تأملات في قصيدة (ساعة في الخلف)
للشاعر عباس بيضون
ناظم ناصر القريشي

عندما يختلّ الزمن
ماذا لو اكتشفت أن الزمن ليس كما تظنه؟ أن تأخرك عن موعدك ليس بسببك، بل لأن الوقت نفسه قد فاته دوره؟ في لحظات كهذه، لا يعود الزمن مجرد عقارب تتحرك، بل يتحول إلى شعور غامض، كأنه ينساب بين الأصابع بلا شكل محدد. في قصيدة “ساعة في الخلف”، لا نقرأ الزمن بوصفه تسلسلاً، بل نعيشه كخلل، كاضطراب داخلي يجعل الكينونة أقرب إلى ظل منها إلى حضور.
الشاعر عباس بيضون، في هذا النص، لا يكتب عن اللحظة فحسب، بل عن التجربة الوجودية برمتها: كيف تصبح الذات شاردة داخل عالم مألوف لكنه غريب، وكيف يتحول الفراغ إلى بطل رئيسي في المشهد، وكيف تستحيل اللغة نفسها إلى جسد حي، متحرك، مضطرب مثل وعي الشاعر نفسه. كأنك تعيش داخل لقطة سينمائية طويلة، لا تُعرض على الشاشة بل تتكرر داخلك بلا نهاية.
الزمن كمادة شعرية مشوشة
منذ مطلع القصيدة، يطرح بيضون اختلالاً زمنياً مفاجئاً:
“أصل متأخرًا إلى المقهى / في الحقيقة هو الذي ليس في وقته.”
هنا، لا يتأخر الشخص، بل الزمن نفسه، وكأن العالم فقد توقيته الخاص، أو أن عقارب الساعة تتحرك وفق إيقاع منفصل عن الذات.
هذا التشويش يستمر لاحقاً:
“ساعة في الخلف / نصف ساعة إلى الأمام.”
الزمن هنا ليس تسلسلاً منطقياً بل حالة شعورية متأرجحة، لا يمكن الإمساك بها أو تحديد موقعها بدقة. إنه زمن ذاتي، منفصل عن الوقت الفيزيائي، أشبه بزمن الأحلام أو الذكريات، حيث لا يوجد “قبل” أو “بعد”، بل تيهٌ دائم بين اللحظات.
الكينونة المتآكلة: الذات في وضعية هامشية
الذات في القصيدة ليست فاعلة بل مأزومة، هشة، محاصرة بين الجمادات والتفاصيل اليومية.
“ما الذي يجعلنا صغارًا قرب الكرسي؟”
هنا، تنقلب المعادلة: بدل أن يكون الإنسان مركز العالم، يصبح الكرسي هو المقياس. الأشياء تفرض حجمها على الكينونة، والذات تتقلص بدل أن تتمدد.
“إنه لا يستحق تلك الكلمة / أو لا يساويها.”
هكذا، يتحول الجسد من كيان فاعل إلى شيء بلا معنى، بلا سلطة، بلا حضور حقيقي. الذات هنا ليست حتى اسماً واضحاً، بل مجرد أثر، بقايا حضور يتآكل داخل لحظة مشوشة.
مشهدية التفكك: من المنضدة إلى الشرفة
القصيدة تتحرك كما تتحرك الكاميرا في أفلام المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي أو الفرنسي آلان رينيه، حيث الصورة ليست توثيقًا للحدث، بل انعكاسٌ لوعي يتكسر عبر الزمن. الشخصيات لا تتكلم لتُفهم، بل لتؤكد غربتها. التفاصيل اليومية تتحول إلى استعارات بصرية: البيضة، الشرفة، الكرسي – كلّها عدسات متحركة داخل وعي مهتز. تتحرك القصيدة كما تتحرك كاميرا في مشهد تجريبي، متنقلة بين أماكن مختلفة دون منطق زمني أو مكاني واضح:
“تركت نفسي على هذه المنضدة / مع سماعة / لم أقل شيئًا / فمن أين جاء هذا الصوت؟”
السؤال هنا لا ينتظر إجابة، بل يكشف عن انفصال الذات عن نفسها. الشاعر لم يتحدث، لكن هناك صوتاً صدر عنه. من يتكلم إذن؟ الذات أم ظلها؟ هذا الاضطراب الداخلي يذكرنا بأفلام السينما التجريبية، حيث يتشظى السرد، وتبدو الشخصيات كما لو أنها تائهة داخل مشهد متكرر.
الغياب بوصفه حضوراً
أكثر ما يميز القصيدة أن الأشياء حاضرة بوصفها مفقودة:
الساعة تنتظر في الخلف بدل أن تتقدم.
الجسد بلا أمر، بلا إرادة، بلا قدرة على الفعل.
“الخروج مجرد فكرة“ – أي أن الفعل لم يتحقق، بل بقي عالقًا في الذهن فقط.
“ربما لم أملك له جسدًا / أو حتى اسمًا.”
هذه العبارات تجعل القصيدة أقرب إلى مرثية خفية للكينونة الضائعة. الغياب هنا ليس نقصاً، بل البنية الأساسية للنص.
القراءة التشكيلية: صمت هوبر ولوحة بيضون
تتداخل أجواء القصيدة مع عالم الرسام الأمريكي إدوارد هوبر، الذي كان بارعاً في تصوير العزلة والفراغ والانتظار الصامت.
التقاطعات بين القصيدة ولوحات هوبر:
- زمن معطوب: كما الزمن المجمّد في لوحات هوبر، “ساعة في الخلف” تحبس اللحظة داخل إطار مشوه.
- عزلة داخلية: الشخصيات في القصيدة كما في اللوحات، تبدو معزولة رغم وجودها في أماكن مألوفة.
- تفاصيل بلا جوهر: البيضة، الشاي، الشرفة—أشياء تبدو عادية لكنها تفقد معناها، كما تفقد الأشياء قيمتها في لوحات هوبر.
- الفراغ الناطق: الصمت في القصيدة يترك “بقعة“ فوق المقعد، كما أن الفراغات في لوحات هوبر مشبعة بتوتر غير منطوق.
كلٌّ من هوبر وبيضون يعيدان رسم العالم، لا كما هو، بل كما يشعر به الإنسان الوحيد، المتأخر عن زمنه، المتواري في خلفية مشهد بلا يقين.
القصيدة كفيلم داخلي: قراءة سينمائية
لو كانت “ساعة في الخلف” فيلماً، لما كانت تملك حبكة، بل ذاكرة بصرية تائهة. كل مشهد فيها يعرض بصمت، تارة من زاوية نظر داخلية (كاميرا ذاتية (subjective camera، وتارة من عين خفية تتلصص على الذات من الخارج. لا يوجد قطع درامي، بل انتقالات ذهنية كما في الحلم: من المقهى إلى المطبخ، من الكرسي إلى البيضة، من الصوت إلى الغياب. الإضاءة باهتة، الحوار شبه غائب، والمونتاج يعتمد على الإيقاع الداخلي للذات، لا على منطق الحكاية. هي سينما الـ “لا-حدث”، حيث الفراغ هو المادة الخام، والصمت هو البطل.
القراءة الموسيقية: نوتات القلق وصمت الإيقاع
إذا كانت القصيدة تتقاطع بصرياً مع لوحات هوبر وسينمائياً مع الكاميرا التجريبية، فإنها موسيقياً تشبه مقطوعة نسجت من نوتات ناقصة، مترددة، مشوشة. الإيقاع الداخلي للنص لا يخضع لتفعيلة أو وزن تقليدي، بل ينبني على نبض عصبي يتنقل بين التوقف والانسياب، بين القطع والوصل، بين الجملة المبتورة والعبارة المتكاملة.
“كأس شاي يكفي لإنهاء الأمر / صفحة واحدة، صلاة قصيرة” — هنا نجد كأن كل سطر موسيقي يختتم بلحظة صمت، توقف، أشبه بما يعرف في الموسيقى بـ استراحة، ذلك التوقف الذي لا يعني الغياب، بل الامتلاء بالصدى.
الأسئلة المتكررة، والعبارات المتراجعة، وعودة بعض الصور بصيغ مختلفة، تخلق إيقاعاً حلزونياً يجعل القارئ يدور مع النص كما يدور اللحن في أعمال الموسيقى الحداثية، حيث تتكرر الثيمات لكنها لا تعود كما كانت، بل وقد فقدت بعضًا من وضوحها أو زادت غموضاً.
إن لغة القصيدة، في نهاية المطاف، لا تكتفي بأن تكون صوتاً، بل تتحول إلى آلة وترية مهجورة، كل وتر فيها يئنّ بما لا يقال، وكل فراغ فيها يسمَع كصمت يطرق على أبواب الوعي دون استئذان.
اللغة المتحركة: التيه الإيقاعي
اللغة في القصيدة ليست مجرد أداة وصف، بل كيان ينبض ويتعثر، يتراجع ثم يتقدم، يطرح الأسئلة دون انتظار إجابة.
تبدلات الزمن والمقام:
“ساعة في الخلف” ← “نصف ساعة إلى الأمام”
“تركت نفسي على المنضدة” ← “من أين جاء هذا الصوت؟”
هذه التحولات تمنح القصيدة حركة داخلية أشبه بحوار بين الوعي واللاوعي.
الأسئلة المتتالية:
“ما الذي يجعلنا صغارًا؟”
“ما الذي فاتني؟”
“لماذا لا أقدر أن أردها؟”
هنا، الأسئلة ليست للمعرفة، بل لتوسيع مساحة الضياع والتأمل.
تفتيت الجمل والإيقاع الداخلي:
“كأس شاي يكفي لإنهاء الأمر / صفحة واحدة، صلاة قصيرة / ثم علينا أن نخرج.”
الإيقاع هنا مقطع، متردد، كنبضات القلق.
النتيجة: اللغة لا تصف حالة الضياع، بل تعيشها، تجعلها ملموسة داخل بنية القصيدة نفسها.
الشفرة الإبداعية في القصيدة: المعنى بوصفه أثراً
القصيدة لا تبني معناها بطريقة مباشرة، بل عبر التفكيك والانزلاق الزمني واللغوي.
الزمن كمادة سائبة: ليس خطياً، بل هش، ينهار داخلياً.
الذات كأثر: ليست واضحة أو مكتملة، بل متشظية، مجرد ظلال على المشهد.
اللغة كمجال للتيه: لا تمنح يقيناً، بل تسحب القارئ نحو الفراغ.
قصيدة كهشاشة وجود
“ساعة في الخلف” ليست تأملاً في لحظة عابرة، بل تأمل في هشاشة الوجود الإنساني نفسه. قصيدة عن كينونة متأخرة، وجسد منسي، وصوت يصدر دون أن نعرف مصدره.
في عالم بيضون، لا الزمن واضح، ولا الفعل مكتمل، ولا الذات قادرة على استعادة حضورها. هي نص/فيلم/لوحة لا تنتهي، بل تتركنا في منتصف سؤال لا يريد جواباً.
نغادرها كما ندخل حلماً لا نعرف إن عشناه أم تخيلناه، وكل ما يتبقى هو صدى سؤال يتردد داخلنا:
من نحن، إذا تأخر الزمن، وتقدمت ظلالنا علينا؟