قراءات في المنجز الفني المعاصر العالمي
هيرتس وسمكة القرش التي تحولت إلى أيقونة الفن المعاصر
د.عمر سعدون

فنان تشكيلي وباحث في الفنون المعاصرة
في زاوية مرسمي الكائن بباب السوق، حيث تمتزج رائحة الطلاء برائحة الشاي المغربي المنعنع، تحلّقنا نحن جماعة من المبدعين، حول طاولة خشبية قديمة، نتبادل الأفكار حول الفن، لا باعتباره انعكاسًا للواقع، بل كقوة قادرة على إعادة تشكيله، على انتزاع المفاهيم من أسر المألوف وصياغتها من جديد.

في تلك الليلة الباردة وبين جدران شفشاون الزرقاء، انساب الحديث إلى أعمال الفن المعاصر التي كسرت القوالب التقليدية، وصنعَت خطابًا بصريًا جديدًا، توقفنا عند تجربة داميان هيرست، هذا الشاب البريطاني في سنوات التسعينات الذي خطّ لنفسه مكانة استثنائية في المشهد الفني المعاصر العالمي، حين جعل من سمكة قرشٍ محنطة عملًا يختزل في صمته صخب الحياة والموت، الرهبة والخلود، الإدراك والوهم.

لم يكن العمل الفني «استحالة الموت الجسدية في عقل شخص حي»، مجرد كائن غارق في الفورمالديهايد، بل كان تفكيكًا بصريًا لمفهوم الإدراك ذاته، فحين نتأمل هذا القرش، نجد أنفسنا أمام مخلوق لا يزال يحافظ على هيبته، عالقًا في منتصف حركة لم تكتمل، كأن الزمن تجمد من حوله فجأة، ليحاصره في لحظة لا تنتمي للماضي ولا للحاضر.
إنه ليس مجرد جسد بلا حياة، بل مشهدٌ يربك وعينا، يُظهر الموت في صورة لا تتطابق مع ما نعرفه عنه، فيدفعنا إلى التساؤل:

هل ما نراه أمامنا كائنٌ لا يزال حيًّا في مظهره، أم ميت في جوهره؟
هل هي استعادة للحياة، أم استدعاء لحتمية الفناء؟

في هذا التوتر بين الإدراك والواقع، يصوغ هيرست عمله، ليس بوصفه كيانًا بيولوجيًا، بل بوصفه تجربة ذهنية وحسية تقوّض يقينياتنا البصرية.
يتقاطع في هذا العمل العلمي بالفني، والبيولوجي بالمفهومي، ليخلق معادلة جمالية فريدة، فالقرش ليس مجرد عنصر بصري، والفورمالديهايد ليس مجرد مادة حافظة؛ بل هو وسيط زئبقي يخدع العين، يمنح الكائن وهم الاستمرارية، وكأنه على وشك الانطلاق، لكنه في الحقيقة مسجون داخل سكونٍ أبدي. بهذه الحيلة البصرية، يصنع هيرست مفارقة بين ما نعرفه وما نشعر به، بين الخوف والانبهار، بين الحياة والموت وقد امتزجا في مشهد واحد. إنها تجربة تضعنا أمام المألوف، لكنها تجرده من بداهته، تجعلنا نشك فيما نراه، ونُعيد التفكير في علاقتنا بالزمن، بالمصير، وبقيمة الأشياء التي تبدو ساكنة ولكنها تتغير في جوهرها.
ومع مرور الزمن، حين بدأ جسد القرش الأول بالتحلل، برز سؤال جديد:
هل يتلاشى الفن حين تفقد مادته الأصلية كينونتها؟ قرر هيرست إعادة إنتاج العمل مستخدمًا قرشًا جديدًا، في تحدٍّ غير مباشر لمفهوم ثبات العمل الفني، هل الفن هنا في مادته أم في فكرته؟ هل يبقى العمل هو ذاته، حتى لو تبدّلت عناصره الفيزيائية؟ في هذا القرار، كشف هيرست عن حقيقة جوهرية: إن العمل الفني لا يُختزل في مكوناته، بل في أثره الذي يظل قائمًا، حتى وإن تبدلت وسائله، وهكذا تصبح استمرارية العمل ليست مجرد محاولة لحفظه، بل تأكيدًا على أن جوهر الفن لا يرتبط بماديته، بل بالأسئلة التي يثيرها، وبالدهشة التي يتركها في أذهاننا.
ما صنعه هيرست لم يكن مجرد عرض لكائن محنط، بل تفكيكًا لعلاقتنا بالموت، ودفعًا للمشاهد إلى مواجهة غير مألوفة مع الفناء. في هذا العمل، لا يقدّم الفنان تفسيرًا للموت، بل يضعه أمامنا كتجربة بصرية ملموسة، نجول حولها كمن يراقب الغياب وهو في ذروته الحضور.
وبينما نقف أمام الصندوق الزجاجي، مأخوذين بسحر هذا المشهد المتجمد، نجد أنفسنا أمام معضلة جمالية: هل هذا الفن يمجّد الحياة، أم أنه يجعلنا نُواجه هشاشتنا أمام الزمن؟ هل يُبقي الأشياء حيّة، أم أنه يوثّق موتها بطريقة تجعلنا نراها وكأنها لم تمت؟ في هذه المنطقة الرمادية، بين الإدراك والحقيقة، بين الخوف والانبهار، يكمن سرّ هذا العمل، الذي يظل شاهدًا على قدرة الفن على إعادة تشكيل علاقتنا بما نظنه خالدًا، لكنه في جوهره زائل.
صورة 1 : الفنان داميان هيرست
الصورة : 2 – 3 و 4
1991 دامين هيرتس، استحالة الموت الجسدية في عقل شخص حي
داميان هيرست، الموت المرفوض، 2008
المقال خاص لصحيفة قريش – لندن