«شموس بن تميم».. وعصور «المُتنبِّي»

18 أبريل 2025
«شموس بن تميم».. وعصور «المُتنبِّي»

خالد عمر بن ققه

كاتب واعلامي جزائري مقيم في الامارات


في رحلة إلى الجزائر كانت أقرب إلى الخيال، جاءت بعد أزيد من ثلاثين عامًا من خروجي منها أترقّب إلى مصر أوَّلًا، ثم إلى الإمارات ثانيًا، استمتعتُ بمشاهدة حلقة من حلقات «مكتبات زي البرلنت» على اليوتيوب، إعداد وتقديم الدكتورة «برلنتي قابيل»، حملت عنوان: «زيارة إلى مكتبة د. على بن تميم».. وما أروعها من زيارة!.

تفاعلي مع الحلقة له عدة أسباب، منها: حلول الربيع الجزائري يختال ضاحكًا بين الصمت المطبق حينًا والكلام المباح إلى حد الصراخ حينًا آخر، حيث تقلبات المناخ بين الصحو والمطر، وفي الأيام الأخيرة هبوب النسائم الكاشفات عن رياح لم تكن يومًا في الجزائر عاتيةً إلا قليلًا، هذا على المستوى الطبيعي، وقد تعايش مع سبب وجداني، حيث إنني أكن للدكتور على بن تميم، وللدكتورة برلنتي محبة خاصة وخالصة.

تلك العلاقة مرتكزها المعرفة والشّراكة الأدبية، والتفاعل مع نبل المقاصد والأهداف، وهناك سبب ثالث: مرجعي، يتعلق بمتابعة لبعض مما يكتب على بن تميم ويتحدث به في مجالات الفكر والأدب والنقد، وما يظهره في تقليد جميل هو أقرب إلى الوراثة لكل ما هو متعلق بالتراث والفروسية وصناعة الحياة من العرب الأوائل، جمعها كلها في مكتبته «الشموس»، وقد سبق لي زيارته فيها، وإجراء حوار معه لبرنامجي «شيء يذكر» يصحبنا فيها صهيل خيوله، ونباح كلابه، وأصوات مطربين اختارهم بوعي، تحرّك الأشواق إلى عودة ما كنا نرى لها منقلبًا في زمن الحداثة وما بعدها.

لتلك الأسباب جميعها تفاعلت مع حديث بن تميم وشرحه، حيث يعبّر ها هُنا متخلِّصًا من قواعد البحث الأكاديمي دون أن يخلَّ ـ نقصانا ـ في طرح القضايا المعرفية من واقع رؤيته الخاصة، المتعمقة، والذّاهبة إلى حيث فضاء البحث في الجذور، والعائدة بما يُشْفي الأنفس من خلال تقديم إجابات قاطعة من حيث دلالتها، والسّابحة في بحور البحث بغية الوصول إلى مرافئ وضفاف الأمان المعرفي، مُنهية للشك، ونَافية للظن، ومُتمكنة من اليقين.

هنا.. علينا الوقوف عند إجابات بن تميم، المستفيضة في الشرح، عبر استجابة طوعية لأسئلة مركزة من برلنتي قابيل يخالها غير المتخصص عادية، لكن في حقيقتها جامعة ومعبرة عن بحث مرجعي، الهدف منه تبيان مكتبة بن تميم الداخلية الخاصة التي جعلت منه مدرسة تشد إليها الرحال، وتلك الأخرى التي تجمعت فيها عصارة الكتاب والأدباء، والشعراء، والأدباء الأولين، والآخرين.. وما أكثرهم.

بالنسبة لي ليس مُهمًّا ما احتوته مكتبة بن تميم في «الشموس» من الناحية العددية ولا حتى النَّوعيَّة، فقد يكون لدى غيره من الباحثين والكتاب ما هو أكثر منه، إنما ما يعنيني هو تجاوبه مع فكر الآخرين واستحضاره ثم تطويره، على النحو الذي جاء في حواره هنا مع الشاعر أبي الطيب المتني، بما يشِي بامتداده عبر العصور، حيث تلاقت فيه مشاعر العرب القدماء، عند ظنهم بأن نبيهم شاعر، وجزمهم في وقت لاحق ـ بعد قرون من نزول الوحي ـ بأن شاعرهم متنبي «كما جاء في حديث بن تميم، تماما كما عند البعض في عصرنا هذا».

يذكر على بن تميم «أن المتنبي هو أول من جمع بين الخيل والكتاب، وبين القوة والحركة والكتاب الذي يحتاج إلى سكون وتأمل وقراءة، وهذا هو الذي قادنا إلى تسميّة هذا المكان الشموس»، لأن أبا الطيب يقول:

بأَبي الشُموسُ الجانِحاتُ غَوارِبا اللابِساتُ مِنَ الحَريرِ جَلابِبا

المَنهِباتُ قُلوبَنا وَعُقولَنا وَجَناتِهِنَّ الناهِباتِ الناهِبا

الناعِماتُ القاتِلاتُ المُحيِيا تُ المُبدِياتُ مِنَ الدَلالِ غَرائِبا

«بن تميم» لا يكتفي بالنظر إلى المتنبي من زاوية حب له ولشعره، وإنما يراه في رحلة الزمن حاضرا اليوم بيننا، ومتجليا في عصرنا، «حتى إن سمعة خيله وصلت إلى القمر حينما استشهدت وكالة (ناسا)، الأمريكية، ببيْته الشعري الشهير، الذي قاله في ثراء مهره العزيز إلى قلبه:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ

هكذا إذن، يحضر المتنبي في مكتبة على بن تميم، مثلما هو حاضر دائمًا قي قلبه وعقله، وهذا الحضور العصري يجعلنا من ناحية الصمود لا نخشى ما يحدثُ اليوم من صراعات دوليَّة، ربما نكون نحن وقودها وضحاياها، لذا علينا أن نأخذ العبْرة في حاضرنا من قول المتنبي، وتحديدا من قصيدته السّابقة، التي عبّرت عن هدف «ناسا»، وذلك في قوله:

فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

سَتَبكي شَجوَها فَرَسي وَمُهري صَفائِحُ دَمعُها ماءُ الجُسومِ

يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ

وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ

عن المصري اليوم

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Breaking News
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com