لندن -قريش:

صدرت للكاتبة الألمانية -الفلسطينية سناء مكركر-شفبرت مجموعتها القصصية الثانية بعنوان
ذاكرة العين
عن دار نشر إيليكس، برلين .
وضمت المجموعة خمسين قصة قصيرة، مترجمة من العربية إلى الألمانية.
مع ستة عشر رسماً بالحبر الهندي للفنان ستيفان فيدلر.

والقصص تتميز بالتركيز والتكثيف اللغوي بالرغم من اللقطة المختزلة تتضمن ازمانا عميقة متداخلة فيها تجمع ما بين النفسي والاجتماعي، في علاقة الانسان مع هذا العالم الذي يبدو فيه غريبا برغم الضجة الهائلة فيه .
والكاتبة سناء مكركر-شفبرت، ولدت في بيت لحم (فلسطين)، درست الأدب الإنجليزي وعلوم التربية في بيت لحم، عملت كمدرسة للغة الإنجليزية في ألمانيا وخارجها، وتعمل حالياً كصحفية. تعيش مع أسرتها في برلين..
“تكشف النصوص القصيرة ثنائية اللغة، بالعربية والألمانية، عن ملاحظات ذكية للقاءات عابرة في الحياة اليومية للمدينة الكبرى، عن الوطن وفقدانه، عن الوحدة والعلاقات الإنسانية. […] نصوص سناء مكركر-شفبرت تنبع من نوع من الإلهام وتشكّل بالنسبة لها وسيلة للتعامل مع الماضي. لا يمكنها العودة بشكل دائم إلى وطنها الفلسطيني. إن الشوق إلى الوطن والشعور المستمر بالغربة يلازمان حياتها. ولذلك، ليس من المستغرب أن تسود القصص نغمة خفية من الشجن.
انها نصوص قصيرة، ثنائية اللغة، تنبض بالمشاعر والتأمل، تتناول موضوعات إنسانية مثل اللقاءات العابرة في المدينة، الوطن والغربة، الوحدة والعلاقات البشرية.
ذاكرة العين هو الكتاب الثاني للكاتبة بعد إصدارها الأول “لو كانت الأرض جميلة، لما كان الله في السماء 2019
خصت الكاتبة الصحيفة بنشر ثلاث قصص من مجموعتها ذاكرة العين :
المدينة الحالمة
في يومٍ كانتْ تُحتَضَرُ فيه الشمسُ، وتُطْلِقُ فيه العنان لموجةِ البرد القارسة، وجدتُ نفسي على أحد جسور مدينة الغموضِ والسِّحر، وأنا أمسكُ بصورةٍ، وأراقبُ المارةَ علني ألمحُهُ بينهم.
قال لي إنه سيرتدي كوفية حتى أميزَهُ بين الناس ثم رأيتُهُ، وهو يبحث عني بين العابرين، فاتجهتُ إليه، وأنا أنادي عليهِ إلى أَنِ التفتَ إليّ. تقدَّم نحوي بخطًى بطيئة، وكأنه يريد أن يكسبَ بعض الوقت حتى يستعدَّ لهذا اللقاءِ الذي لم نخطط له من قبل. صافحني، وطلبَ مني مرافقتَه إلى أقربِ مقهى. جلسنا في زاوية تُطلُّ على نهر فلتاڤا، وقد بدأَ يستعيد سكينَته التي سلبتها منه نظرات السيّاح المتطفلة طَوال النهار.
حاولتُ أنْ أبادرَ بالكلامِ كي أزيحَ عنه عِبءَ الإحراجِ الذي كان قد بدأ يرخي بظلالهِ على قسماتِ وجههِ بينما كنتُ أسترجعُ تلكَ الحكاياتِ التي كانت تلوكُها الألسنُ عنه، وعن ذكائه الخارق، ووسامته الأخاذة التي بدتَ لي مثلَ سَماءِ هذا النهار، وقد خذلتْها شمسُها.
أخرجتُ الملفَ الكبيرَ الذي أعطتني إياهُ والدته في آخِرِ زيارةٍ قمتُ بها إلى الوطن، وتذكرتُ دموعَها، وهي تتوسلُ إليَ كيْ أبحث عنه، ولم تخبرني إلا باسمهِ الثلاثي، وبقصةٍ تربطهُ بالعاصمة الشيكية براغ، وبعنوانٍ كانتْ تبعث إليه برسائلها، فوعدتُها بأنْ أبذل قصارى جهدي للبحث عنه. بعد محاولات مُضنية وصلني ردّهُ المفاجئ، فاتفقنا على هذا اللقاء.
أخذ مني الملفَ، وهو يتأمل البخار الذي كان يتصاعد من فنجان قهوته، ويداهُ تمسحانِ ظهْر الملف، وكأنه كانَ يتحسسُ وجهَ والدته.صمتُهُ العميقُ دفعني إلى احتساءِ قهوتي على عجلٍ ثم وقف لمصافحتي، فودَّعته، وانصرفتُ إلى حال سبيلي.
عبرتُ الجسر الساحر إلى الضفة الأخرى من النهر للّحاق بقطار العودة، ومعي صورة رَجُل أضاعَ ملامحَه، وأضاعَ معها قصته في مكانٍ مجهول. كنتُ، وأنا في الطريق إلى القطار، أنبهرُ بمدينة وقعتُ في حِبالِ حبِّها، فصرتُ أرتاد عليها بينَ حينٍ وآخر.
المتشرد
كان يجلس دائمًا على المقعد نفسه في محطة الحافلات بملابسه الرثة، ومعطفه المهترئ، وحذائه المرهق، وقبعته الحمراء التي كان يسخر بها من سادية الشتاء. نعم، كان متشردًا. هكذا يسمونهم هنا. كان يلقي التحية عليّ كلما اقترب من باب المتجر القريب من المحطة التي اختارها لتكون ملجأً له، على الرغم من امتعاضه من الحافلات وانتظارها. كان يَعتبر المتذمرين من استيلائه على مكان جلوسهم حمقى أمضوا نصف حياتهم في انتظار حافلة للنزول في محطة أخرى.
حاولت أن أتهرّب من نظرته عندما كان يلقي التحية عليّ حتى لا أشجعه على تبادل أطراف الحديث معي، فأنا لا أختلف عن الجميع. أريد أن أنجز مهماتي في أسرع وقت ممكن، ولا وقت لي لأهدره مع أشخاص مثله.
بقيت على هذه الحال حتى التقيت به في بداية ربيع السنة الماضية، وهو يتصفح الكتب المعروضة في المكتبة التي أرتادُها. تجاهلته لضيق وقتي، وانشغلت بكتاب عن تاريخ بروسيا، فنظر إليّ، وطلب مني بنبرة عالية ألّا أكترث بكتب التاريخ؛ لأننا لم نتعلم منها شيئًا.
كنتُ أريد أن أعطيه بعض النقود، غير أن الكبرياء الذي كان يفيض من عيْنيْه منعني حتى من التفكير في الاقتراب من محفظتي.
قرأت نبأ موته في الصحيفة المحلية، فهرعت إلى محطة الحافلات، وحين وصلت إليها وجدتها ملآنة بالزهور والشموع. لم يتذمر المارة من ضيق المكان، وإنما كانوا منشغلين بترتيب الزهور كي تتلاءم مع ألوان الشموع.
لقد فاجأني موته السريع، ولكنني لم أستغرب حين قرأت في الصحيفة أنه كان ذات يوم أستاذًا لمادة التاريخ في إحدى جامعات ألمانيا المرموقة.
رتق الثقوب
اِلتقيا في حقل فراولة على حدود البلدين. كانت شابة بولندية خجولة من أصول ألمانية تركت قريتها بحثًا عن فرصة عمل في الصيف لتحقيق حلمها بإكمال دراستها الجامعية. أما هو فكان يعمل من أجل سداد ديون تراكمت عليه بسبب مشاريعه التجارية الفاشلة التي ترك دراسته من أجلها.
كان غناؤه الجميل مصدر بهجة لها في تلك الحقول الصامتة حيث كانت تشاركه الغناء بلهجتها البولندية. ثلاثة فصول صيفية كانت كافية ليقررا الارتباط، مما جعلها تترك حلمها وبلدها لتبدأ معه حياة جديدة في شقة صغيرة في أحد المدن الصناعية غرب البلاد.
التحقت للعمل معه في مصنع لصبغ الأقمشة. كانا يمضيان النهار معًا، أما الليل فكان يقضيه مع فرقته الموسيقية المغمورة في حانة شعبية وسط المدينة يمحو فيها أحداث النهار من ذاكرته، ويعود إليها ثملًا في آخر الليل ليخلع عن نفسه رداء الوداعة الذي كان يرتديه أمام الآخرين.
وبعد سنوات من التعب في رتق ثقوب علاقة تشبه رحلة الغيوم المضطربة، وقبل أن تبدأ التفكير في تحويل جسدها إلى عملة نقدية لسد ديونه المادية المزمنة، قررت رمي تلك القماشة الرديئة المهترئة، وتحقيق حلمها القديم بدخول عالم الخياطة وتصميم الأزياء لتتحول – في وقت قياسي – إلى مالكة لأشهر دور الأزياء المعروفة بجودة أقمشتها.