سمير عادل
أن تجعل نفسك أسيرًا بإرادتك في سجن الحماقة الطائفية، وتغرق في أوهامك المصطنعة التي لا وجود لها إلا في مخيلتك المريضة، فهذا شأنك. لكن أن تسعى لإغراق المجتمع كله فيها وتوسيع دائرة الأسر هذه عليه، فذلك أمر يستوجب الوقوف عنده، فضح الأجندات التي تقف وراءه، وتحطيم تلك الدائرة المغلقة.
مسلسل “معاوية”، الذي يُعرض حاليًا على قنوات MBC باستثناء MBC العراق، كشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للسلطة الميليشياوية الحاكمة في بغداد. فقد أصدرت هيئة الإعلام والاتصالات قرارًا بمنع عرض المسلسل على قناة MBC العراق، بحجة أو بذريعة أنه “يثير سجالات طائفية”.
للوهلة الأولى، وقبل الخوض في تحليل هذا القرار، يبدو أن سلطة الأحزاب الإسلامية في العراق تعيش خارج الزمن، أو في أفضل الأحوال، تعيش في حقبة ما قبل اكتشاف النار! فهل يعتقدون أن منع عرض المسلسل على MBC العراق يمنع الناس من مشاهدته على القنوات الأخرى أو على يوتيوب؟!
ولنكن منصفين، هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الروايات التاريخية، والحريات، وحق التعبير، لا يعيشون على قمة جبل الجهل إلى هذا الحد. فهم يدركون مجريات الأمور، وعلى الأقل لديهم معرفة بالتطور التكنولوجي، بل إنهم بارعون في توظيف الجيوش الإلكترونية المدفوعة الثمن من اجل اسقاط معارضيهم سياسيين وأخلاقيا. لكن الأمر الأهم بالنسبة لهؤلاء الطائفيين في الإسلام السياسي الشيعي الحاكم هو تسجيل موقف أخلاقي وسياسي على الأقل تجاه التاريخ، ذلك التاريخ الذي استثمروا فيه أكثر مما استثمروا في التعليم، الصحة، الخدمات، والضمان الاجتماعي. إذ لا يملكون شيئًا سوى روايتهم الخاصة للتاريخ، وحتى هويتهم السياسية والفكرية الطائفية، المنبعثة من هذه الرواية، باتت متهالكة، ولم تعد قادرة على تمرير مشروعهم السياسي أمام وعي المجتمع، الذي لم يعد يحتمل ترهاتهم الطائفية.
عرض هذا المسلسل، وهو من إنتاج عام 2023، في هذا التوقيت تحديدًا يستفز أصحاب الهوية الطائفية، لا سيما أنه يأتي بعد سقوط نظام بشار الأسد وسقوط الأوهام حول محور المقاومة والممانعة، الذي لم يكن موجودًا إلا في مخيلتهم الطائفية. والأدهى من ذلك، أن الإسلام السياسي السني اعتلى السلطة في دمشق، ويحاول الآن – سواء بصدق أو من باب التقية – نزع عباءته الأيديولوجية الإسلامية، وقطع الصلة بها، والاندماج في المحيط العربي، وهو ما يؤرق أنصار رواية ولاية الفقيه للتاريخ.
لكن القصة لا تقف عند هذا الحد، فعرّابو الإسلام السياسي الشيعي في العراق، والمدعومون من نظام ولاية الفقيه، حريصون جدًا على حماية روايتهم للتاريخ، لأنها تخدم بقاءهم في السلطة، وتبرر سرقاتهم ونهبهم وقمعهم للاحتجاجات التي تطالب بالعمل والخدمات والحرية والعيش الكريم. وهم لن يقبلوا، تحت أي ظرف، بالتشكيك في هذه الرواية أو بإبراز شخصية مثل معاوية بن أبي سفيان، الذي بنوا على شيطنته أحد أركان أيديولوجيتهم الطائفية. فمعاوية، وفق الروايات التاريخية، حارب علي بن أبي طالب في معركة صفين عام 37 هـ (657 م)، والأسوأ من ذلك، أن ابنه يزيد بن معاوية حرم الحسين بن علي من الخلافة وقتله، بل وسبى زينب بنت علي، وهي الحادثة التي صارت شعارًا بارزًا رفعته الميليشيات العراقية تحت مقولة “لا تُسبى زينب مرتين”، لتبرير تدخلها في الدفاع عن نظام بشار الأسد الإجرامي.
إذن، قرار منع عرض مسلسل “معاوية” لا يثير “سجالات طائفية” كما زعموا، بل يضع علامة استفهام كبيرة على روايتهم للتاريخ، تلك الرواية التي استخدموها طويلًا لدق إسفين في صفوف الطبقة العاملة والمجتمع ككل وأشعلوا حرب أهلية في شباط ٢٠٢٦ تحت مظلة الغزو والاحتلال الامريكي، من أجل الامتيازات والنفوذ السياسي والسيطرة على السلطة السياسية. فبدون الاستثمار في الهوية الطائفية، والغرق في المستنقع الطائفي، هل يمكن لهذه الجماعات الإسلامية السياسية أن تستمر في الوجود أصلاً؟
وأخيرًا، فإن الاستثمار في التاريخ وتحضير الأرواح منه هو سمة فاقدي الهوية، وتعبير صارخ عن الإفلاس الفكري والسياسي. كما ان سيطرة هيئة تحرير الشام احدى اجنحة الإسلام السياسي السني على السلطة في دمشق تعيد إلى أذهانهم شبح الدولة الأموية، التي أسسها معاوية بن أبي سفيان واتخذ من دمشق عاصمةً لها. وإذا كان التاريخ حسب روايتهم قد حرم هؤلاء من السلطة بشكل تراجيدي، فإن حاضر اليوم ليس اقل تراجيدية، أذ ما يسمى “الشرق الأوسط الجديد” الذي يسعى إليه النازي الجديد بنيامين نتنياهو بدعم الإدارة الأمريكية بزعامة دونالد ترامب، يقزم من مكانتهم في المعادلة السياسية التي تتشكل اليوم. وهذا الواقع الجديد لم يزدهم إلا محنةً واضطرابًا سياسيًا والغوص في المستنقع الطائفي عسى ولعل العثور على هوية ما.