سُنّة العراق والسلطة.. تهميش النُخب وتصنيع الرموز الوهمية

31 مارس 2025
سُنّة العراق والسلطة.. تهميش النُخب وتصنيع الرموز الوهمية

د.احمد الرفاعي 

كاتب من العراق

منذ عام 2003، تعرض السُنُة في العراق لعملية إقصاء سياسي واجتماعي ممنهجة أعادت تشكيل وجودهم داخل الدولة وفق معايير فرضتها القوى المسيطرة، مما أدى إلى تحجيم دورهم وتقليص نفوذهم في مؤسسات الدولة، ليس فقط عبر إقصائهم من المناصب القيادية، ولكن أيضًا عبر فرض بدائل ضعيفة تم اختيارها بعناية لضمان بقاء السُنة في دائرة التبعية. لم يكن هذا التغيير مجرد نتيجة لصراعات سياسية عابرة، بل كان جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد عملت على إضعاف النُخب السُنية الحقيقية، واستبدالها بزعامات عشائرية وشخصيات ذات ولاءات مشبوهة، مما أدى إلى تفريغ المشهد السياسي والديني من أي قوة حقيقية تمثل السنة بصدق.

كانت بغداد لقرون مركز القرار السني في العراق، اذ أنتجت نخبًا سياسية وأكاديمية وقانونية أدارت مؤسسات الدولة منذ تأسيسها. لكن بعد 2003، بدأت عملية منظمة لتفريغ العاصمة من النخب السنية عبر التهجير القسري والاغتيالات والتهميش الإداري، مما أدى إلى فراغ سياسي استغلته القوى المتنفذة لفرض بدائل جديدة لا تمثل المكون السني بقدر ما تخدم المصالح السياسية الضيقة.

هذا التحول لم يكن مجرد نتيجة لصراعات طائفية، بل كان مقصودًا بهدف إعادة رسم خارطة التمثيل السني بحيث يكون خاضعًا بالكامل للمصالح السياسية للقوى الحاكمة. فمع تراجع تأثير النخب البغدادية، تم تقديم زعامات عشائرية من المحافظات الغربية والشمالية كبديل سياسي للسنة، رغم أن هذه الزعامات لم تكن تمتلك أي رؤية سياسية أو إدارية واضحة.

السلطة الحاكمة وجدت في هذه الزعامات خيارًا مثاليًا لضمان أن يظل السنة في وضعية ضعف سياسي دائم، حيث يمكن التفاوض معهم بسهولة من خلال تقديم الامتيازات والمناصب، دون أن يشكلوا أي تهديد حقيقي للمنظومة الحاكمة. وهكذا، أصبح القرار السني مرتبطًا بمصالح عشائرية ضيقة بدلًا من أن يكون قائمًا على أسس مؤسسية واضحة.

لم يتوقف الأمر عند إقصاء النُخب السياسية، بل امتد إلى تفكيك المرجعية الدينية السنية وإعادة تشكيلها بحيث تصبح مجرد أداة بيد السلطة. فعلى عكس المرجعية الشيعية التي تمتلك نفوذًا قويًا واستقلالية نسبية، فإن المرجعية السنية تعرضت للتفكيك الممنهج عبر تعيين شخصيات مثيرة للجدل في المناصب الدينية العليا، بما يضمن أن تكون المرجعية السنية ضعيفة وغير قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة.

المثال الأبرز على ذلك هو تعيين رئيس ديوان الوقف السني، وهو منصب يتطلب أن يتولاه شخص يتمتع باستقلالية تامة ويحظى بقبول واسع داخل المكون السني، نظراً لحساسية الدور الذي يؤديه في إدارة الأوقاف والمؤسسات الدينية وتمثيل مصالح المكون. ومع ذلك، غالبًا ما يتم اختيار شخصيات تحوم حولها شبهات قانونية، أو تكون عليها ملفات في هيئة المساءلة والعدالة، مما يثير تساؤلات حول مدى أهليتها لهذا المنصب وقدرتها على أداء مهامها بعيدًا عن الضغوط السياسية.

هذا النهج لم يكن وليد الصدفة، بل يعكس استراتيجية مدروسة تهدف إلى ضمان بقاء الوقف السني تحت إدارة شخصيات يمكن توجيهها بسهولة، بحيث تفتقر إلى الاستقلالية الكاملة، مما يجعلها أكثر قابلية لتنفيذ أجندات معينة دون اعتراض. ونتيجة لذلك، تتحول مؤسسة دينية ذات طبيعة حساسة إلى أداة بيد جهات ذات نفوذ، بدلاً من أن تكون مؤسسة مستقلة تمثل المكون السني بشفافية وتخدم مصالحه وفق أسس عادلة ومستقلة.

هذا النهج لم يقتصر على الوقف السُني فقط، بل امتد إلى المؤسسات الدينية كافة التي يفترض أن تمثل السُّنة، حيث تم تفكيك أي محاولة لإنشاء مرجعية دينية موحدة، واستبدالها بمجموعات متفرقة لا تمتلك أي تأثير حقيقي، مما أدى إلى إضعاف الخطاب السُني وإبقاءه في حالة من التشتت والفوضى.

بالتزامن مع تهميش النُخب وإضعاف المرجعية، بدأت السلطة تعمل على إعادة ترتيب المشهد السياسي السني عبر عقد صفقات جديدة مع الأحزاب الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين، لضمان استمرار التمثيل السني في إطار يخدم أجنداتها.

الإخوان المسلمون في العراق ممثلين بالحزب الإسلامي العراقي؛ والذين فقدوا الكثير من نفوذهم خلال السنوات الماضية بسبب فشلهم في تقديم مشروع سياسي واضح، وجدوا في هذه الصفقات فرصة لإعادة التموضع، اذ تسعى بعض القوى المتنفذة إلى منحهم أدوارًا جديدة كجزء من إعادة تشكيل الخارطة السياسية السُنية. هذه التحالفات لم تكن تهدف إلى منح السُنة تمثيلًا حقيقيًا، بل كانت محاولة لإعادة تدوير نفس القوى التقليدية التي يمكن التفاهم معها بسهولة، دون أن تكون لها أي قدرة على التحدي أو إحداث تغيير حقيقي في المشهد السياسي.

هذا التحرك يأتي ضمن إطار أوسع يهدف إلى الإبقاء على السُنة في حالة ضعف مستمر، بحيث لا يكون لهم أي صوت مستقل، بل يتم تمثيلهم فقط من خلال شخصيات وأحزاب يمكن التفاوض معها وعقد صفقات تضمن استمرار المنظومة الحاكمة دون أي تهديد جدي.

إلى جانب النفوذ العشائري والتحالفات مع الإسلاميين، كان للعلاقات الشخصية والصفقات السرية دور حاسم في تحديد من يمثل السنة في الحكومة والبرلمان. فبدلًا من أن يكون التمثيل قائمًا على الكفاءة والخبرة، أصبح قائمًا على العلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة بين الشخصيات السياسية والسلطة.

العديد من الشخصيات التي تم تقديمها على أنها ممثلة للسُنة لم تكن تمتلك أي تاريخ سياسي أو فكري، لكنها وصلت إلى المناصب العليا عبر شبكات من العلاقات الشخصية والصفقات التي تضمن ولاءها التام. ونتيجة لذلك، لم يعد هناك أي صوت حقيقي يعبر عن تطلعات السنة، بل أصبحت القرارات تُتخذ في الغرف المغلقة بين أطراف لا تمتلك أي شرعية شعبية حقيقية .

السُنة في العراق اليوم ليسوا فقط ضحايا التهميش السياسي، بل أصبحوا رهائن لعملية إعادة تشكيل ممنهجة تهدف إلى إبقائهم في حالة ضعف دائم. عبر إقصاء النُخب، وتقديم زعامات عشائرية ضعيفة، وصناعة مرجعيات دينية وهمية، وعقد صفقات مع الأحزاب الإسلامية، تحولت السياسة السنية إلى ساحة فارغة من أي قوى حقيقية قادرة على التغيير.

ما لم يكن هناك تحرك جاد لإعادة الاعتبار للنخب السنية المستقلة، وإعادة بناء مؤسسات سياسية ودينية قائمة على الكفاءة لا الولاء، فإن السنة سيبقون عالقين في دائرة التبعية السياسية، دون أي قدرة على التأثير في مستقبل العراق.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com