عبد الناصر غارم
الكف عن التمثيل (1)
الدكتور يوسف الريحاني
فنان بصري وباحث في الفن المعاصر
المغرب
يمارس عبد الناصر غارم عمله الفني متوسلا بهجنة من التقنيات المعاصرة والمزيات الموروثة عن الفنون الإسلامية. هو فنان سعودي جذب إليه الأنظار عالميا منذ معرض2009 Edge of arabia ببينالي البندقية ذي الصيت الدولي. تتوزع أعماله بين مختلف الأشكال الفنية المعاصرة من فوتوغرافيا وفن الفيديو والإنشاءات الفراغية وحتى فن الأداء، وكلها تمتلك مقدرة هائلة على تجسيم مشكلات العصر بشكل مذهل؛ خصوصا في منطقة الشرق الأوسط حيث يقيم هذا الفنان ويتفاعل مع مجريات الأحداث فنيا؛ في تجريد رائع للفضاء وللزمن.
بذلك يصوغ عبد الناصر غارم مدخلا جديد للمزيات المستلهمة من الفنون الإسلامية بربطها بالفن البصري والحركي L’art cinétique؛ فالزخرفة لديه تخضع لنظام تجريدي قابل لخلق جدل مع الضوء الذي ينقلها من بعدها المادي إلى الروحاني؛ خصوصا في إنشاءه الشهير (رسالة/ رسول) الذي يعد أغلى عمل فني معاصر بالعالم العربي؛ وجاء كتجسيم لقبة صخرة القدس؛ لكنه تجسيم ملتبس، إذ ليس المهم القبة في حد ذاتها، ولكن الأهم كان هو ذلك الفضاء البصري المذهل الذي تنتجه هذه القبة في علاقتها بالضوء استنادا إلىخوارزمية متآلفة مع المعمار المعاصر.
بفضل هذا النزوع الهروبي تتمكن أعمال عبد الناصر غارم برغم تشكيلها البنيوي الذي قد يوحي بالعتاقة من اختراق مذهلللمعاصرة، مدعومة باستراتيجية بصرية تكشف عن رهافة إحساس هذا المبدع الذي يقدم خدمات جليلة للإسلام وللمسلمين، والمتهمينعلى الدوام بكون ثقافتهم لم تنتج للبشرية سوى فنون للعلامة دون أي إسهام يذكر في فنون الصورة؛ وهو الاعتقاد الواهم الذي يكسرهعمل هذا الفنان عن جدارة واستحقاق.
في أدائه الفني (حجامة: طقس تقليدي للتطهير) يتساءل هذا الفنان عن الحيز، وعن العلاج المرتبط بأدواء وآلام العالم العربي المعاصر. جاء هذا العمل في صيغة أداء فني Performance يدشن لعلاقة ملتبسة مع الشكل (مزيج من صباغة ورسم وأداء)؛ إذ يتمثل في إنشاء صباغة على حامل جديد هو الجسد الحي للفنان المؤدي. فعبر فيديو توضيحي، يقوم هذا الفنان بتشكيل خارطة للوطن العربي على ظهر أحد المتطوعين بتقنية المرسام Pochoir: أي باعتماد سطح رقيق من الورق الأسود الذي أفرغت منه أجزاء على شكل خارطة ورموز دول عربية، متوسلا بالتقطيع عبر الضغط بواسطة قلم مدبب. تستخدم هذه التقنية في الطباعة والنسخ؛ حيث توضع الصبغة المراد الرسم بها على ذلك السطح من خلال الأجزاء المفرغة. والنتيجة: خارطة سوداء لوطن ممزق بالحروب والصراعات الطائفية، ومتخبط في المشاكل الاقتصادية، دون أن يشفع له تاريخه المجيد وإسهامه في وقت مضى في بناء صرح النهضة الإنسانية.
يعمد الفنان بعد رسم الخارطة على ظهر الفنان المؤدي إلى محاولة تنشيطها وتسليكها عبر عملية حجامة، وهي طريقة طبية قديمة استخدمت لعلاج مواضع الألم في الجسم، عبر إخراج الدم الفاسد؛ إما بالمشارط أو باستخدام الكؤوس
| عبد الناصر غارم“حجامة”- برفورمانسلندن 2015 |
الخريطة هنا مهمة جدا؛ أية خريطة هي في حد ذاتها تجريد للأرض وللتضاريس؛ هي خريطة وليست رسما ولا نسخا وهذا مهم جدا. اعتاد البعض النظر إلى الخريطة كنسخة لأصل هو الأرض الواقعية؛ ولكننا نفضل أن نمثل لها مع بودريار Beaudrillard بمثال اللحم الفاسد المحكوم عليه بالتفتت والعودة إلى مادته الأصلية[1]. الخريطة إذن تتجاوز فكرة الأصل بل وتسبق هذا الأصل؛ هي بالأحرى ترمم هذا الذي نعتبره أصلا وتعيد توليده من جديد؛ من ثم، فهذا العمل الأدائي هو بمثابة استراتيجية لتوليد نوع من التجسيم المفرط الذي يتفوق على الأصل.
ليس المهم في هذا العمل المفاهيمي الفكرة في حد ذاتها: (علاج أوطان عربية محمومة بالتوسل بأساليب تقليدية تتوسم نوعا من العلاج الروحاني)؛ وإنما الأهم هو هذا النزوع نحو تحطيم هشاشة واقعية العمل الفني بتركه للانمحاء والضياع والزوال؛ إذ في هذا إقرار بالطابع المتردد واللايقيني لفكرة التجسيم في حد ذاتها. يعمد عبد الناصر غارم بذكاء إلى مجاراة أساليب التمثيل باستخدام تقنيات الطباعة (المرسام Pochoir)، وتلك جريمته الكاملة: قتل التشخيص وإبادة أوهامه. التوسل أيضا بالمزيات الإسلامية واضح جدا من خلال الاختيار اللوني، ونوع الخط وطبيعة المادة السوداء التي تذكرنا باللوح القابل مضمونه للانمحاء والزوال.
(يتبع)
[1] – انظر: جان بودريار (المصطنع والاصطناع)، ترجمة جوزيف عبد اللع. مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2008. ص: 46
