لماذا تعمد الروائي ترك مصير الأحداث والشخصيات غامضا؟
عزيز باكوش
في أحدث إصدارات الأديب الياباني هاروكي موراكامي رواية ” تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه “الصادرة عن دار الآداب بترجمة أنيقة وملهمة عن الإنجليزية للأديب أحمد حسن المعيني. نقف أمام عمل روائي ملحمي فاتن في هندسته وبنائه . هذا العمل يحكي قصة حياة خمسة أصدقاء يابانيين في إحدى المدارس الثانوية بناغويا ضواحي طوكيو. هم ثلاثة فتيان وفتاتين جمعتهم الصدفة ونسجت بينهم قدرا جميلا لا يسمح بالفراق أبدا. وتشاء الحبكة الدرامية ،وروح الخيال المبدع عند الكاتب هاروكي موراكامي أن تشير أسماء كل واحد منهم إلى لون من الألوان. فالأول اسمه أكاماتسو تعني (الصنوبر الأحمر)، والثاني أومي (أي: البحر الأزرق)، والثالثة شيران (أي الجذر الأبيض)، والرابعة كورونو (أي الحقل الأسود). وحده تسوكورو تازاكي بطل الرواية لا لون له. وليس في اسمه نصيب من الألوان ربما يبدو ذلك لحكمة فلسفية أرادها الكاتب. لذلك سماه عديم اللون. وهو ما سيتضح من خلال بعض شكليات وأخلاقيات حياة تسوكورو عديم اللون، حيث أن فكرة الموت كانت تسيطر على ذهنه منذ فترة دراسته بالجامعة . وتمضي الأيام وتمر السنون . لكن ذات يوم مشؤوم كانت الصدمة وحلت الفاجعة. لقد أبلغه أصدقاؤه الأربعة المقربون، أنهم لا يريدون رؤيته أو الحديث معه نهائيا. كان قرار الأربعة مفاجئا وصادما وحاسما. الأنكى من ذلك، أنهم لم يقدموا تبريرا مقنعا لقرارهم هذا، كما أن تسوكورو نفسه لم يجرؤ على السؤال كيف ولماذا، فكظم غيظه ولم ينبس ولو بكلمة واحدة. وكانت مؤسسة تعليمية في ضواحي ناغويا غير بعيد عن العاصمة طوكيو نقطة اللقاء بين الأصدقاء الخمسة. وكانوا جميعا ينتمون إلى الطبقة الوسطى التقوا في صف واحد وفي عامهم الأول اشتركوا جميعا في مبادرة تطوعية أثناء العطلة الصيفية. فأصبحوا أصدقاء. وظلوا هكذا في مجموعة مترابطة رغم تفرقهم بحثا عن مستقبل واعد لكل واحد منهم في العام الموالي..

إن قرار قطع الصلة بالرفقة الطيبة هذا سيدخل حياة تسوكورو تازاكي في دوامة من الحيرة القاتلة ويحول حياته إلى متاهة مخبولة بلا نهايات. فصار والحالة هذه يحمل عبئا ثقيلا وحكما جائرا ظالما حتى أنه لا يعرف أسبابه ودوافعه. ومما عمق جراحاته أيضا، أنه لا يستطيع إيجاد بدائل لأصدقائه الأربعة الحميميين أو بناء صداقات اجتماعية جديدة بنفس المواصفات. تمضي الحياة بحلوها ومرها على درب النسيان والتجاهل القسري سنوات طويلة. إلى أن تشاء صدفة ماكرة ذات يوم أن يلتقي تسوكورو بشخص أحيى مواجعه من جديد. وشرع يوخز دمالة الجرح القديم، ويحثه على اكتشاف السبب، ومعرفة دوافع قطع أصدقائه الأربعة الصلة به نهائيا. وفيما إذا كان مذنبا دون شعور منه، وبالتالي إيجاد مصوغ مقبول لما حدث له من كوابيس وأعطاب نفسية في السنوات المؤلمة الضائعة من حياته.
كالعادة، فما كادت العطلة الصيفية تحل حتى حزم تسوكورو أغراضه واستغل القطار السريع عائدا إلى بلدته لقضاء وقت يسير مع أسرته. ثم ما لبث أن هاتف أصدقائه الأربعة. لكنه لم يستطيع الوصول إلى أي منهم. قيل له أنهم غير موجودين. لكنه أوصى من كلمه من أسرهم بإبلاغ رسالته. واتجه إلى قاعة سينما في حي التسوق بوسط البلد فنفذ وقته يشاهد فيلما لم يكن في الواقع يرغب في مشاهدته. فلما عاد إلى البيت تناول عشاءه مع أسرته ثم هاتف أصدقائه من جديد لكنه لم يجد أحدا. وتعمق الجرح من جديد ويتفاقم السؤال. لا شك في أن شيئا شنيعا قد حدث في غيابه دعاهم إلى إقامة ذلك السد بينهم وبينه. لكنه حتى اللحظة لم يعرف ما عساه يكون.
إلى هنا تبدو الرواية” مثل أحجية أو لغز حكاية مترعة بالجمال”. فهي لا تكتنفها الغرابة والدهشة الملولبة في متنها الحكائي فحسب، بل تتفنن في اقتحام الغموض والغرابة وتطريزه بالسحر الفتان وإضفاء مسحة كافكاوية بديعة.
من خلال رواية -الغابة النرويجية- التي تم بيع ما يقرب من خمسة ملايين نسخة في اليابان فقط .حقق هاروكي موراكامي شهرته المدوية، ثم توالت أعماله الروائية. التي تترجم للغات عدة من لغات العالم الحية بما فيها اللغة العربية التي ترجم منها خمسة أعمال لموراكامي هي الغابة النرويجية – رقص رقص رقص –- جنوب الحدود غرب الشمس- سبوتنيك الحبيبة- وأخيرا – كافكا على الشاطئ- كلها تم ترجمتها عن طريق لغة وسيطة هي اللغة الإنجليزية.
يتحرك زمن الحكي الروائي لبطل الرواية لتسوكورو تازاكي في حوالي العقدين من الزمن .حيث ينطلق من فترة المراهقة بالثانوية بمنطقة ناغويا التي ولد وتربى فيها حتى بلوغه 36 من عمر الزمن الروائي. أي حتى بدأ يعمل بعد تخرجه من كلية الهندسة في تصميم وإنشاء محطات القطارات وهو ما كان يحلم به منذ طفولته. وبالعودة إلى الحفر في أسباب القطيعة من جانب واحج . نجد أن الأصدقاء الخمس كانوا عبارة عن كتلة واحدة يتحركون ويلعبون ويستذكرون دروسهم معا ولا يفترقون أبدا . ولا ننسى أن البطل تسوكورو هو الوحيد الذي لا يرمز اسمه إلى لون. هو الوحيد بينهم الذي اختار جامعةً في طوكيو،وأول من سيغادر ناغويا بعد انتهاء المرحلة الثانوية ليدرس ويعيش في طوكيو. في العام الثاني له في الجامعة. وهذا التخصيص له ماله وعليه ما عليه على صعيد تطور الأحداث وتصاعد بنائها الدرامي . لأنه أثناء عودته في عطلة قصيرة لبلدته ناغويا، سيصدم بالقطيعة ويفاجئه قرار الأصدقاء بقطع صلتهم به وإنهاء علاقتهم جميعا معه دفعة واحدة. الأنكى من ذلك أن أحدهم ويدعى «أو» أخبره بذلك، وطلب منه عدم الاتصال بأي منهم أبدا، ولم يخبِره عن أسباب ودوافع هذا القرار المتخذ في حقه.
يعود تسوكورو إلى طوكيو جسدا بلاروح وقضى أكثر من نصف سنة في وضع نفسي سيئ يدعو للشفقة جراء الصدمة لدرجة فقدانه الرغبة في كل شيء، بما في ذلك الأكل والنوم ومتع الحياة. لكن مع مرور الوقت، وبعد معاناة نفسية جسدية قوية سيشعر بتحسن نسبي. ما جعله يواصل دراسته الجامعية وأثناء ذلك يتعرف على شاب اسمه هايدا . وهو لون بمعنى رمادي. ويصبح هايدا هو صديق تسوكورو الوحيد وتتعمق العلاقة بينهما، يحكي له قصةً غريبةً عن والده الموت، وأنه سيموت بعد أيام قليلة، ثم يختفي ذلك النزيل فجأة ويعود والد هايدا لدراسته، ويمارس حياته العادية حتى يصبح أستاذا للفلسفة في الجامعة. لكن هايدا سيختفي من حياة تسوكورو فجأة، وكما اختفَى نزيل الفندق فجأة كذلك دون سابق إنذار.
يجب ألا نغفل الدور الذي لعبته فتاة تدعى سارا كيموتو . وكانت تكبر تسوكورو بعامين تعرف عليها وأحبها بعد أن عبر أكثر من مرة عن إعجابه بها ومحاولته إقامة علاقة جدية معها. لكنه يفشل في ذلك كما فشل مرات عديدة مع فتيات أخريات. كانت فتاة جميلة وجريئة قالت له يوما: ” إنه يواجه مشكلةً مع ماضيه، ويجب عليه حل هذه المشكلة بمواجهتها، وليس بالهرب منها كما فعل في الستة عشر عاما الماضية. ليس هذا فحسب، وإنما ستقترح عليه فتح الصفحة من جديد. وأن يشرع في حزم حقيبته للذهاب في رحلة بحث عن أصدقائه المقربين الضائعين . رحلة قد تطول لكنها ستكون عملا رائعا في حياته ورجته أن يذهب بنفسه ليقابل أصدقاءه الأربعة واحدا بعد الآخر، ليعرف منهم سبب إبعاده عن المجموعة بشكل مفاجئ ودون إبلاغه بالسبب. ولم تتوقف سارة عند هذا الحد ،بل قامت بعملية مسح شاملة لمواقع التواصل الاجتماعي عن محل إقامتهم وأخبرته بذلك. كما أخبرته بأن –شيرو- حبيبته الضائعة قد ماتت منذ ست سنوات من دون تقديم تفاصيل أخرى. فيذهب تسوكورو في رحلة بحث أو رحلة حَجِّه بمعناه الديني التطهيري ” أي الكاترسيس”، إلى ناغويا أولا لمقابلة –أو- ثم –أكا-، ثم إلى فنلندا لمقابلة –كورو- التي تزوجت من فنلندي جاء طالبا إلى اليابان للدراسة، وعادت معه إلى فنلندا، وتعيش معه بعد أن أنجبت منه بنتين.
لكن بعد حديثه مع الأصدقاء الثلاثة الباقين على قيد الحياة سيعرف أن –شيرو- قد قتلت في شقّتها التي انتقلت للعيش فيها بمفردها في مدينة هاماماتسو التي تقع بين طوكيو وناغويا. كما سيتعرف على 90 بالمائة من دوافع القطيعة بينه وبين الأصدقاء الخمسة.
وهذاهو سيناريو الأحداث والوقائع كما تم تجميعها بعد رحلة استقصاء تطهيرية قام بها تسوكورو . وسيلاحظ القارئ الدقيق نوعا من الضبابية والتشتت والغموض المقصود في المتن الروائي. وبالمختصر المفيد أن – شيرو- قالت لأصدقائها وصدقوها على الفور إنها عند ذهابها لحضور حفل غنائي في طوكيو، قابلت تسوكورو الذي اعتدى عليها واغتصبها وأفقدها عذريتها. لذلك، وبالنظر لهذا الفعل الشنيع الصادر من طرف صديق مخلص ووفي . قررت قطع صلتهم تماما بتسوكورو. وسيضطر الجميع إلى موافقتها دون قيد أو شرط. رغم تحفظهم الشديد وإبداء شكوك وتساؤلات فيما إذا كان تسوكورو قد فعل ذلك. وعلى الجانب الآخر ستخبره -كورو- أن –شيرو- كانت حاملا بالفعل. وقد قررت أن تلد الجنين، ولكنه أجهضت رغما عنها، كما أخبرته أيضا لا تشك في براءته من شبهة الاغتصاب، ولكنها عندما علمت أن – شيرو- قد أصاب عقلها خلل ما، قررت أن تكون أكبر داعم وعلى وعي بالخطأ. وتقف بجانبها وتساندها، وتتخلى كيديا عن تسوكورو الذي كانت تضمر داخلها شعورا بالحب تجاهه. لأنها في المقابل كانت واثقة أن تسوكورو قادر على تجاوز المحنة بينما –شيرو- لا تستطيع ذلك بمفردها لضعفها.
عندما تنتهي من قراءة الرواية تنتابك مشاعر وانطباعات متضاربة تفضي بك إلى خلاصات واستنتاجات عشوائية لكنها ملهمة . أهمها أنها لا تطرح مشكلا اجتماعيا وقضية إشكالية في واقع الحياة المدنية المعاصرة وتهم كافة المجتمعات. وإنما تناقش “مشكلةً فرديةً ربما واجهت عددا ما من الأشخاص لا ترقى إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى”. فأحداث الرواية يشوبها بعض الغموض والتشويق ويتم الكشف عنها تدريجيا مع التقدم في قراءة الرواية، إلا أن الاختلاف بين الروايات البوليسية المعتادة وبين رواية موراكامي هذه هو ذلك التشتت والغموض وعدم الوصول إلى النهاية المفروض والمخطط لها.
يقول موراكامي عن روايته الجديدة” إنه لأول مرة يترك لقلمه العنان لكتابة أحداثها دون أن تكون فكرتها مكتملةً ومختمرة في رأسه، وإنه كان يستمتع بالتفكير في تطوُّر أحداث الرواية يوما بيوم طوال الستة أشهر التي قضاها في كتابتها. تقع الرواية في 19 فصلًا بما إجماله 370 صفحة من القَطْع المتوسط. اسم الرواية كما في عنوان هذا المقال يُعتبر من أطول أسماء روايات هاروكي موراكامي، «تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه». وتسوكورو تازاكي هذا هو بطل الرواية الذي تتمحور حوله كل الأحداث والشخصيات.”
ويبدو جليا أن هاروكي موراكامي تعمد في روايته ترك مصير أحداث وشخصيات روايته غامضا. لم نعرف حقيقة ما حدث مع – شيرو- ومن الذي اغتصبها ومن الذي قتلها ولماذا؟ حتى مصير بطل الرواية تسوكورو نفسه مع حبيبته سارا، هل سيرتبطان أم ينفصلان، لقد طلبت سارا منه مهلة ثلاثة أيام للرد على ذلك، ولكن موراكامي ينهي الرواية قبل مرور الثلاثة أيام تلك، هل نفهم أن للرواية جزء ثانيا وأن هاروكي موراكامي بصدد كتابة الجزء الأكثر إضاءة لمصير شخصياته في روايته تسوكورو تازاكي وسنوات حجه؟
دُبي مارس 2025