فنجان قهوة..!!
نشوان عزيز عمانويل

أنا الآن عالقٌ في فنجانِ قهوة،
أُحاولُ السِّباحةَ نحوَ حافَّةِ الكوب،
لكنَّ الملعقةَ تمنعُني؛ لأنَّها تغارُ من محاولاتي.
في النِّهايةِ، أستسلمُ،
وأقرِّرُ أن أصبحَ نقطةً في بحرٍ من الكافيين،
حيثُ لا معنى لأيِّ شيءٍ
سوى أنَّ العبثَ دائمًا يُبقيكَ على قيدِ الحياة.
لكنَّ القهوةَ لا تَكترث،
تدورُ بي كما تشاءُ،
تسحبُني نحوَ القاعِ ببطءٍ متعمَّد،
كأنَّها تريدُ أن تَهمِسَ لي بسرِّها الأخير:
“كلُّ شيءٍ يذوب… حتَّى أنت.”
في النِّهايةِ، يَرفعُ أحدُهم الفنجانَ،
يَرتشفُني دَفعةً واحدة،
وأصبحُ ذكرى دافئةً
في حَلقٍ لا يعرفُ اسمي.
ومن جديدٍ،
أستيقظُ في تمامِ السَّاعةِ الزرقاءِ،
أشربُ كأسًا من الحزنِ والوحدةِ ودمعةٍ مسلوقةٍ مع مِلعقتَينِ من ضوءِ القمر.
أرتدي حذائيَ المعكوسَ، وأضعُ القبَّعةَ على قدمي اليُسرى،
ثمَّ أفتحُ النَّافذةَ لأُصافحَ الموجةَ الثَّالثةَ من الجنونِ الذي يَسكُنُ رأسي.
أخطو خارجَ البابِ بظِلِّي أوَّلًا، تاركًا جسدي يَتأخَّرُ بخطوةٍ أو اثنتين.
أحملُ مِظلَّةً مثقوبةً لأقي نفسي من مَطرِ الكلماتِ التي تتساقطُ من أفواهِ المارَّة.
على الرَّصيفِ، أرسُمُ بمسحوقِ الصَّمتِ دَوائرَ من الضَّياع، وأجلسُ في مُنتصفِها.
النَّاسُ يَنظرونَ إليَّ، لكنَّ أعينَهم مُجرَّدُ ثقوبٍ لا تَحملُ سوى الرِّيح.
أفتحُ حقيبتي، أُخرجُ مرآةً مكسورةً، وأرى فيها وجهي نصفين:
أنا… وأنا
نِصفٌ يَضحكُ، ونِصفٌ يَبكي.
كلُّ شيءٍ على ما يُرام،
فالطَّاولةُ تَتنفَّس، والسَّاعةُ تَشخُر،
والأفكارُ تَتَقاذفُ كأرانبَ تَعبتْ من الجاذبيَّة.
في النِّهايةِ، أُغلِقُ عَينيَّ،
وأنتظرُ أن يَنفجِرَ العالمُ في فنجانِ القهوةِ القادم.
أنا الذي أرتدي الحُزنَ كمعطف،
وأمشي في شارعٍ بلا أرضٍ.
كلُّ خطوةٍ تَتركُ أثرًا على الهواء،
وكلُّ أثرٍ يختفي بمجرَّدِ أن أنظُرَ إليه.
أخافُ من الكلمات،
لكنَّني أعيشُ في مكتبةٍ تَنهارُ يوميًّا فوقَ رأسي.
أُحاولُ الهروبَ،
لكنَّ الحروفَ تُطارِدُني بأقدامٍ من وَرَق،
والجُملُ تُمسكُني بأذرُعٍ طويلةٍ من مَجاز.
أُحبُّ العتمةَ،
لكنَّني لا أستطيعُ النَّومَ دون مِصباحٍ يَتنفَّسُ بجانبي.
كلَّما أطفأتُه،
سمعتُ صوتَه يَهمس:
“لا تَتركني وحيدًا، الضَّوءُ يَخافُ الظَّلامَ أيضًا.”
أنا الذي أختبِئُ تحتَ جِلدي،
وأُخفي أحزاني في جَيبٍ داخليٍّ صغيرٍ.
لكنَّ الشُّعراءَ يَجدونَني دائمًا،
يَفتحونَ جيبي دونَ استئذان،
ويَضعونَ حزني على مائدةِ العالم،
ثمَّ يَشرَبونه مع قهوةِ الصَّباح.
خاص لصحيفة قريش -ملحق ثقافات واداب -لندن