أبو الأسود الدؤلي
سعيد بوخليط

كاتب من المغرب
عندما نستحضر كوكبة الطَّليعة التراثية لعلماء اللغة والنحو العربيين، يبرز من الوهلة الأولى ضمن هؤلاء جميعا ،اسم أبي الأسود الدؤلي رغم أنَّه لم ينعم بنفس الشهرة التي حظيت بها أسماء أخرى،كما تميَّزت المصادر التاريخية حول معطيات حياته وفكره بقلَّتها،شحِّ معطياتها،تضارب رواياتها، تباين معلوماتها بكيفية مفارقة؛قياسا لباقي روَّاد تراث العربية الأوائل.
أنجز سيبويه خلال القرن الثاني الهجري أبواب وهياكل عمله الضخم ”الكتاب”، مما أثار بداية نقاش لازال مستمرا غاية الآن فيما يتعلق بالجذور المعرفية تاريخيا لتشكُّلِ لبنات النحو العربي، ثم تبلور موقفين بخصوص محدِّدات التأويل.
أعاد فريق جذور هذا العلم الجديد إلى أصول يونانية وسريانية وهندية، بينما تمسَّكت جماعة ثانية بأصوله الإسلامية العربية، تحديدا لحظة انصهار مشروع مشترك بين الإمام علي بن أبي طالب وأبي الأسود الدؤلي،بل هناك،من يمتدُّ بهذه الحلقة ضمن سلسلة النحويين العرب،أبعد من أبي الأسود الدؤلي غاية إشارات”نصر بن عاصم”،”عبد الرحمن بن هرمز”،”يحيى بن يعمر”، قصد تقويض آثار التأثيرات الأجنبية،بمعنى آخر لم يكن بوسع سيبويه وقد قاربت المسافة الزمنية الفاصلة عن مرحلة الدؤلي ثمانين سنة تقريبا،إنجاز تنظير بذلك العمق المنطقي والدِّقة البنيوية والشمولية المنهجية،دون وجود إرث لغوي مؤسَّس بشكل من الأشكال،و هاجس معرفي متواتر انتقل باللغة العربية إلى مرحلة نضج البناء والهيكلة النظرية وصياغة الخلاصات.
بدأت أولى ملامح هذا السعي،مع الاهتمام بقراءة القرآن وتدوينه،ثم تطوَّر خلال عصر النبوَّة والخلافة،لاسيما فترة عمر بن الخطاب الذي أمر بتعلُّم العربية قصد تحصينها من اللَّحن،جراء اختلاط العرب بغيرهم :”فلقد نشأت دراسة اللغة العربية الفصحى علاجا لظاهرة كان يخشى منها اللغة وعلى القرآن وهي التي سموها”ذيوع اللحن”.وعلى الرغم من أنَّ تسمية هذه الظاهرة المذكورة لاتشير إلا إلى الخطأ في ضبط أواخر الكلمات بعد إعطائها العلامات الإعرابية الملائمة أشعر بميل شديد إلى الزعم بأنَّ الأخطاء اللغوية التي شاعت على السنة الموالي وأصابت عدواها ألسنة بعض العرب لم تكن مقصورة على هذا النوع من الأخطاء.فأكبر الظنّ أنَّ هذا الذي سموه لحنا كان يصدق على أخطاء صوتية… كما كان يصدق على الخطأ الصرفي … وعلى الخطأ النحوي الذي كان يتعدى مجالات العلامة الإعرابية أحيانا إلى مجالات الرتبة والمطابقة وغيرها،وعلى الخطأ المعجمي الذي يبدو في اختيار كلمة أجنبية دون كلمة عربية لها المعنى نفسه”(1).
في هذا الإطار،حثَّ عمر بن الخطاب ولاته على الأمصار كي يعلِّموا الناس العربية،فبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة،وأبا موسى الأشعري نحو البصرة،بينما جعل معاذ بن جبل على رأس الشام.إذن،مثَّلت هذه المرحلة بداية الاهتمام بالتفكير اللغوي عند العرب.
إنَّه ظالم بن عمرو بن سفيان،الملقَّب بأبي الأسود،ليس نتيجة سواد بشرته بل انتمائه إلى قبيلة الدئل المنحدرة من كنانة جنوب مكَّة،ولد قبل ستة عشر سنة من الهجرة النبوية ومات سنة 69 هجرية،جرَّاء تفشِّي داء الطاعون في مدينة البصرة التي هاجر إليها حقبة عمر بن الخطاب،وقد تولَّى إمارتها والقضاء بعد ذلك فترة علي بن أبي طالب.
عاش أبو الأسود الدؤلي سبعا وثمانين سنة،على وجه التقريب،مثلما أوضحت الروايات التاريخية،بالتالي تباين تحديد رحيله على وجه التدقيق،بين ابن خلكان والسيوطي وأبي الفرج الأصبهاني.
صُنِّفَ ضمن جماعة المخضرمين،بحيث عاش ردحا من العصر الجاهلي ثم اعتنق الدين الإسلامي خلال حياة الرسول لكنه لم يحظ بفرصة لقائه،أخذ الأحاديث عن عمر بن الخطاب،علي بن أبي طالب،أبي بن كعب،أبي ذرَّالغفاري،الزبير بن العوام.كما بوَّأته مختلف الروايات مكانة أولى بجانب وجهاء الشيعة،فقد كان علويَ المذهب،ينتسب إلى زمرة نخبة الشعراء والأذكياء،تمكَّن بعمق من اللغة العربية،تضلَّع فيها،وأبدى قدرة على التحدُّث بجميع اللهجات القبلية،جملة روافد معرفية أتاحت له تحقيق المهام التالية:
*أوَّل من نَقَّط القرآن،وضبطه من ناحية الشكل،كما وضع له الحركات الإعرابية حينما اختلف الناس في قراءته،بحيث وظَّف الحركات ضمن موضعها الصحيح في معرفة المرفوعات بالضم،المنصوبات بالفتح،المجرورات بالكسر.وضع نقطة فوق الحرف للدلالة على الفتحة،ونقطة تحته إشارة على الكسرة،ثم أخرى على يسار الحرف إحالة على الضمِّ،وأخيرا نقطتين فوق الحرف أو على يساره ويقصد بذلك التنوين :”كان قد أحضِر إليه ثلاثون رجلا لمعاونته على هذه المهمة فاختار منهم عشرة،ثم لم يزل يختار منهم حتى اختار رجلا من عبد القيس،فقال: خذ المصحف وصِبْغا يخالف لون المداد،فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف،وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف،وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله،فإن أتبعتُ شيئا من هذه الحركات غُنَّة فانقط نقطتين،فابتدأ بالمصحف حتى أتى به على آخره”(2).
*أسَّس اللغة العربية وأوجد لها قياسا،حينما اضطرب كلام العرب وانتابت سلائقهم الضعف.يقول ابن سلام في طبقات فحول الشعراء :”كان أوَّل من أسَّس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي،وإنما قال ذلك حين اضطرب لسان العرب وغُلبت السليقة وكان سراة الناس يلحنون،فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم”(3).
* هيكل قواعد ولبنات علم النحو العربي،وشرحه وبوَّبه. بهذا الخصوص،طرحت تاريخيا مسألتان تتعلق من جهة بحقيقة تأرجح الروايات حول أسبقية إلهام النحو،بين أبي الأسود الدؤلي وعلي بن أبي طالب،ثم السياقات الفعلية التي بلورت ممكنات التفكير في بداية النحو.
فيما يتعلَّق بالقضية الأولى،يكمن إقرار أقرب إلى الاتفاق العام،بأنَّ تشكيل أولى لبنات التقعيد النحوي للغة العربية،يحيل طبعا على الدؤلي :”يقول السيرافي :اختلف الناس في أول من رسم النحو،فقال قائلون :أبو الأسود الدؤلي،وقيل :هو نصر بن عاصم،وقيل :بل هو عبد الرحمن بن هرمز،وأكثر الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي”(4)،غير أنَّ الأخير يظلُّ في نهاية المطاف تلميذا لعلي بن أبي طالبا ومريدا روحيا له غاية آخر رمق،بحيث بادر إلى وضع النحو بإيحاء منه،لذلك عندما سُئِلَ بهذا الخصوص وقيل له :
-”من أين لك بهذا النحو؟
فأجاب :
“لقِّنت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه”،أو كما جاء في حديث آخر :”ألقى إليَّ عليّ أصولا احتذيتُ بها”.
معنى ذلك،استلهام الأسود الدؤلي،المبادئ الأولى من علي بن أبي طالب،ثم انتقل إلى مرحلة البلورة والتطبيق:”أوَّل من وضع علم العربية وأسَّس قواعده وحد حدوده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام،وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي… وسبب وضع علي عليه السلام لهذا العلم ماروى أبو الأسود.قال :دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام،فوجدت في يده رقعة،فقلت :ماهذه يا أمير المؤمنين؟فقال :إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء،يعني الأعاجم،فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه،ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب :الكلام كله اسم وفعل و حرف،فالاسم ما أنبأ عن المسمى،والفعل ماأنبئ به،والحرف ما أفاد معنى،وقال لي :أنحُ هذا النحو،وأضف إليه ماوقع إليك”(5) .
حينما استعرض الدؤلي منجزه أمام أستاذه،استحسن الأخير صنيعه وأثنى عليه :”ما أحسن هذا النحو الذي نحوت ”،من هنا جاءت تسمية النحو.
من ناحية ثانية،شارك إلى جانب علي بن أبي طالب في معركتي “صفين”(37 هجرية) و”الجمل”(36هجرية)،ومواجهة الخوارج،وأظهر نحوه وكذا ابنه الحسين ثم آل البيت عموما،حبّا وافرا مثلما تكشف عن ذلك مقاطع شعرية عديدة نسجتها قريحة الشاعر الدؤلي،الذي اشتهر أساسا لدى عموم ذاكرة الجمهور العربي،بأشعار ذات مضامين أخلاقية وقيمية،كنّا نعاينها تزيِّن جدران فصول مدارسنا وتؤثِّث واجهات فضاءاتنا التربوية ونحن أطفال صغار،مثل:
يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ
فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها فَإِذا انتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ
فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ
فاِترُك مُحاوَرةَ السَفيهِ فَإِنَّها نَدمٌ وَغِبُّ بَعدَ ذاكَ وَخيمُ
وَإِذا جَريتَ مَع السَفيهِ كَما جَرى فَكِلاكُما في جَريهِ مَذمومُ
وَإِذا عتِبتَ عَلى السَفيه وَلُمتَهُ في مِثلِ ما تأَتي فَأَنتَ ظَلومُ
يقول أيضا :
وَما طَلَبُ المَعيشَةِ بِالتَمَنّي وَلَكِن أَلقِ دَلوَكَ في الدَلاءِ
تَجِئكَ بِمِلئِها يَوماً وَيَوماً تَجِئكَ بِحَمأَةٍ وَقَليلِ ماءِ
وَلا تَقعُد عَلى كُلِّ التَمَنّي تحيلُ عَلى المقدَّرِ وَالقَضاءِ
تكشف دواخل أبي الأسود الدؤلي بكيفية عفوية،عن حبِّه للنبيِّ محمد وأهله :
أُحِبُّ مُحَمَّـــــدًا حُبًّا شَدِيــــــدًا وَعَبَّاســـــًا وَحَمْــــــــزَةَ وَالـوَصِيا
بَنو عَــمِّ النَّبـِــيِّ وَ أقْـــــــرَبِيــــــهِ أَحَبُّ النَّـــــاسِ كُلِّهِـــمِ إِلَـــــــيَّا
فَاِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْــــدًا أُصِبْـــهُ وَلَسْتُ بِمُخْطِــئٍ إِنْ كَانَ غَـيًّا
هُمُ أَهْلُ النَّصِيحَـــةِ غَيْـرَ شَكِّ وَأَهْــلُ مَـــوَدَّتِي مَا دُمْتُ حَــيًّا
رأيـــــــتُ اللّهَ خالقَ كلَّ شيءٍ هداهمْ واجتبـــــى منهم نبيَّا
جاء بعض رثائه لعلي بن أبي طالب:
ألاَ أَبْلِغْ مُعَاوِيَــــةَ بْــنَ حَــــرْبٍ فَلاَ قَــــرَّتْ عُيُـــونُ الشَّامِتِيــــنَا
أَفِي شِهْــرِ الصِّيَـامِ فَجَعْتُمُـــونَا بِخَيْـــــرِ النَّاسِ طُــــرًّا أَجْمَعِيـنَا
قَتَلْتُمْ خَيْـــرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَذللها وَمَنْ رَكِبَ السَّفِينَا
إذا استقبلتَ وجهَ أبــي حسينٍ رأيتَ البدرَ راقَ النــاظرينا
لقد علمتْ قريشٌ حيـث كانت بأنّكَ خيــــــرهم حسباً ودينا
كـــــــأنّ الناسَ إذ فقدوا علياً وحسنَ صلاتِه في الراكعينا
فلا واللهِ لا أنــــــــــسى علياً نعامٌ جالَ فــــــــي بلدٍ سنينا
تبكِّي أُمَّ كلثوم علــــــــــــــيه بعبرتِها وقد رأتِ الـــــيقينا
ولو إنا سُئلنا الـــــــــمالَ فيه بذلنا المــــــــالَ فيه والبنينا
أما بخصوص رثائه للحسين بن علي ،فتقول إحدى الشواهد الشعرية :
يا ناعيَ الدينِ الذي ينعي التقى قُم فانعِه والبيتَ ذا الأستارِ
أبني عــــــــــليٍّ آلَ بيتِ محمدٍ بـ(الطّف)ِّ تقتلهمْ جفاةُ نزارِ
عموما،بالنسبة للجانب الشعري عند أبي الأسود الدؤلي،الذي تشكِّل نصوصه بدورها رافد لغويا ثريّا،ووثيقة لاغنى عنها قصد فهم واستيعاب جانب من أحداث فترته والتحوُّل السياسي من المرحلة النبوية إلى مرحلة بداية الدولة الأموية ثم جلِّ الصراعات الإيديولوجية والمعارك المذهبية والعسكرية التي شهدتها الفترة،أقول بأنّ هذا الإرث اشتغل عليه تجميعا وتوثيقا كل من الأصمعي،ابن جني،و أبو عمرو،والسكَّري.
بالعودة إلى الإشارتين الواردتين سابقا،حول الوضع التراتبي إن صحَّ التعبير،بين علي بن أبي طالب والدؤلي،بخصوص هوية صاحب إرساء لبنات للنحو،تؤكِّد الرواية التاريخية الأساسية،بأنَّ عليّا يعتبر الأستاذ الأول،ولعل جواب الدؤلي عن سؤال :”من أين لك هذا العلم؟فجاء تأكيده بقوله :”لُقِّنْتُ حدوده من علي بن أبي طالب”،ربما هو أقرار صريح يحسم إشكالية الريادة.لكن،توجد حكايات أخرى تنافس الأصلية،تشرح أسباب تبلور خطاب النحو :
*الخطأ الإعرابي الذي اقترفه أحد الأعراب،خلال ولاية عمر بن الخطاب،حين قراءته سورة التوبة :”أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ”،ذلك أنَّه كسر حرف اللام في رسوله بدل الضمّ بالتالي تغيَّر معنى الآية،وبدا كما لو يتبرَّأ الله من الرسول.فأصدر عمر بن الخطاب أمره كي لايقرأ القرآن سوى من يعرف اللغة العربية،وأن يضع أبو الأسود الدؤلي النحو،ويعلِّم أهل البصرة الإعراب.
*اقترح أبو الأسود الدؤلي على والي البصرة زياد بن أبيه،اتِّخاذ مبادرة أن ينجز للعرب مايتيح لهم إمكانية معرفة كلامهم،حينما لاحظ فساد لسانهم نتيجة اختلاطهم بالأعاجم :”فقال له :إنِّي أرى العرب قد خالطت الأعاجم وتغيَّرت ألسنتهم،أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون– أو يقيمون- به كلامهم.وقيل :بل إنَّ رجلا لحن أمام زياد أو أمام ابنه عبيد الله،فطلب زياد أو ابنه منه أن يرسم للناس العربية”(6). بداية رفض بن أبيه اقتراح الدؤلي،لكن حدث صدفة أن أتى زياد بن أبيه،رجل يشكو له وضعية معينة وخلال حديثه، قال:
”أصلح الله الأمير،توفي أبانا وترك بنونا”.
فأجابه زياد بنبرة تضمر استنكارا لخطئه اللغوي :”توفي أبانا وترك بنونا !”
حينها استدعى زياد الدؤلي مرة أخرى،كي يقول له التالي :”ضع للناس ماكنتُ نهيتكَ عنه”. هنا انطلق مشروع النحو.
*رواية أخرى تكشف بأنَّ ابنة الدؤلي،خاطبته بقولها: ”ماأحسنُ السماءِ!”،فجاء جواب الأب ”نجومها”.لكنها تداركت فورا،سوء الفهم من خلال الجواب المطروح،مادامت ترغب أساسا في إظهار التعجب من حسن السماء،وليس الاستفهام.هنا تدخَّل الدؤلي الأب واللغوي؛الذي يكره اللحن،ونبَّه ابنته لخطأ جملتها،وضرورة توظيفها عبارة :”ما أحسنَ السماءَ !”.موقف،حَدَّدَ بداية تقعيد اللغة نحويا،وكان باب التعجُّب منطلقا لهذا العلم الجديد.
*نفس الرواية،لكن بصيغ أخرى وعبارات مختلفة،ذلك أنَّ ابنته قالت له :”ياأبتِ ماأشدُّ الحرِّ !في يوم شديدِالحرِّ”.أجابها الدؤلي بقوله :”إذا كانت الصَّقْعَاء (الشمس)من فوقك،والرَّمْضاء من تحتك.فقالت : إنَّما أرَدْتُ أنّ الحَرَّ شَديدٌ.لقد توخَّت أصلا التعجُّب ولم يكن هدفها طرح السؤال،لذلك أعاد صياغة بنية جملتها،وأشار عليها بضرورة قولها:”ما أشَدَّ الحَرَّ”.
إجمالا،قد نخلص فيما يتعلق بالسياق التاريخي الذي تبلور ضمنه منجز أبي الأسود الدؤلي إلى مقدمات كبرى،هي :
*ارتباط نشأة أولى بواكير النحو العربي بانتشار الإسلام والاهتمام بالنص القرآني،في إطار تدوين المصاحف وتعليم العربية.
*الانتباه إلى قضية اللحن وضرورة التصدي له خلال عصر الخلفاء،مع بداية فترة عمر بن الخطاب،الذي أوصى ولاة الأمصار بتعليم الناس قراءة القرآن،عبد الله بن مسعود(الكوفة)،أبي موسى الأشعري (البصرة)،معاذ بن جبل(الشام)…،فبدأت ملامح تشكُّل الدراسات اللغوية العربية :”كان عمر بن الخطاب أكثر الخلفاء الراشدين استنكارا للحن،وحِدَّة في مواجهة من يقع منهم،حتى إنّه يأمر بضربهم.وصار التأديب بالضرب عقوبة مقرَّرة لمن يقع منهم اللحن،فهذا علي بن أبي طالب يضرب الحسن والحسين على اللحن”.(7)سعي بدا حثيثا من خلال عبارتين شهيرتين منسوبتين لعمر بن الخطاب،ضمن عبارات أخرى تلحُّ على نفس المنحى :”تعلَّموا إعراب القرآن كما تتعلَّمون حفظه”،”تعلَّموا العربية فإنَّها تثبت العقل و تزيده في المروءة”(8).
*تبلور نشاط لغوي،قوامه تعليم قراءة القرآن،كتابته،تعليم اللغة العربية :”خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه”(حديث نبوي).
*وضع الدؤلي علامات أواخر الكلمات في القرآن والحركات الإعرابية،وكذا أبواب الفاعل والمفعول والمضاف.
*الدَّور التأسيسي الذي قام به فعلا أبي الأسود الدؤلي،مستثمرا إرهاصات تراث لغوي بدأت أصوله في التراكم،خلال الفترة السابقة،انتقل إشعاعه من الحجاز إلى العراق.بمعنى ثان،تظل مسألة ريادة تأصيله النحو العربية نسبية :”إنما رسم إعراب القرآن الكريم عن طريق نقط أواخر الكلمات فيه وحمل هذا الصنيع عن أبي الأسود تلاميذه من قراء الذكر الحكيم…،فقد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه،مما جعل بعض القدماء،يظن أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافا منها،وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب لاقواعده كما رسموا نقط الحروف المعجمة من مثل الباء والتاء والثاء والنون”(9).
*أخيرا،حينما لمع اسم أبي الأسود الدؤلي،التفَّ حوله لفيف من التلاميذ نقلوا علمه إلى الأجيال اللاحقة،أقصد تحديدا:ميمون الأقرن،عنبسة بن معدان الفيل،يحيى بن عمر،نصر بن عاصم،عبد الرحمن بن هرمز.
*هوامش :
(1)تمام حسان : اللغة العربية معناها ومبناها،دار الثقافة،ص 11- 12 .
(2)ديوان أبي الأسود الدؤلي : تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين،مكتبة النهضة، بغداد ،الطبعة الثانية 1964،ص 11 .
(3)شوقي ضيف : المدارس النحوية،الطبعة الحادية عشرة،2008،ص 15
(4) نفسه ص 13
(5)أحمد الطنطاوي :نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة،دار المعارف، الطبعة الثانية،ص24 .
(6)شوقي ضيف :نفس المرجع السابق ص13
(7)غانم قدوري الحمد :النحو قبل أبي الأسود الدؤلي.مجلة الحكمة، العدد11،1417 هجرية،ص 411 .
(8)نفسه ص 412
(9)شوقي ضيف :نفس المرجع السابق ص17-16