لندن – قريش:
كشف المؤرخ العراقي الاستاذ الدكتور سيار الجميل عن تفاصيل ندوة خاصة مغلقة عقدتها دولة الامارات العربية بتنظيم من وزارة خارجيتها حول “ العراق الجديد” بعد سبعة شهور على الاحتلال الامريكي للبلاد، وقيام نظام جديد اسسه وقاده في سنوات عديدة لاحقة الحاكم المدني الامريكي بول بريمر
ضمت الندوة عددا من السياسيين “ اثنان منهم مُعمّمان “ الذين كانوا من علامات النظام الجديد مع انبثاقه و يكادون يختفون من المشهد بالرغم من وجودهم في سياق ذاكرة العملية السياسية ودهاليزها وبعض مواقعها الرسمية. ماكشفه الباحث والمؤرخ الجميل يمثل وثيقة تاريخية لها اهمية، تجيب على بعض الاسئلة التي شغلت العراقيين والكثير من العرب بشأن قيام نظام سياسي جديد في العراق، وصفه الباحث بطغيان صفته الطائفية على الهوية الوطنية.

وفي النص ما جاء في شهادة المؤرخ العراقي سيار الجميل التي نشرها امس على موقعه في فيسبوك ايضاً .:

ندوة سياسية مغلقة تقيمها وزارة خارجية دولة الامارات نوفمبر 2003
وفد عراقي يتكّون من أربع شخصّيات في جلستين سريّتين
عندما يطغى الانتماء الطائفي على الهوّية الوطنية!
أ.د. سيّار الجميل
ملاحظة : لم اكتب عن هذا ” الحدث” منذ اكثر من عشرين عاما ، ولكن أصّر بعض الاصدقاء أن اكتب عنه ما لدي ما دام هناك عدد من الأحياء الذين شاركوا فيه حتى اليوم . وسأقول ذلك بما احتفظت به ذاكرتي بكل أمانة والله على ما اقول شهيد .
أولا : دعوة خاصة للمشاركة
تسلمت عند نهاية عام 2003 دعوة رسمّية خاصة وكنت يوم ذاك استاذا اقيم في دولة الامارات العربية المتحدة للمشاركة وحضور ندوة مغلقة منع فيها التصوير والاعلام في وزارة الخارجية ولم ينشر عنها شيئاً ، وفي الدعوة مفاتحة بأن أكون معقباً في الجلسة الثانية كوني مستقلا ، وقد وافقت على الدعوة ثم وصلني بعد يومين منهاج عمل “الندوة “من جلستين فقط ، تبدأ الاولى في التاسعة صباحا لمدة ساعتين ، ويعقب عليها الاستاذ الدكتور غسان العطيّة ثم هناك ساعة استراحة لتبدأ الجلسة الثانية على الثانية عشرة ظهراً والتي سأعقب عليها لتنتهي على الثانية بعد الظهر .. وتمّت الاشارة الى أن الندوة رسميّة مغلقة الّا على الضيوف المدعويين، وقد منع فيها التصوير او أن ينشر عنها أي تقرير .
ثانيا : الندوة المغلقة
ذهبت في الوقت المحدّد ، ولم أعرف من سيتحدث في الجلستين ، فوجدت أنّ قاعة كبرى تغّص بالعديد من وزراء مجلس التعاون الخليجي وعدد كبير من السفراء والمستشارين والدبلوماسيين وحضر بعض الاعلاميين ومنهم اعلامي عراقي معروف كان يعمل في قناة العربية، اخذوني الى مكاني في بداية القاعة لأرى قبالتي من الطرف الاخر الدكتور العطّية فتبادلنا التحيّات عن بعد ، واكتمل الحضور وأغلقت الأبواب ودخل أعضاء وفد رسمي يتألف من أربع من الشخصيات العراقية قدموا من العراق ليتكلموا في الجلستين واتخذوا أماكنهم في صدر القاعة على المسرح ، واعتلى رئيس الجلسة الأولى مكانه في وسطهم .. كان على يمينه كلّ من: د. موفق الربيعي ود. فالح عبد الجبار وجلس على شماله كلّ من : السيد محمد بحر العلوم والشيخ همام حمودي .. لم يثر استغرابي الشديد الّا وجود الصديق فالح عبد الجبار بين هؤلاء ..
ثالثا : الجلسة الأولى
1/ د. موفق الربيعي
بدأت الجلسة الاولى بكلمة ترحيب هادئة وساد السكون القاعة والجميع يتطلعون الى اعضاء الوفد القادم والى ما سيقولونه للعالم وكانوا في عنفوان تعصبّهم ونشر دعاياتهم وكأنهم هم الذين أزالوا النظام السابق .. منحت الكلمة الاولى لموفق الربيعي ، فراح يحكي عن نفسه كثيراً وكيف ناضل من أجل قلب نظام الحكم ودوره في مؤتمر المعارضة في لندن وان الاسلام الشيعي سينتصر على كل من يقف ضده وان اميركا ستنشر الامن والسلام والديمقراطية .. وراح يهذي وهو يحرك يديه على طريقته البلهاء ، وزاد من اخطائه باستخدام لغة غير دبلوماسية ولا مهذبة اثارت الامتعاض عند اناس جاءوا متوقعين – كما قالت لي احدى السيدات البحرينيات وتجلس الى جانبي – ان يسمعوا برنامج عمل سياسي قادم للعراق ( الجديد) .. انتهى الربيعي بعد ان زاد من تجاوزاته البائسة مع حماقات تعلن عن سذاجة المتحدث والتي تكفي لاثارة السخرية عليه .. ولم يصفق أحد له ولا لغيره ممن القوا بخطاباتهم التي كانت تافهة .
2/ د. فالح عبد الجبار
اعطيت الكلمة الى فالح عبد الجبار، فالقى كلاماً غير سياسي عن العراق، ولكنه راح يلغي العراق من الوجود !! وتساءل: هل كان للعراق أيّ وجود في التاريخ ؟ ! وقال بالحرف الواحد : العراق هو صناعة معاصرة خلقه البريطانيون ، وقد حدّد حدوده كل من فيصل الأول والمس غيرترود بل ، فامتعضتُ جدا من كلامه هذا ، وخصوصاً أمام الأخوة العرب الخليجيين .. حتى راقبني رئيس الجلسة ، ولم يطل فالح في كلامه لأنه شعر بأنه ارتكب خطيئة تاريخية لا تغتفر!
وطلب رئيس الجلسة من غسان العطية التعقيب ، فبدأ الرجل ليصحّح صورة العراق امام كلّ المنتدين ، والتفت الى موفق الربيعي فمسح به الارض مسحاً ، وكان ناقدا له نقدا مبرحا والحق معه لتفاهة الربيعي وتعاسة اقواله والحق يقال ان العطية عّلم الربيعي درساً لن ينساه أبدا .. التفت اليّ رئيس الجلسة، وقال : لاحظت ان سيّار الجميل لديه ما يقوله وبرغم كونه المعقب في الجلسة الثانية ولكن ليقل ما عنده بصدد هذه الجلسة . فشكرته وقلت : ليس لي الّا أن اقول للصديق فالح عبد الجبار : كيف هان العراق عليك ؟ يا صديقي اذا انت تنفي وجود العراق ، فماذا يمكن أن يقوله غيرك ! عليك بقراءة التاريخ وفهمه قبل اطلاق الاحكام بهذه الطريقة .. وان تركّز بدقة على خرائط العراق في الزمن العثماني وحدود ولاياته الثلاث وفهم بنود (15) معاهدة تخص الحدود الشرقية ومفازات الصحاري في الغرب والجنوب . ليس من الانصاف يا عزيزي فالح ان تتكلّم بهذه اللغة وتنفي وجود العراق .. سكت المحاضران ولم يعقبان ابدا وانفضت الجلسة الاولى وكانت متشنجة جدا .
رابعا : ما دار في الاستراحة في البهو والحديقة
لما خرجنا الى البهو جميعنا ، وكان مزدحما وكل اثنين تجدهما يحكيان عمّأ جرى في الجلسة الاولى ، خرجت لاتنفس قليلا في الحديقة مع كوب من القهوة ، واذا بالاخ فالح عبد الجبار يتبعني ليقف معي ويقسم لي بأنه ابن عشائر ، وهو سني وليس شيعياً ! قلت له مبتسماً : من سألك عن مذهبك ، ولكن ما الذي اتى بك مع هؤلاء ؟ انا لا اعترض ان اشتغلت في السياسة يا عزيزي ، فهذا من حقك ان تتغير من ماركسي الى اميركي .. ولكن كيف لم يكن للعراق وجود من قبل ؟ وكيف خطط حدود فلان وعلان ؟ لقد تكلمت مع الاخ فالح لأنني أعرفه من قبل حق المعرفة، واعرف مكانته كواحد من ابرز علماء الاجتماع في العراق .. لم تقنعني اجاباته ، لكن بقيت علاقتنا مستمرة وتوثقت أكثر لاحقاً ، اذ التقيت به اكثر من مرة في الدوحة وبيروت ، وبقينا نهارا كاملا فيها ، ولكنني علمت أنه أسس مركزاً للبحوث بمساعدات اميركية في بيروت ويرتبط مع مكتب اميركي بواشنطن ، وبدا لي انه قد شعر بخطأ ما قاله أمام المنتدين في ابي ظبي . جاءني ولم ازل احتسي كوب القهوة موفق الربيعي ووقف أمامي، وقال : يسعدني ان أتعّرف بك واقدم لك كارت التعريف، فشكرته، واراد اكمال الحديث والثرثرة ، فقلت له ستبدا الجلسة الثانية وانسللت نحو القاعة ، اذ كان حديثه سخيفا وماكرا وكاذبا !
خامسا : الجلسة الثانية
1/ السيد محمد بحر العلوم
بدأت الجلسة الثانية على الثانية عشرة ظهرا ، والتئم شمل الضيوف المشاركين بسرعة ، واعتلى رئيس الجلسة واعضاء الوفد العراقي الاربعة، وقدّم السيد محمد بحر العلوم كلمته وكان يقف وراءه أحد ابنائه الشباب، بدأ يتحدث عن الحكم الجديد، ويبجّل شأنه وراح يؤكد على مظلومية الشيعة العراقيين وفي العالم على مدى اربعة عشر قرنا مضى وينكّل بالتاريخ تنكيلا لا لزوم له ، ويؤكد بأن الفرصة اليوم قد حانت لهم ليحكموا مؤكدا أن من الاستحالة ان يعود العراق سنيّا أبداً ! كان خطابه طائفيا محضاً حتى العظم .. كنت أسجل ملاحظاتي بسرعة كونها كثيرة جداً . وبدا الرجل في احيان عدة يتلفظ بالفاظ نابية أثار استياء الجميع . انهى كلامه .. ومن اقواله : ” على جميع العراقيين ان يرضخوا لهذا الواقع ” . كما وصف قناة الجزيرة وقناة العربية بأنها قنوات موبوءة “!
2/ الشيخ همام حمودي
منحت الكلمة الأخيرة للشيخ همام حمودي ، فكان اتعس المتحدثين في الندوة ، اذ كان – كما وصفه أحد السفراء العرب ، قائلا : ” ان هذا الكائن تعرف طائفيته القميئة من نظراته اليك وهو يحدثك ” ولا يرسم على سحنته أية بسمة أبدا ” ! قال بالحرف الواحد امام كل المنتدين : ” يقسم سكان العراق الى 80% شيعة و 15% اكراد و5% اقليات وطوائف اخرى”! وبلغت كراهيته للعرب درجة قصوى من الغباء بحيث كان المنتدون يتبادلون السخرية في نظراتهم اليه .
ساد الوجوم في كل القاعة الكبرى ..كي يتلفت الّي رئيس الجلسة ليطلب التعقيب على المحاضرين الأثنين .. بدأت كلامي بتوجيهه الى كل المنتدين محددا نقاط الضعف التي سمعناها ، وان العراقيين ليسوا كما سمعتم من اعضاء الوفد ، ان العراقيين متوازنين ومتعايشين وتعجبهم الحياة والتفاعل معها كما انهم اذكياء يستخفون بالجهلة المثيرين للاستهزاء .. هنا التفت الى المعمّمين الأثنين قائلا: من المعيب جدا تصنيف العراقيين كما سمعنا او توصيفهم تاريخيا كما شهدنا .. ومن الخطورة زرع هذا التعصب المقيت لأنه سينتج كوارث في العراق ! وخاطبت السيد بحر العلوم قائلا له : عليك يا سيدنا ان تنصف كلّ العراقيين ، فاغلبهم ظلموا وعانوا واضطهدوا .. وعلى امتداد التاريخ تجد الشراكة والتعايش في المجتمع .. ثم التفتّ الى الشيخ حمودي وقد استبد بي الغضب مع ابقاء اعصابي هادئة ، وقلت له : اعلم يا شيخ بأنك أخطأت في توزيعك الشعب العراقي خطأ جسيما .. وهذه كذبة تشيعونها اليوم ستكون سببا في كوارث قادمة . كان وجهه قد غلب عليه الاصفرار وهو ينظر اليّ باستياء .
سادسا : مغادرة بحر العلوم
ما ان انهيت كلامي شديد اللهجة ، حتى نهض السيد بحر العلوم من مكانه، ولفّ عباءته وهو واقف يقول : اسمحوا لي اغادر القاعة لموعد حان وقته ، ونزل من المنصة يرافقه من ورائه كل من ولديه الشابين الاشقرين كحرس له ومروا من ورائي ووقف يربت على كتفي وصافحني وعيونه تقدح طالبا من ولده ان يمنحني كارت له ومضى خارجا قائلا : نراك في العراق !
سابعا: انتهاء الندوة
انتهت الجلسة الثانية وكانت أكثر تشنجا ، واختتمت الندوة ، ولكن لم تنته التعليقات والاحاديث بين الضيوف ، وغدا ما جرى في الجلستين الاثنتين مجال طرافة وظرافة لا تقدّر بثمن ، سلاسل من الاراء والتعليقات ، وخصوصا انتفاء الروح الدبلوماسية، ونقد صارخ لشخصيات عراقية كاريكاتيرية يتحدثون بهذا المستوى واخراج ما في بطونهم على الملأ .. ان الأسى يأخذ اي انسان يعارض بشدة ابن وطنه في محفل دولي ! ومن السخف أن يأتي في العراق منذ اكثر من خمسين سنة اناس من العامة ومن المعممّين ليغدوا فجأة ( رجالات دولة ) وهي شخصيات هزيلة ! ومن أشد الأخطاء أن يغدو رجل العلم والمعرفة واحدا من الساسة او من المتحزبّين ، فسيفقد قيمته وهم يجلس الى جوار اشخاص جهلة لا يفقهون شيئا .
ثامنا وأخيرا: العراقيون الجدد قدّموا صورة سيئة عن العراق وأهله
بقي خبر هذه ” الندوة “سرا لم يعلن عنه أحد، ولم يكتب عن تفاصيله أي مقال او ينشر بصدده أي تقرير صحفي ، ولم تنقل اية فضائية عربية اخباره ، ولم تنشر اية صورة عنه . ما يؤلم حقّا لدى العراقيين أنهم لا تهمهم قيمتهم امام الآخرين ، اذ أرى ان من أتعس الحالات ان ينشر العراقي غسيله امام الاخرين كما أنه لا يخجل لما يرتكبه من خطايا ، ولا يعتذر عنها . لقد بدا العراقي مفضوحا في خلافاته الجوهرية أمام الآخرين .. في الأزمنة السابقة كان العراقيون يراعون مكانة بلدهم في العالم ، او أنهم يحملون ارثا قوميا يفاخرون به الآخرين ، أو أنهم يتحّرجون من ابداء الرأي الا قليلا خوفا ورعبا من السلطة .. أما بعد العام 2003 ، فقد غدا بعض العراقيين الذين تسلموا مقاليد العراق ،ينشر غسيله في العالم وقد سحقته الانتماءات الجزئية على حساب هويته ووطنيته وكل قيمه واخلاقياته .. وبات لا يميّز بين الصواب والخطأ ، وبدل أن يعطي هؤلاء الجدد صورة حقيقية عن العراق ومستقبله ، وبناء ثقة عميقة مع الاخرين في كل المنطقة ، وتطوير برنامج حقيقي في البناء والسلم الاجتماعي والسياسة الاقليمية واحترام الانسان .. فقد قدّموا للاسف الشديد صورة قاتمة وسيئة مليئة بالكراهية والعداء ليس للاخر حسب ، بل للعراق نفسه واهله الكرام .
نشرت في يوم 24 ابريل / نيسان 2025 على الموقع الرسمي للدكتور سيّار الجميل .