءَ فارِغاً، يَعْنِي عِطْفَيْهِ، ويُرْوَى أَسْدَرَيْهِ، بِالسِّينِ، وَرَوَى أَبو حَاتِمٍ: جَاءَ فُلَانٌ يَضْرِبُ أَصْدَرَيْهِ وأَزْدَرَيهِ أَي جَاءَ فَارِغًا، قَالَ: وَلَمْ يَدْرِ مَا أَصله؛ قَالَ أَبو حَاتِمٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ أَصْدَراهُ وأَزْدَراهُ وأَصْدغاهُ وَلَمْ يعرِف شَيْئًا منهنَّ. وَفِي حَدِيثِ الحسَن: يَضْرِبُ أَصْدَرَيْه أَي منكِبيه،وَيُرْوَى بِالزَّايِ وَالسِّينِ … ” [لسان العرب (4/ 449)]
وجاء في معنى المــَنكِب ما يلي:
“ومَنْكِبا كلِّ شيءٍ: مُجْتَمَعُ عَظْمِ العَضُدِ والكتِفِ، وحَبْلُ العاتِق مِنَ الإِنسانِ والطائرِ وكلِّ شيءٍ. ابْنُ سِيدَهْ: المَنْكِبُ مِنَ الإِنسان وَغَيْرِهِ: مُجْتَمَعُ رأْسِ الكَتِفِ والعَضُدِ، ” [لسان العرب (1/ 771)]
وحسْبنا من كل هذه الأقوال ما ورد عن العرب من أمثال، حيث قالوا: رجع يضرب أصدَرَيهبمعنى :رجع خاليا لم يبلغ وَطَره ولم يحصل على نُجعته ومقصوده، وهو بمعنى قولهم: رجع بخفي حنين. وبهذا يتأيّد كل ما ذهبنا إليه من توضيح وتشريح.
استدراك:
وعليه نستدرك على هؤلاء ونقول:
قل: «صدور» جمعا للصدر، وقل: «أصدران» بمعنى: «المنكبان» أو «ما تحت الصدغين من عروق»؛ ولا خطأ!
فعلى أي معنى من هذين المعنيين أخذنا بالأصدرين، ينجلي أمامنا الفرق ما بين «الصدر» و«الأصدران»؛ فلا علاقة بينهما من حيث المعنى.
نعم، إنها خيانة اللغة وقلة الأمانة العلمية، التي تدفع هؤلاء للقول بخطأ كلمة (أصدَرَيهم) والتي هي من صلب العربية وفصاحتها؛ إذ لم يكلّفوا أنفسهم – وهم علماء العربية وحماتها – بضعَ دقائق للتدقيق والبحث والرجوع إلى المراجع اللّغوية؛ كل هذا رغم تنبيههم لأخطائهم، فأخذتهم العزة بالإثم.. فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل الخطّاؤون منّا!
وليكن شعارنا دائما: يسّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفّروا، وسّعوا ولا تضيّقوا، ففوق كل ذي علم عليم!