الرباط – قريش:
في “لهيب الجهات”، لا يكتب محمد بنسعيد رواية فقط، بل يفتّش عن الإنسان في رماده، عن صوته وسط ضجيج العدم، وعن الجهات الأربع حين تتحول كلها إلى غربات. هي ليست حكاية واحدة، بل شظايا ذاكرة مكسورة تنثر رمادها على السرد، وتحثّ القارئ على لملمة المتشظي، لا ليعيد بناءه، بل ليتأمله وهو يتهاوى مثل غبار زمن سحيق.
تنبض الرواية بجسد حامد، بطلها الراحل والمقيم في آن، الغريب في وطنه والمُطارَد في نفسه. في كل سطر من سطورها، نكاد نسمع صرير الأبواب المغلقة، وقع الأقدام الهاربة من ماضيها، وهدير القطار الذي لا ينقل الراكب إلى وجهة، بل يسائله عن هويته وهو يعبر الجهات. إنها كتابة على زجاج الذاكرة المشروخة، في وطن فقد بوصلته، وأبناء فقدوا أحلامهم فصاروا يسيرون في اللامكان.

“لهيب الجهات” ليست رواية عن الفقد فقط، بل عن المعنى حين يتآكل، عن العدل المؤجل، والحق المهدر، والكرامة الموءودة في طوابير الإدارات والمطارات. هي نشيد حزين لوطنٍ يتأمل أبناءه من عتبة باردة، ويتركهم ينحتون شواهد قبورهم بأنفسهم.
بكل ما فيها من صراخ داخلي، ومناجاة صامتة، ومن بوح موجوع، تقترح الرواية شكلاً سردياً مختلفاً، يمتزج فيه الواقعي بالمتخيل، والذاتي بالجمعي، والمأساة بالفلسفة. هي ليست فقط سيرة رجل مكسور، بل مرآة كبرى تعكس وجوه أجيال كاملة خرجت “برا”، كما خرج الأب من مكتب الدولة، وخرج الوطن من قلوبهم تباعًا.
“لهيب الجهات” رواية لا تُقرأ فحسب، بل تُستشعر، تُرتَشف كمرارةٍ معتّقة، تُتأمل كما يُتأمل ليلٌ طويل يُقاومه الحالمون بطلوع الفجر. كتبت الرواية بلغة شفيفة وبتأمل عميق، هنا بعض شذرات منها:
• “بعض القطارات لا تُقلّنا إلى مدن، بل إلى أنفسنا، إلى وجعٍ نسيناه فتذكّرناه عند أول انعطافة في السكة.”
• “الحياة، في جهات كثيرة، لم تكن سوى محاولة فاشلة لتقليد الحلم.”
• “هناك لهبٌ لا نراه، يحترق في داخلنا كلما نادانا الوطن بصوتٍ لا يشبه صوته.”
• “كنا نكبر ونشيخ ونحن نعدّ الظلم ظلاً طبيعياً لأجسادنا، لا نفكر أنه ظلّ سوط.”
• “لم يكن فينا من يحب الرحيل، ولكن الجهات كلها دفعتنا إلى أن نكون غرباء.”
• هل نغادر الأماكن حقًا، أم أنها تستوطننا خلسة وتعيد تشكيل حكاياتنا؟
• متى تتحول الكتابة من فعل تعبير إلى فعل نجاة؟ وهل نكتب لنُشفى أم لنؤرّخ لهزيمتنا بصوتٍ جميل؟