عزيز باكوش

كاتب من المغرب
هناك عدة أسباب ذاتية وأخرى موضوعية أجبرتني على تأجيل قراءة رواية جوروج أورويل 1984 زمنا طويلا رغم شغفي الشديد بها، وإعلانها بعشق ضمن سلة احتياجاتي القرائية الأشد اشتهاء ومتعة في المقام الأول أجد خوفي من انتهاء لذة قراءتها سريعا. ذلك أن بعض الكتب تكون أشبه بكنز لا يقدر بثمن حيث تنتاب المرء رجفة هلع من فقدان متعتها بمجرد إنهاء قراءتها. يحدث هذا رغم عامل الانشغال الدائم والوفاء بالتزامات أخرى لليومي المعيش تجعلنا نؤجل القراءة إلى إشعار مناسب قد لا يأتي أبداً. وهنا لابد من استحضار الدور الذي يلعبه المزاج وأطواره المتغيرة الخارجة أحيانا عن نطاق السيطرة.
إن قراءة كتاب في حاجة دائما إلى مناخ سيكوسوسيولوجي معين، يطبعه الصفاء الذهني الخالص الذي يبقى غالبا غير متوفر على النحو المرغوب. ولأن الرغبة في التعمق والاستمتاع الكامل بالنص هي الهدف الأسمى من كل قراءة. فإن تأجيلها حتى حلول الصفاء الذهني الكامل يأتي كمحاولة مبعثرة لإيجاد وقت كافي للاستمتاع بها. والحقيقة، أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه التعلق بعالم رواية ما، والخوف من فقدان سحر انتظار قراءتها. فينتج تأجيل قراءة الكتاب الذي نحب دون قصد. والبدء بقراءة كتاب جديد. إذ دائما هناك إصدارات ومؤلفات حديثة تسرق انتباهنا.
ونقرأ على ظهر غلاف الرواية الصادرة عن دار التنوير في 280 صفحة ترجمها عن الإنجليزية الحارث النبهان ” على مدى سنوات طويلة، ظلت رواية “1984” لجورج أورويل تستعاد. يعود إليها الكتاب الذين يتحدثون عن الديكتاتورية والأنظمة الشمولية. وعلى مدى سنوات طويلة، ظلت هذه الرواية حية وتقرأ بسبب جاذبيتها الأدبية وبسبب الصورة السياسية التي قدمتها. تقدم هذه الرواية التي صورت بطريقة تنبؤية مجتمعا خضع لديكتاتورية فئة تحكم باسم “الأخ الكبير”، الذي يمثل الحزب الحاكم، ويبني سلطته على القمع والتعذيب وتزوير الوقائع والتاريخ باسم الدفاع عن الوطن والبروليتاريا. حزب يحصي على الناس أنفاسهم ويحول العلاقات الإنسانية والحب والزواج والعمل والأسرة إلى علاقات مراقبة، تجرد الناس من أي تمرد وتخضعهم لنظام واحد، لا ينطق على مسؤولي الحزب.”
في العام 1949 في محاكاة مذهلة مع الخيال الأدبي، كتب جوروج أورويل روايته المذهلة التنبؤية – 1984 – وكان عمره 39 سنة أي بفارق استشرافي للمستقبل يناهز 35 سنة. وحتى ندرك طابع دهشة الإبداع عند جوروج أورويل، دعنا نفترض كتابة رواية الآن وهنا، نتحدث فيها عن الوضع السياسي العام القائم في عالمنا 2025 تحمل عنوان 2086 ” ونسابق الزمن لمعرفة رجع صداه، وأيضا المصير والمآلات. وندرك كذلك سطوة العمل الأدبي الذي يجعلنا نرافق بطله وهو يعيش تائها يتجول في غابات بقاع البحر، ضائعا وسط عالم وحشي كان هو نفسه الوحش فيه. كان وحيدا، وكان المستقبل غير قابل للتصور ” ص30
تدور أحداث الرواية في مجتمع شمولي يحكمه “الحزب” بزعامة “الأخ الأكبر”، الذي يمثل الوجه المستبد للسلطة المطلقة. ونستون سميث، بطل الرواية، هو مجرد موظف بسيط في وزارة الحقيقة مكلف بتزوير الحقائق التاريخية لتتناسب مع أيديولوجية الحزب. هذه المهمة تجعل منه شاهدا حيا على تشويه الحقيقة وتحريف التاريخ، مما يدفعه إلى التمرد الداخلي على هذا النظام القمعي.
لكن ما يفجعنا في الرواية حين يسائل الكاتب المستقبل على لسان البطل لنفسه ” لمن عساه يكتب هذه المذكرات؟ خطر هذا السؤال في باله على نحو مفاجئ ليجيب على الفور ” من أجل المستقبل”. من أجلنا نحن الآن. من أجل الذين لم يولدوا بعد. وللمرة الأولى أدركنا كما تنبأ لنا حجم ما هو مقبل عليه. وذهلنا كيف للفرد أن تتواصل مع المستقبل؟ أما ما سمي بوزارة الحقيقة، فهي في الحقيقة مجرد بناية كالحة كأنها شقوق في واجهة قلعة عتيقة، بعد أن هجرتها الشمس من مدة ليست بالقصيرة.
مشروع الرواية سينطلق عندما يغمس وينستون الريشة في الحبر ذات مساء من عام 1949″ ثم تردد ثانية واحدة. لقد كانت الكتابة على الورق فعلا حاسما. بدأ الكتابة بأحرف صغيرة متعثرة الرابع من نيسان، 1984. استند ونستون بظهره إلى الخلف. وتملكه إحساس بالعجز الكامل. فقبل كل شيء، لم يكن يعرف على وجه اليقين، أن هذا العام هو عام 1984 فعلا. لا بد أنه قريب من ذلك. لأن ونستون كان واثقا تماماً من أنه قد بلغ التاسعة والثلاثين. وهو يعتقد أنه مولود في عام 1944 أو في عام 1945. فالتحديد الدقيق لأي تاريخ مضى عليه سنة أو سنتان أمر مستحيل في هذه الأيام.” ولم يكن ما كتبه هذه المرة بذلك الخط المتكسر الغريب نفسه. لقد انساب قلمه رشيقا فوق الورق الصقيل. فكتب بحروف أنيقة كبيرة، يسقط الأخ الأكبر، يسقط الأخ الأكبر، يسقط الأخ الأكبر، يسقط الأخ الأكبر يسقط الأخ الأكبر كتبها مرة بعد مرة، حتى ملأ نصف الصفحة.”
حين شرع الكاتب على لسان بطله وينستون يدون ما يعانيه محيطه من تجليات القمع والاستبداد ومظاهر متعددة لعالم يهوي نحو الأجراف العميقة من البؤس السياسي والتردي الاجتماعي. كان يكتب للمستقبل يشعرنا بمآسيه علنا نستفيق ونرعوي. لكن الأمر يبدو مستحيلا في حد ذاته! فإما أن يكون المستقبل شبيها الحاضر، أو أن يكون مختلفا تماما عنه، فتصبح هذه الكتابة المشقة عديمة المعنى.
والملفت في هذا العمل الأدبي المذهل، أنه رغم قدمه في الزمان والمكان، وطابعه الإبداعي التنبئي، فإن أحداثه ووقائعه، أعطابه وانزلاقاته، أحلامه وانتكاساته ما تزال قائمة في عالمنا المعاصر كما أشعرنا بها الكاتب في الأربعينيات من هذا القرن. الأخطر من ذلك، أنها تفاقمت وارتفع منسوب شراستها الى درجة مخيفة حقا. لأجل ذلك كله. فالرواية ليست منجزا أدبيا استشرافيا فحسب، بل مرآة صادقة ومتفردة تعكس واقعا حضاريا زئبقيا قد نكون اليوم أقرب من يتنفس مآسيه ويحيا فواجعه أكثر مما تصوره المؤلف نفسه.
عندما وضع يده على مقبض الباب، لاحظ ونستون أنه قد ترك دفتر المذكرات مفتوحا على الطاولة كانت عبارة”يسقط الأخ الأكبر” مكتوبة على امتداد الصفحة بحروف كبيرة إلى حد يكاد يجعلها مقروءة من طرف الغرفة الآخر. كان ذلك عملا بالغ الحماقة. لكنه أدرك حتى في غمرة ذعره، أنه لم يكن يريد إفساد ذلك الورق الجميل بإغلاق الدفتر قبل أن يجف الحبر ” ص24
على أن هذه المراقبة اللصيقة للفرد، ليست عابرة بل دائمة وتجد عيونها وجواسيسها في كل مكان، مما يجعل الخصوصية شيئا من الماضي. وهذا الوضع ازداد تفاقما في عالم اليوم ونستطيع الجزم وقد مر إلى السرعة القصوى الآن. تتحدث الرواية عن” التاريخ المزور. فالحزب الحاكم يضطر إلى تغيير الماضي باستمرار، بحيث يتلاءم دائما مع روايته الحالية من أجل السيطرة والتحكم وغسل دماغ الأنصار وإحكام السيطرة الأيديولوجية، مما يطمس الحقيقة ويخلق الالتباس في المشهد السياسي. وهو ما يحدث اليوم تماما في معظم الأنظمة الشمولية العسكرتارية. وفي تيمة الحب والخيانة التي يجسدها البطل وينستون سميث حين يقع في حب جوليا، نكتشف أن الحب الحقيقي في هذا المجتمع لا يمكن أن يصمد أمام قوة النظام الذي يبدع في تلفيق التهم من أجل إبعاد كل التهم، وتمجيد الشبهات. وهنا تحديدا، نجد لهذه الواقعة سيناريوهات متعددة في واقعنا الراهن. ويبدو ذلك الوضع أكثر خطورة حتى الطفولة وحلم البراءة التي تطفح به تم تجنيدها خدمة للأخ الأكبر ” مشهد طفلي السيدة ” إنهما صاخبان، لقد خاب أملهما لأنهما لم يستطيعا الذهاب لرؤية الشنق وهو يحدث كل شهر تقريبا. ، وقد كان حدثا له شعبية ويطلب الأولاد دائما الذهاب لرؤيته “. وكان من المقرر أن يجري شنق عدد من السجناء الأوراسيين المدانين بجرائم حرب في الحديقة العامة تلك الليلة. والأسوأ من هذا كله. هو أن تلك المنظمات كمنظمة الجواسيس مثلا كانت تحولهم تحويلا منهجيا إلى متوحشين صغار لا سبيل إلى ضبطهم. وهذا لم يكن يخلق لديهم أي ميل إلى التمرد على انضباط الحزب على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، كان الأطفال يعبدون الحزب وكل ما له علاقة به الأغاني المواكب والرايات والرحلات والتدريب على النماذج الزائفة من البنادق والهتافات بالشعارات وعبادة الأخ الأكبر ص28
لكل ذلك فرواية جورج أورويل- 1984- ليست مجرد عمل من عمق الخيال الأدبي الاستيهامي وانتهينا وإنما صرخة مدوية سابقة لأوانها، وماركة مسجلة في تصوير الإلهام وإلباسه المعنى لكل العصور والأزمنة حتى المستقبل منها. إنها بالمعنى ذاته تحذير صارخ من الماضي للحاضر الذي لا ينتهي. وناقوس خطر يحذر من مخاطر الحكم الاستبدادي الظالم وتجليات القمع والحصار في السياسة والاقتصاد، والتلاعب بالحقيقة تحت الطلب الحزبي بغطاء الأيديولوجية الحرباء في كل العصور. من هنا، نستطيع الجزم أن مفهوم الأخ الأكبر الزعيم الأوحد، والمجاهد الأكبر، والتفكير الشيزوفريني يعيش معنا ونتنفس هواءه. بل أصبح جزء من الثقافة المتحكمة في عالمنا المعاصر. كما تنبأ به في 1946 جورج أورويل.
في ص 280 نقرأ «ونستون وهو يتذكر أن هذا سوف يستمر إلى الأبد. سيظل الوجه حتى يداس دائما. وسوف يظل الهرطوقي عدو المجتمع حتى يهزم ويذل مرة بعد مرة سوف يستمر وأسوأ منه أيضا. التجسس والخيانات والاعتقالات والتعذيب والإعدامات والاختفاء لن تتوقف كلها أبدا. سيكون عالما من الرعب بقدر ما هو عالم من الانتصار. وكلما صار الحزب أقوى كلما صار أقل تسامحا. كلما ضعفت المعارضة كلما اشتد الطغيان سوف يعيش غولدشتاين وتعيش هرطقاته الى الأبد “
هذا هو العالم الذي نعد له العدة يا وينستون. عالم مصنوع من انتصار بعد انتصار من فوز بعد فوز. ضغط لا ينتهي على عصب السلطة. أرى الآن أنك بدأت تدرك كيف سيكون هذا العالم. لكن ما سوف تفعله في النهاية يتجاوز الفهم سوف تقبله وترحب به وسوف تصبح جزء منه “
على الضفة الأخرى، تبزغ الرواية عملا أدبيا عظيما. وقد لا نقتنع بتصنيفه ضمن الأعمال الأدبية الرائعة العابرة للشساعات بحق، لا يقتصر الأمر على الصياغة الأدبية السلسة والأسلوب السردي الممتع اللذيذ المتقن فحسب، وإنما بقدرتها الخارقة على جذب انتباه القارئ منذ البداية حتى الاقتناع بأن” الأخ الأكبر يراقبك الآن وقد أنهيت قراءتك الرواية.
التفاصيل الدقيقة ملهمة والصور الغنية والحبكة البالغة التوليف بديعة وبالغة الاشتهاء. الأبعد من ذلك، يمكن اعتبارها شهادة دامغة على رفعة الأدب وسموه حين يبدع في تصوير تجليات التخلف في تدبير شؤون المجتمع. ويبرع في رسم صور النفوذ والسلطة بوصفها الأسلوب الوحيد والأوحد لخلق الاستقرار السياسي والاجتماعي ضدا على القانون والقيم الإنسانية السامية. كما يتوفق بنجاح يفوق التصور في تصوير استبداد السلطة، وتقديم مشاهد بيروقراطيها وهي تقوم بتدبير دواليب الحكم. ثم تحليل تأثيره السلبي لذلك على الفرد والمجتمع.
والحقيقة يجب أن تقال دائما. لقد وجدت نفسي كقارئ في ورطة حقيقية. ذلك أن التوظيف الذكي لسيناريو الوقائع والأحداث جاء سلسا شيقا ممتعا ولذيذا بقدر ما كان مأساويا وفجائعيا. وفي الوقت ذاته رسائل مشفرة تحمل أكوادها داخلها. وإنذارا شديد اللهجة لمن يهمهم الأمر. فلا مجال للرمز الذي يصعب معه فهم الأشياء وفتح الرسائل فكل كلمة مشحونة تحمل أطنانا من المواد القمعية ونيترات الاغتراب التي عاشها وينستون وأشعرنا بها لتلافيها. لكننا صممنا آذاننا، وبتنا نعيشها وبقساوة فاقت التوقعات.
ولعل أبرز ما يميز رواية 1984 هو التعاطي بتأمل فلسفي عميق مع الواقع السياسي في شراسته وضراوته واعتناقه مبدأ الاستبداد آلية لدفة القيادة. الرواية توظف مفاهيم مثل “شرطة الفكر” و”إعادة الكتابة” و”ازدواجية التفكير” لتسلط الضوء على الوسائل التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية في السيطرة على العقول وتدمير الفردية.
حتى العلاقة بين وينستون وجوليا يمنحها الكاتب بعدا إنسانيا. “الحب بينهما لم يكن مجرد شعور رومانسي فحسب، بل كان فعل تمرد في وجه السلطة التي تسعى إلى مصادرة كل شيء، حتى المشاعر. على الرغم من حذرهما ومحاولاتهما البائسة للهرب من قبضة الحزب، فإن النهاية تبرز قسوة النظام الشمولي الذي لا يترك أي مجال للحرية الفردية”.
وهذه بعض الخلاصات الرئيسية: التلاعب باللغة والتاريخ: يوضح أورويل كيف يمكن للأنظمة الشمولية التحكم في الماضي من خلال تزوير الوثائق التاريخية، وبالتالي تشكيل الحاضر والمستقبل. “اللغة الجديدة” لم تكن مجرد أداة للتواصل، بل وسيلة لقمع الفكر المستقل.
القمع النفسي والجسدي يظهر من خلال تصوير التعذيب الذي يتعرض له ونستون في وزارة الحب، تكشف الرواية عن قدرة الأنظمة الشمولية على كسر الإرادة الإنسانية وتحويل الأفراد إلى أدوات طيّعة تخدم مصالحها. التضحية بالذات من أجل الأيديولوجيا: النهاية المأساوية لونستون تعكس انهيار الروح البشرية أمام القوة المطلقة، وتُظهر مدى الاستسلام الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان عندما يُحاصر من جميع الجوانب.
بعض الاقتباسات ذات الصلة :
في ذلك الوقت ما الغاية من شراء هذا الدفتر بدولارين ونصف؟ كانت حيازة ذلك الدفتر أمرًا خطيرًا، حتى لو لم يكن قد كُتب فيه أي شيء بعد.”
في أغلب الحالات. ولا وجود لمحاضر الاعتقال. يختفي الناس بكل بساطة، خلال الليل دائماً. يُحذف اسمك من السجلات… كل سجل فيه شيء منك يُحذف ويزال. تُلغى حقيقة أنك وجدت في يوم من الأيام، ثم تُنسى. يزول الشخص كأنه لم يصبح عدماً، وكانت الكلمة الملائمة لوصف ذلك “يبخر“!
“استولى عليه نوع من الدهشة بلحظة من الزمن، وراح يكتب بخط متعجل مضطرب: سوف يطلقون النار علي، لا أيام، سيسقطون النار على رقبتي من الخلف، لا أيام، ليسقط الأخ الأكبر، إنهم يطلقون النار على الرقبة من الخلف دائماً، لا أيام، ليسقط الأخ الأكبر.استند بظهره إلى كرسيه وهو يشعر ببعض الخجل من نفسه، ثم وضع قلمه. وفي اللحظة التالية أجفل أجفلاً عنيفاً كان ثمة من يقرع الباب.“
“جلس ساكناً مثل فأر مذعور… راوده أمل، واه، بأن من يقرع الباب، كائناً من يكون، سوف ينصرف بعد المحاولة الأولى، لكن هيهات! تكرر القرع على الباب. أسوأ الأشياء على الإطلاق هو أن يتأخر. كان قلبه يدق مثل طبل، لكن وجهه ظل خالياً من أي تعبير، بفعل العادة التي ترسخت زمناً طويلاً، ثم نهض، وتحرك متثاقلاً صوب الباب.” كان صوت سيدة فسدت آلة غسيلها وأرادت مساعدة ونستون
” عندما عاد إلى الشقة، عبر ونستون سريعاً من أمام الشاشة وجلس إلى طاولته من جديد. ما زال يحك رقبته. كانت الموسيقى المنبعثة من الشاشة قد توقفت. وبدلاً منها، راح صوت عسكري حازم يقرأ شيئاً بلهجة فيها نوع من التلذذ البهيمي. كان ذلك وصفاً لتسليح القلعة العائمة الجديدة التي جرى إرساؤها مؤخراً بين أيسلندا وجزر فارو.”
” كان هذا كله نوعاً من لعبة عظيمة ممتعة بالنسبة إليهم. كانت ضراوتهم كلها موجهة صوب الخارج، صوب أعداء الدولة، صوب الأجانب والخونة والمخربين، وصوب من يعتقد بأنهم مجرمون. وكان أمراً شبه عادي أن يخاف الأشخاص الذين تجاوزوا الثلاثين من أطفالهم. ولهذا سبب وجيه حقاً لأنه لا يكاد يمر أسبوع واحد من غير أن تنشر صحيفة التايمز مقطعاً يصف كيف سَمِعَ طفل متلصص متنصت… كانوا يسمونه عادة «الطفل البطل» عبارة خطيرة فوشى بوالديه إلى شرطة الفكر”
” كان الشيء الذي يهم ونستون في كتابة مذكراته اليومية. لم يكن هذا أمرًا غير مشروع (لا شيء غير قانوني… لأن القوانين ما عادت موجودة أصلًا). لكن كان من المعقول الظن أن عقوبة ذلك إن اكتشف، هي الموت أو خمسة أو عشرون عامًا في معسكر الأشغال الشاقة على أقل تقدير.”
” إن رؤية غولدشتاين، أو حتى التفكير فيه، كانت أمراً يثير الذعر والحنق على نحو تلقائي. لقد كان غولدشتاين موضوعاً للكراهية. لكن الأمر الغريب هو أن تأثير غولدشتاين لم يكن في حالة تراجع على ما يبدو رغم أنه مُحتقر مكروه لدى الجميع، ورغم أن نظرياته كانت تتعرض كل يوم، بل آلاف المرات في اليوم، للدحض والتحطيم والتسخيف على منصات الخطابة والشاشات، وفي الصحف والكتب، وتُعرض أمام أعين الجميع على أنها قمامة لا قيمة فيها. كان ثمة على الدوام أشخاص مغفلون جدد ينتظرون أن يقعوا في إغوائه. ولم يكن يوم واحد ليمر من غير أن تميط شرطة الفكر اللثام عن جواسيس ومخربين يعملون وفق توجيهاته.”
كان عاجزاً عن منع الإحساس بنوبة من الذعر. شعر بإغراء يدفعه إلى تمزيق الصفحات التي كتبها والإقلاع عن المشروع برمته. لكنه لم يفعل ذلك لمعرفته بأنه لا جدوى من تمزيقها. فلا فرق سواء كتب «يسقط الأخ الأكبر» أو امتنع عن كتابتها. وسواء تابع كتابة هذه المذكرات أو لم يتابعها”استولى عليه نوع من الشعور بلحظة من الزمن. وراح يكتب بخطٍ متعجّل مضطرب. سوف يطلقون النار علي، لا أيام، سيطلقون النار علي وقبتي من الخلف. لا أيام، ليسقط الأخ الأكبر، إنهم يطلقون النار على الرقبة من الخلف دائماً لا أيّام، ليسقط الأخ الأكبر.” أسند ظهره إلى كرسيه وهو يشعر بيضاً أخجل من نفسه، ثم وضع قلمه. في اللحظة التالية أجفل إجفالاً عنيفاً. كان ثمة من يقرع الباب.
جلس بعض الوقت محدقاً في الصفحة أمامه ببلادة. تغير ما تبثه الشاشة إلى موسيقى عسكرية صادحة. وكان من الغريب أن ونستون لم يفقد فيما يبدو قدرته على التعبير عن نفسه فحسب، بل نسي أيضاً حتى ما كان يعتزم قوله في الأصل. لقد أنفق الأسابيع الماضية في الاستعداد لهذه اللحظة. ولم يخطر في باله أبداً أنه سوف يحتاج إلى شيء، عدا الشجاعة! أما الكتابة نفسها فسوف تكون سهلة. لم يكن عليه إلا أن ينقل إلى الورق ذلك الحوار المضطرب مع النفس المستمر من غير نهاية، الذي يجري في رأسه منذ سنوات .”
وبرأي النقاد فإن “رواية 1984 لجورج أورويل من أكثر الأعمال الأدبية تأثيرا في القرن العشرين وما تلاه، وتظل ذات صلة مدهشة بالعالم حتى يومنا هذا. تصور الرواية عالما طوليتاريا تحكمه سلطة شمولية مطلقة بقيادة “الأخ الأكبر” حيث يُراقب الأفراد باستمرار، وتُحرّف الحقيقة، وتُسحق الإرادة الفردية. وسنتوقف هنا عند أبرز سمات هذه الفترة الحالكة من التاريخ البشري حيث التحكم في الفكر «شرطة الفكر”. وهي مؤسسة منذورة لمراقبة كل تحركات المواطنين وأفكارهم، بحيث يصبح مجرد التفكير ضد النظام جريمة تُعرف بـ “الجريمة الفكرية ان جريمة الفكر لا تفضي الى الموت جريمة الفكر هي الموت ذاته“. وهذا الوضع ما يزال قائما حتى اليوم. عزيز باكوش دبي 2025