اليوم العالمي للقراءة..العرب والترف الزائد

25 أبريل 2025
اليوم العالمي للقراءة..العرب والترف الزائد

لازلنا في العالم العربي نعتبر القراءة ترفا زائدا وعادة فئوية

بقلم :عبد العزيز حيون 

كاتب وصحفي من المغرب 

خلد “العالمان” (وليس العالم عن قصد ) أمس الأربعاء اليوم العالمي للقراءة تكريما لفعل القراءة وإبرازا لأهميتها وتشجيعا على الإقبال عليها ،وهو التخليد الذي مر مرور الكرام عندنا لأننا نعتقد أننا منشغلون بأمور أهم ،بينما أفرد له “المجتمع الآخر” اهتماما استثنائيا للترويج لأهمية القراءة والكتابة والاستمتاع بهما،في لحظة زمنية توافق ذكرى وفاة مجموعة من أشهر الأدباء العالميين.

فاتنا زمن هذا التاريخ الرمزي كعادتنا وطويت فرصة الاحتفال بهذا الحدث الثقافي والتربوي البارز ، الذي تبنته اليونسكو منذ عام 1995،في مؤسساتنا التعليمية وفي جمعياتنا وعلى صفحات جرائدنا (مع استثناء بعض الصحف والمواقع )،في الوقت الذي يتبادل أفراد مجتمعنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي فتاوى سطحية تتعلق بأمور ثانوية حول “المعاشرة الزوجية” و”المجامعة ” والتعدد بمعانيه المختلفة ،والتي لا تحث على متعة القراءة ولا استحضار مغازي ورمزية ومضامين سورة “العلق” (إقرأ) المعجزة ،وهي أول سورة نزلت على النبي محمد (ص) في السنة الثالثة عشر قبل الهجرة ،وبدأت هذه السورة بفعل أمر ليس صدفة بل لحث أمة خاتم الرسل وعموم الخلق على القراءة والتميز عن باقي خلقه بنعمة البيان والمعرفة.

   للأسف أصبح عند الكثير منا اقتناء الكتب مجرد ترف عابر أو منتظم لنزين بها رفوف مكتبات منازلنا ،و نختار  لذلك ،من أجل التباهي ،الكتب ذات الأغلفة الجميلة والملونة و المجلدات والموسوعات لركنها في مكان بارز ،قد يعلوها الغبار المتراكم والعفن والرطوبة ويطالها الإهمال المقصود وغير المقصود ، ونحن لم نطلع بعد عن فحواها وما تكتنزه بين دفتيها من خيرات علمية ومعرفية  .

بالنسبة لي شخصيا ،وأعترف أنني لست من أولئك القراء الجيدين ،حدثت لي الكثير من المواقف مع الكتب جعلتني أشعر ب”الدونية” أحيانا وفي أحيان أخرى أجبرتني على الانغماس في عوالم الكتب بشغف ونهم ،إما مكرها أو بطلا، ولعل هذه القصص ،وفي أحيان ما كانت مضحكة، تنفع في تشريح واقعنا ،نحن “أمة إقرأ ” (لا نسبة الى تلاوة المرحوم ومربي الأجيال الزيلاشي أحمد بوكماخ ) مع الكتاب ومع المطالعة وتتبع جديد الإبداع الأدبي والعلمي ،مع العلم أن هذه القصص الشخصية لن أخضعها لتسلسل زمني محدد بل لأهميتها في مخيلتي “الشحيحة”.

بدايتي مع التعامل مع الكتب ابتدأت من مدينتي “الفاضلة” تطوان ،وبحكم قرب سكن العائلة من المكتبة العامة والمحفوظات ،كنت أتطلع يوميا ،عن بعد ،على عظمة وبهاء هذا المبنى الشامخ الذي لم ألجه إلا وأنا في الثانوي وبداية مشواري الجامعي لأطلع على المؤلفات التي يحتاجها التلاميذ والطلبة عند البحث والفروض ،إلا أني سئمت هذا المكان ،ليس لغنى ما يحتوي عليه بتميز وتفرد ،بل لأن هذا المكان أصبح في وقت من الأوقات ،”ملتقى العشاق” ومن أراد أن يختلس نظرة الى “بهية الطلعة” التي يعشقها المسكين عن بعد (أونلاين) ،ولم يكن لنا في تلك الفترة السبيل الى مكتبات البعثات الأجنبية لأنها من منظور بعض الآباء ،للأسف، “أمكنة مشبوهة ” يختلط فيها الجنسان ،أو أنها “تفرض ” ثقافات غريبة عنا وتستقطبنا الى عوالم ليست عوالمنا،فابتعدت شخصيا عن هذه الأمكنة مجبرا حتى لا أغضب والدي وأكتفي بما لدينا في المنزل من كتب.

وحين دفعتني ظروف المسار الدراسي الجامعي المترابطة الى الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية ،في منتصف ثمانينات القرن الماضي، فهمت بالملموس أننا فعلا أمة لا تقرأ ،كما فهمت معنى “العالم الثالث” (ليس في بعده السياسي بل في بعده التعليمي والثقافي)، لأنك بمجرد ما تلج وسيلة نقل عمومي ترى الفرق بينك وبين مواطني تلك البقاع ،ليس بلون بشرتك ولا بتسريحة شعرك ولا بلهجتك الغريبة عن المحيط ،بل فقط لأننا لا نقرأ كتابا ولا نتصفح جريدة ،في الوقت الذي الكل منهمك في هذا الفعل الراقي ،وأحيانا يرمقنا أحد متسائلا من أين أتى هؤلاء الذين يقضون وقتهم في التنكيت والتبكيت ،كما قال الأديب المصري عبد الله النديم في صحيفته التي اتسمت بالطابع الساخر.

وأذكر جيدا لما أتاني أستاذي في الأدب الروسي “فاليري خوتشوك” في يوم بارد من سنة 1988،وطلب مني ،على اعتبار أنني “الطالب النجيب والمجد والعربي المطلع”، أن أساعده في مؤلف خصصه لرائد الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل في الأدب ،واستحييت أن أقول له أني لن أقدر على مساعدته لأني قرأت فقط رواية واحدة “زقاق المدق” ،ولربما فهم من تعبيرات وجهي أن اطلاعي محدود فأتاني في اليوم التالي بمؤلفات هذا الهرم الشامخ والقامة الفكرية العربية المرجعية ،ومنحني وقتا لألخص له فحواها ،وكانت هي فرصتي لأطالع روايات نجيب محفوظ كلها تقريبا.

حدث آخر لم أنساه حين جمعتني الصدفة ومقصورة القطار الرباعية للسفر بجوار أسرة روسية ،تتكون من أب وأم وابنهما اليافع ،والكثير يعرف أن العائلات السوفياتية عامة تتقاسم كل شيء في السفر حتى المأكل والمشرب و المعرفة والغناء،فاستفسرني أب العائلة عن وجهتي وأصلي ،فأجبته أني من المغرب ،فانشرحت سرائر العائلة لأنها تعرف المغرب ،البلد الأطلسي الذي خضع للمستعمر الفرنسي والذي ينتج “علب السردين” والبرتقال ،قبل أن يفاجئني اليافع بأسئلة متتالية عن الأدب الفرنسي ورواده وكتابه الحاليين والمخضرمين والخالدين ، وأنا الذي أعرف إلا روايات محدودة “اطلعنا “عليها في المستوى الثانوي ،فعلمت من تلك اللحظة أننا لا نقرأ ونحشر حشرا وقسرا مع الحاملين للثقافة الفرنسية وغالبيتنا لا قبل لهم بها ،وكانت هذه “الوقائع الأليمة” مناسبة لأشمر عن ساعدي وأوسع معرفتي بالثقافة الفرنسية في مكتبة معهد اللغات الذي درست به ،والتي كانت تعج بكتب نفيسة بجميع اللغات . 

الحدث الآخر مرتبط بنشوة فوزي بالجائزة الثانية لأولمبياد اللغة الروسية الذي احتضنته سنة 1989 مدينة لينينغراد (سان بطرسبورغ حاليا) ،وأرغمني مؤطري ،والذي لم يكن إلا عميد المؤسسة الجامعية “فاليري تشودني” ،أن أقرأ الكثير من الكتب والدواوين ،التي حدد عناوينها هو ،وأحفظ كلمات الأغاني الشعبية والعصرية والأمثال وحتى النكت ،لأكون في مستوى المسابقة الأكاديمية المهمة جدا ،وفعلا تمكنت من إحراز المرتبة الثانية المشرفة كوصيف لطالب من تشيكوسلوفاكيا آنذاك ،البلد الذي يعتمد اللغة الروسية اللغة الثانية ولغته من اللغات السلافية ،ومنحت الكثير من الجوائز من ضمنها كتب قيمة ،كما فهمت من عناوينها ،في الأدب والتاريخ والعلاقات الدولية،إلا أني قررت التخلي عن بعضها لوزنها الثقيل واحتفظت ب”أجملها” ،منها كتاب يزينه غلاف بديع وأنيق لأطالعه وأنا في قطار العودة ،إلا أني نسيته بالمقصورة ،ولعل الكتاب أصبح  في عداد “الصدقة الجارية” ،تستفيد منه الأجيال الروسية المتعاقبة .

الحدث الآخر يوم كنت في طور إعداد بحث الدكتوراه ،ف”اشتكيت” للأستاذة المشرفة “أنا خروشوفا” أني لا أجد المراجع التي أحتاجها إلا ما كان من كتب محدودة ،وبعد أيام معدودات جاءتني “الأستاذة الجليلة “، التي لن أنسى فضلها علي ، بنحو 20 كتابا وقالت لي هذه هدية مني لك لعلك تنتفع بها في الحاضر والمستقبل،وعلمت فيما بعد أن أستاذتي ،التي أرفع لها كل قبعات العالم ،تكبدت عناء السفر من كييف الى موسكو (تسع ساعات في الاتجاه الواحد )،مالا وجهدا ، لتقتني لي الكتب التي أحتاجها ،وتساعدني في المسعى العلمي لعلي أكلل دربي بالنجاح والتوفيق ،ولازلت أذكر هذا الدرس البليغ لأستاذتي وتضحيتها الغالية من أجل دعمي ومواكبتي ومساندتي .

الحدث الآخر مرتبط بعودتي الى موسكو سنة 2008،كمدير مكتب وكالة المغرب العربي للأنباء بروسيا ،فرغم أن سكني الوظيفي كان وسط العاصمة وقريبا من كل المؤسسات التي أحتاجها في عملي ويمكنني أن أذهب إليها مشيا على الأقدام ،فضلت وسائل النقل أولا لأستمع بمحطات مترو أنفاق موسكو التي هي عبارة عن متاحف ،وثانيا جرني فضولي الصحافي لأعيش متعة نفسية خفية ،تتعلق بشغف الروس بالقراءة ، إلا أن المفاجأة كانت صادمة، فإن كانت عادة المتقدمين في السن لم تتغير ولاحظت أن الكل تقريبا جالس يقرأ  كتابه بيمينه ،فإن الشباب واليافعين تخلوا عن عادة القراءة الجميلة وتفرغ العديد منهم الى استهلاك وقته باستخدام الألعاب الإلكترونية والنظر الى شاشة هاتفه المحمول .

وتيقنت أن العقيدة الثقافية للروس آخذة في الزوال للأسف رغم أني لازالت أعترف للشعب الروسي بحبه الكبير للقراءة وإطلاعه الواسع بكل المجالات الثقافية . 

ولازال حدث آخر عالقا بذهني ،فحين كنت طالبا ،وكان الحي الجامعي الذي كنت أقطنه قريبا من “مكتبة ليلية”، قررت في يوم من أيام الربيع الجميلة أن “أزور”  هذه المكتبة من باب الفضول ليس إلا ،وحين ولوجي رحاب هذا الفضاء الثقافي استوقفني صوت رخيم ومؤدب يستفسرني عما أتطلع إليه ،فحرت في أمري ولم أجد جوابا  شافيا ،فاقترحت علي السيدة القيمة على المكتبة أن أطلع أولا على مرافق المكتبة وأستأنس بأروقتها وبعدها أقرر ما أنا فاعله ،والحقيقة أعجبني “منظر” الناس المنهمكة في القراءة دون أن تعير الاهتمام بما يدور حولها ،فكانت هذه الزيارة فاتحة خير لي لأزور هذا الصرح الجميل الحافل والعامر بالكتب مرات ومرات.

بخصوص منهج التدريس بالاتحاد السوفياتي ،الذي للأسف توجه إليه أحيانا الانتقادات من طرف أشخاص عن جهل وسوء معرفة ونقص في المعلومات ، فتنقسم الى الدروس الأسبوعية النظرية والدروس الأخرى التطبيقية ،ما يحتم على الطالب أن يعزز زاده العلمي بالكتب والمعارف ما بين الدرسين حتى يطلع على الموضوع من كل جوانبه وحتى يتعلم فضيلة البحث والقراءة ،بل وفي ذلك الوقت كانت المكتبات السوفياتية توفر تسجيلات صوتية للكتب ليس للمكفوفين وضعاف البصر بل لمن لا تستهويه القراءة كثيرا لعله “يصاب ” بشغف القراءة .

ومن تم تحبيب القراءة لدى الأطفال واليافعين والشباب وعموم الناس ،وبالتالي بناء الإنسان معنويا وثقافيا ،مسألة معقدة ومتشعبة ومتشابكة وصعبة لكن ليس مستحيلا ، ويحتاج الى تربية ذكية من الصغر وجهة مضني وبالغ ،خاصة ونحن نعلم ،للأسف الشديد ، أن معدل القراءة بالمغرب لا يتعدى بالنسبة للفرد عشر صفحات في السنة .

مقال خاص لصحيفة قريش – لندن 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com