لحظات من الذاكرة
سناء إدمالك

كاتبة من المغرب
اقترب موعد غروب الشمس… هدأت شوارع المدينة من ضجيج الناس، وشلت حركة السيارات والدراجات … وسرعان ما أوقدت الأنوار في الأزقة، وارتفع صوت الآذان معلنا موعد صلاة المغرب.
اجتمعنا في سرعة حول مائدة الإفطار المستديرة، نتربص قدوم الأطباق الشهية والصحون الممتلئة… وفي لحظة تأمل وترقب، بدأت الأيادي تتخاطف على “الرغايف” الساخنة الغارقة في بحر الزبدة والعسل، والعيون تتربص قطع اللحم بزليفات الحريرة المغربية الحمراء لونها، لعل هناك من حظي بقطعة لحم زائدة.
لقد قطعنا شوطا صعبا… تزاحم وصراع، وتأهب لتدافع وديّ من كل جهة، بطون جائعة وأعين لا تشبع… وصغار طامعون بالمزيد… أينما وضعت يدك يتطلعون إلى وجهك ويطلبون جودك وكرمك. والحق أن جودة المأكولات وكثرة الأطباق قد أثارت سخط الأحشاء وتذمر الأمعاء… معاناة هي وندم شديد. فقد امتلأت البطون، ومال الجميع واتكأ واسترخى.
دق جرس الباب، إنه موعد قدوم الوالد من المسجد، نهضنا مسرعين إلى المغاسل استعدادا للصلاة، ثمة همهمات كالنار تحاول والدتي إخمادها، واضح من صوت جدتي الحنون، الجالسة وسط البهو تدعو ربّها: ” اللهم أدخل رمضان علينا وعلى أمة الإسلام بالخير والسلام، وارزق صغارنا الصحة والهداية والعافية. غدا إن شاء الله يصلون جماعة بالمسجد… الله يرضى عليك يا ولدي…”، أن والدي متذمر من سلوكنا، إنه اليوم الأول من رمضان وجميع صبيان حيّنا ولجوا المساجد إلا نحن؛ أبناء الحاج علي المعروف بالتزامه وحرصه الشديدين على إقامة الصلوات في أوقاتها.
أسرعنا لإقامة الصلاة، وعدنا مطأطئين رؤوسنا خجلا. قعدنا بجوار الحاج ننتظر الفرج والغفران، ربما يأذن لنا بالانضمام إليه، والجلوس معه حول مائدة الطعام، أملنا في هذه اللحظات العصيبة أن نخوض شوطا آخر نفوز به بألذ حلويات رمضان؛ “شباكية” و “بريوات اللوز” و”سلو” وكؤوس الشاي المنعنع، وكل ما تجود به أيادي الماهرة عمتي وأمي الملاك.
إنه شهر مارس/آذار … الجو بارد والحنين عاد بلهفة إلى الموائد، لكن الوالد غاضب، يبدو أننا، قد حرمنا أنفسنا ودّ الحاج واهتمامه، لقد أحسسنا في تلك اللحظات الحرجة أن بصيص الأمل بدأ ينجلي بعدما أوصى الوالد برفع الأطباق ولزوم السكينة، ليتسنى له متابعة نشرة الأخبار في هدوء وروية.
كانت نظراتنا الحزينة وسيلتنا الوحيدة للتواصل، حاولنا كثيرا إيجاد حجة للخروج من غرفة الطعام، وانتظرنا طويلا مخلصا يعتقنا من ورطتنا…رنة هاتف أو زائر مهنئ أوجار يسأل، أو صديق يدق جرس الباب … طال الانتظار ونحن متسمّرون في مجلسنا، أعِقاب متعمد سنه الوالد لتربيتنا أم أوقعتنا الصدفة اللعينة في شباك الشك والارتباك؟
استسلمنا أخيرا لواقع حالنا فتابعنا مقدم الأخبار بتمعن، والنشرة الإخبارية بكل تفاصيلها، وبعدها وصلات الإشهار إلى أندخلت أمي حاملة بين يديها المحمرتين طاجين الدجاج البلدي بالبصل والزبيب…غابت بعدها عنا شمس العقوبة ولهيبها، فتذوقنا طعم الحرية من جديد، وأشعرتنا ابتسامة الوالد الظريفة أنه راضٍ عنا… أدركنا أنه طوال الوقت كان يراقب تصرفاتنا، لقد صرحت لنا عمتي بذلك، وأكدت لنا أن تجاهله لوجودنا كان مقصودا، بيد أنه ثمن انضباطنا، فقد أحس بلهفتنا لإرضائه. كما أوجس لها علمه بوحش جوعنا وقوة صبرنا.
عشنا لحظات ممزوجة بالمحبة والتذمر، والتوتر والسكينة، والجوع والشبع… وقضينا أوقاتا جمعت بين العبادات والتأمل، والتجمعات والضَحكات والاسترخاء… أحاسيس قوية ودافئة، وقلوب مطمئنة وعلاقات وطيدة ونوايا صافية… قضينا أوقاتا لا تنسى وعشنا زمنا لا يعوض.
مرّ الشهر الكريم ومرت الأيام، ورحل الكبار مخلدين ذكرياتهم …عشنا زمنا جميلا وأياما حلوة، والحق أن كل رمضان وذكرى الوالد في القلب ثابت ومقيم، والالتزام بمواقيت الصلاة فرض حاضر وأكيد، ومحبة الأهل عهد ويقين… إنها ذكريات زمن جميل وماضٍ ذي طعم الشهد ورائحة الطيب…ستظل صورة والدي وصوته من روائع الحكايات الدافئة والذوق الرفيع، وستبقى ذكريات طفولتي وأهلي زمن الشهر الفضيل راسخة في الأذهان وشمسا لا تغيب.
القصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
صورة للكاتبة.. منجزة بالذكاء الاصطناعي