الفسيفسائي لعيسى ناصري: رواية المرايا المتقابلة

19 أبريل 2025
الفسيفسائي لعيسى ناصري: رواية المرايا المتقابلة

حسن لمين

     تندرج رواية” الفسيفسائي” للكاتب المغربي عيسى ناصري ضمن الأعمال السردية التي توظف البنية البوليسية كمدخل جاذب للقارئ، لكنها لا تلبث أن تنفتح على عوالم متعددة، تتشابك فيها الأبعاد التاريخية والنفسية والاجتماعية والفنية في بناء سردي مركب. ومنذ الصفحات الأولى، يتبدى للقارئ أن الرواية تتجاوز التخييل البوليسي التقليدي نحو مشروع سردي أوسع، يقوم على تفكيك جريمة قتل استعصت على التحقيق الجنائي لمدة عامين، قبل أن يُفك لغزها من خلال المصادفة المحضة.

     تتمثل هذه المصادفة في اقتناء المحقق “مراد” لرواية بوليسية بعنوان الفسيفسائي، كتبها الروائي المغربي عاصم الشبيهي. ما أن ينهي المحقق قراءتها حتى يكتشف أنها تسرد تفاصيل جريمة القتل نفسها التي لطالما أرّقته غموضًا، وتخصّ كاتبة أميركية تدعى أريادنا نويل، قُتلت في مدينة زرهون القريبة من الموقع الأثري وليلي. من هنا، يبدأ التداخل بين الواقع والمتخيل، بين ما هو سردي وما هو تحقيقي، في لعبة أدبية محكمة.

روايات داخل الرواية: البنية المتداخلة

     يقوم البناء السردي للرواية على إدراج ثلاث مخطوطات متمايزة، لكل منها طابعها وزمنها وأسلوبها، وتُجمع في نهاية المطاف في الرواية الإطار (الفسيفسائي)، التي يكتبها القاتل نفسه بذكاء تخييلي حاذق. هذه المخطوطات هي:

  1. ليالي وليلي: وهي مخطوطة أريادنا نويل، الضحية، التي تكتب فيها عن بحثها عن قطعة فسيفساء مسروقة رأتها في متحف اللوفر، لتقودها رحلتها إلى المغرب، حيث تتقاطع مساراتها مع جواد الأطلسي، معلم المدرسة وكاتب إحدى المخطوطات الأخرى.
  2. الفتى الموري: مخطوطة كتبها جواد الأطلسي بطلب من شخصية مجهولة، وتتخذ طابعًا تاريخيًا، إذ تسرد حياة شخصية أمازيغية تدعى “أيدمون” خلال فترة الاحتلال الروماني لشمال إفريقيا. وتبرز فيها جوانب من ثقافة الموريين وفن الفسيفساء، مع بناء سردي يتسم بالوصف البطيء والحفر في الزمن الغابر.
  3. باخوس في العيادة: وهي مذكرات طبيبة نفسية تدعى نوال، تسجل فيها حالات اثنين من مرضاها، تهامي وعياش، اللذين سيتحول أحدهما لاحقًا إلى كاتب قاتل. وتُروى هذه المذكرات بأسلوب مونولوغي يعتمد على البوح والتحليل النفسي، وتفصح عن علاقات مشبوهة تتقاطع فيها الوظيفة العلاجية بالعاطفة والابتزاز.

البنية الفسيفسائية: تقنية وجمالية

     يمثل تعدد المخطوطات واستقلالها السردي مع تقاطعها البنيوي في الرواية الجامعة نوعًا من البناء الفسيفسائي، الذي يقتضي من القارئ تجميع القطع المتناثرة لفهم الصورة الكاملة. وتتجلى عبقرية هذا البناء في كونه لا يكتفي بمراوغة التلقي، بل يُسائل فكرة التأليف نفسها، بحيث يتحول القاتل إلى كاتب يجمع بين الحيلة السردية والجريمة الواقعية، مزيحًا الحدود بين الفعل الروائي والفعل الإجرامي.

     كما تتوسل الرواية بفكرة تناسخ الأرواح والانتقال الزمني من خلال قطعة الفسيفساء، التي تربط بين أيدمون، الفنان الأمازيغي، وجواد الأطلسي، وأريادنا نويل، في علاقة تخيلية تتجاوز الزمان والمكان. وتصبح الفسيفساء رمزًا للهوية الممزقة، والتاريخ المنهوب، والفن المسروق، كما هي الحال في الواقع الثقافي المغربي الذي شهد نهبًا منهجيًا لآثاره خلال فترات الاحتلال والاستعمار.

أبعاد معرفية متعددة

     لا تكتفي رواية الفسيفسائي ببعدها البوليسي، بل توظف عناصر معرفية غنية تستند إلى مرجعيات تاريخية وفنية ونفسية. فهي تقدم قراءة في فن الفسيفساء وتاريخه، وتعرض للغنى الحضاري لمنطقة وليلي، كما تسائل الممارسة التحليلية النفسية، وعلاقتها بالسلطة والهوية والجريمة. وهذا التعدد المرجعي يُخرج الرواية من إطار المتعة الحكائية نحو أفق فكري يعيد مساءلة العلاقة بين الأدب والواقع، بين الجريمة والتخييل، بين المؤلف والمحقق، وبين الضحية والقاتل.

في سبيل الختام

      وصفوة القول إن رواية الفسيفسائي لعيسى ناصري ليست فقط رواية بوليسية تسعى إلى حل لغز جريمة، بل هي ورشة سردية مركبة، تنتج نصًا فسيفسائيًا متعدد المستويات والمرجعيات. إنها تجربة فنية جريئة تنفتح على إمكانات الرواية ما بعد الحداثية، من خلال تقنيات التضمين والتوازي والتناص، وتقدم عملاً أول ينبئ بكاتب يمتلك وعيًا روائيًا متقدمًا، وقدرة على التحكم في خيوط السرد وتوجيهها نحو بناء فني متين ومُشبَع دلاليًا وجماليًا.

عيسى ناصري: “الفسيفسائي”
منشورات ميسكلياني، تونس 2023

كاتب مغربي

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Breaking News
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com