رأي في اللغة ..5
بقلم: أيمن فضل عودة

العربية لا يحيط بها إلا نبيّ.. فقُل صَحَت وقُل أَصْحَت
لغويّ كبير، وأديبٌ أريب، صاحب معجم في اللغة العربية، نُجلّه ونحترمه، أفنى حياته كلَّها في مَتاهات اللغة وسَراديبها، ينقّر عن شواردها ويجمع شَعاعها، فهو عالم وكاتب ومحرّرٌ ومقدمُ برامجَ إعلاميةٍ؛ يُطلّ علينا عَبر وسائل الإعلام المختلفة، بخفّة دمه وأسلوبه الأخّاذ، طَوْرا يعلمنا من اللغة ما شاء، وتارة يُتحفنا بثقافته العامة مما يشاء.
ويُحسَب لصاحبنا أنه من غير المتزمّتين لغةً، يُشيد بأعمال مجمع اللغة العربية المصريّ في نهج التوسيع والتيسير اللُّغوي، والتصدّي لأصحاب الـ «قل ولا تقل»، كما سبق وأشدنا بهذا نحن. ويُحسَب له كذلك، أنه متواضع، فبالرَّغم من علمه الواسع، يعترف بأنه قد يُصيب وقد يخطئ في اللغة، وأن الصوابَ في اللغة ليس ذا وجه واحد، وأنّ اللَّجاج في مسائل التصويب والتخطيء مردّه إلى التعصّب والتزمّت لوجه دون آخر.
بيدَ أني، وعلى الرُّغم من كل هذا، أراه يناقض نفسه أحيانا، إذ أجده متشددا، بل ومخطئًا -بعض الشيء- في بعض المسائل اللُّغوية، فيُخَطِّئُ أحيانا ما لا يجانب صوابا من أوجه الصواب، ويغلق أمامه في التوجيه كل الأبواب، ويجعل غياهبَ الخطأ مقرّه في الانتساب. ولو تحرّيتَ – عزيزي القارئ- هذه المسألات، لوجدتها مما دخل المـــُعْجَمات، أو أقرّت بصحتها غيرُ واحدةٍ من المؤلّفات؛ فتَراها مما خرّجه ووجّهه وصوّبه وصحّحه مجمع اللغة العربية المصري نفسُه، ولم تعُدْ هي خطأً في اللغة ولا من قبيل التُّرَّهات. وهذا مما قد يُحسب عليه!
فبَيْنا صاحبُنا الجليل يتعقب أخطاءً شائعةً لبعض كاتبي الخواطر، قال بعظمة لسانه ما معناه: «صَحَت السماءُ: خطأ! بل الصحيح: أَصْحَت السماءُ فهي تُصحِي»!!!.
ولما كنتُ على علم بأن التعاقب (التناوب) بين صيغتي «فَعَلَ» و«أَفْعَل» للدّلالة على المعنى نفسه كثيرٌ في اللغة، وهو باب سيكون لنا فيه صَولات وجَولات مستقبلا؛ قلتُ في نفسي: فلْأفحصْ هذه المسألة! وعندَك عزيزي القارئ ما جاء:
نقلتْ بعض المراجع والمعاجم اللّغوية عبارة «صَحَت السماء» عن الفرّاء، حيث جاء:
« قال الجوهري: الصَّحْوُ: ذهاب الغيم، وأصحت السماء، فهي مُصْحِيَةٌ. وقال الكسائي: فهو صحو ولا تقل مُصْحِيَةٌ، وحكى الفرَّاء: صحت السماء: بمعنى أصحت.» [المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 182-183)]
كما نقلت جوازَها عن الزمحشريّ فيما يلي:
«قال الشيخ أبو جعفر: وحكى الفراء صحت السماء بغير ألف، قال الزمخشري: وكذلك كل ما يضاف إلى السماء يجوز فيه فَعَلَ وأَفْعَلَ، كقولهم: رَعَدَت وأَرْعَدت، وبَرَقَت وأَبْرَقَت، ومَطَرَت وأَمْطَرَت.» [تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح (ص: 482)]
وعليه، فـصَحَت السماء وأَصْحَت؛ كلاهما صحيح!
فأوردتها المعاجم المعاصرة الصادرة عن مجمع اللغة المصري وعلمائه على النحو التالي:
«(صَحا) النَّائِم صحوا اسْتَيْقَظَ والسكران وَنَحْوه أَفَاق وَقيل صَحا الْقلب تيقظ من هوى أَو غَفلَة وَالسَّمَاء تكشفت سحبها وَالْيَوْم وضحت شمسه وَقل برده.» [المعجم الوسيط (1/ 508)]
«صَحَتِ السَّماءُ: تفرَّق سحابُها وانقشع، ذهب الغيمُ عنها “صحا اليومُ: وضحت شمسُه وقلَّ بَرْدُه”.» [معجم اللغة العربية المعاصرة (2/ 1273)]
وفي محيط المحيط لبطرس البستاني جاء:
«صحت السماء تصحو صَحوا وصُحُوّا (واويّ) ذهب الغيم عنها.» [محيط المحيط / ص 500 ]
وفي المعجم الأساسي، الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، جاء:
«صَحَت السّماء انقشع سَحَابها » [ المعجم الأساسي، ص723]
استدراك..
بعد كل هذا أقول: رويدَك صاحبَنا! فإلى من يُصغي ابن اللغة في (صَحْو السماء)، وإلى من يلجأ؟ أإلى الفرّاء والزمخشريّ والبستانيّ وعلماء المجمع المصريّ، ومعاجم اللغة؛ أم إليك وما صنعتَ بيديك؟ قلتُ وأقول: فليسمعْ لهم، لأنهم على نهج التوسيع أوسع، وعلى نهج التيسير أيسر، وعلى نهج التصحيح آمن؛ وهو ما ندعو إليه، وسنظلّ.
ولا غَروَ، أنْ فات عالــِمـَنا الجليل كلُّ هذا، ولم يسلم فيه من مَعَـــرَّة الخطأ، فإن لم تشفع له سِنُو عمره (أو سِنينُ عمره، وكلاهما صحيح) في اللغة، فقد شفع له الشافعيّ رحمه الله بقوله: «إنّ العربيةَ لا يحيطُ بها إلا نبيّ»؛ وليس صاحبُنا بنبيّ! وإن كان ما ذهب إليه من قبيل الرأي، وحسِب نفسه فيه إماما، قلنا فيه ما سبق وقالته العرب من قبل: أَنْ قدْ لا تَعْدَمُ الحسناءُ ذاما!
وعليه، أستدرك على صاحبنا وأقول: قل: أصْحَت السّماء، وقل: صَحَت السماء، ولا حرج عليك!!!
وليكن شعارنا دائما: يسّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفّروا، وسّعوا ولا تضيّقوا، ففوق كل ذي علم عليم، والعربيةُ لا يحيطُ بها إلا نبيّ!!!