رأيٌ في اللُّغة ..«7»
أموت ُوفي نفْسِي شيءٌ من (حَتَّى) ..
بقلم: أيمن فضل عودة

«أموت وفي نفسي شيء من حتى» هي مقولة لأبي زكريا الفرّاء – على الرأي الراجح- أحد أئمة المدرسة الكوفية في النحو ومن مؤسسيها، يصعب أن يغفل عن مقولة كهذه متخصص في اللّغة العربية. وإن وجدتَ عنها غافلا فالأعجب أن يغرب عن باله مقولة أخرى في (حتى) يتغنّى بها العلماء والدارسون للّغة العربية في قولهم: «حتى حَتْحَتَتْ عقول النحاة». ولطالما سمعتَ من المعلِّمين والمهتمين باللغة العربية والمتخصصين فيها، سمعتَهم يتمازحون في أحجية إعرابية لـ (حتى) في قولهم: «أكلتُ السمكة حتى رأسها»؛ أتأتي برفع أم نصب أم كسر كلمة (رأس). وهذه الأخيرة مثال تعاورته أمهات المراجع النحوية، ويكاد لا يخلو منه مرجع معتبر، في شرح (حتى) وما يعتريها من عويص النحو.
تلك هي مقولات ثلاث مأثورات في (حتى)، من المحال أن يذهل عنها، أو على الأقل عن واحدة منها، دارس للّغة العربية بَلْهَ العالمين فيها وذوي الاختصاص. فهي مقولات – لا سيما الأخيرة منها- ترقى لأن تكون من قبيل ما يُتَعَبَّد به في صناعة النحو ودراسته، ولا بدّ لكل دارس للّغة أن يكون قد مرّ عليها أو مرّت هي عليه في مرحلة من مراحل اهتمامه باللغة العربية.
وما كل هذا إلا لتنوع (حتى) واختلاف الحالات الإعرابية فيها وفيما يليها، فلها من حيث المعنى دلالات مختلفة: فمنها الغائية ومنها التعليلية ومنها الاستثنائية، وأما من حيث العمل الإعرابي فهي إما عاطفة وإما جارّة وإما ابتدائية، فقد تَرفع وقد تَنصب وقد تَجرّ ما بعدها، بناء على معناها ودلالتها. ولها مع الفعل المضارع حالات وحالات.
ففي قولنا «أكلت السمكةَ حتى رأسها»، نقول (رأسُها) على اعتبار (حتى) ابتدائية بتأويل «حتى رأسُها مأكولٌ»، ونقول (رأسَها) على اعتبارها عاطفة بتأويل « أكلتُ السمكةَ ورأسَها»، ونقول (رأسِها) على اعتبارها جارّة بمعنى «إلى رأسها». وفي الحالتين الأوليين يكون الرأس مأكولا بلا خلاف، وأما في حالة الجرّ فقد اصطرع النحاة فيها، أيكون فيها الرأس مأكولا أم لا، فمنهم من قال إنه مأكول ومنهم قال ليس بمأكول؛ وذلك على اختلافهم في معنى (حتى) الجارّة، أيدخل ما بعدها في حكم ما قبلها أم يخرج؟ وهم في ذلك ثلاثُ شِيَع، واحدة تقول يدخل، والثانية تقول يخرج، والثالثة تقول يدخل إن كان جزءًا مما قبل (حتى) وإلّا فلا!
ولك عزيزي القارئ من كل ما سقناه أعلاه أن تستشعر مدى الخطر في التعامل مع (حتى)، وأن الحذر فيها واجب، وأنه لا بدّ قبل الحكم فيها من إزالة كل حاجب؛ ولك من كل هذا أن تفهم السبب فيما قاله فيها الفراء، ولـِمَ حتّت هي عقول العلماء، ناهيك عمّا فعلته في السمكة ورأسها من خفض وإعلاء.
وبعد هذا كله فلا بدّ أن يصيبَك نصيب من الامتعاض أو حتى شيء من الإمراض، إذا جاءك من يدّعون العلم في اللغة العربية ويحمّلون أنفسهم شهادات فيها، ويغفلون عن كل ما سقناه وما أقرّت به أمهات المراجع النحوية مما بيّناه؛ فيُخطّئون جملة كمثل قولنا: «العلماء يتكلمون بأعلى الإشارة حتى يتجاوزون فهم السامعين»، فيرتعدون ويُصأصِئون من ارتفاع الفعل المضارع (يتجاوزون) بعد (حتى) وقد عهدوه منصوبا بحذف النون (يتجاوزوا).
استدراك..
آهٍ من هذا الإغفال ومن هذا التسرع ومن هذا الجهل والإهمال! فكيف لـ «علماء لغة» أن يغفلوا عن حقيقة أن الفعل المضارع بعد (حتى) قد يُرفع وقد يُنصب وقد يجوز فيه الأمران. فيرتفع المضارع بعد (حتى) على اعتبارها ابتدائية، وبشروط وحالات يصعب تفصيلها في هذا المقام، وتمنعنا العُجالة هنا أن نُلِمّ بها كل الإلمام، ولكن من بينها وأهمها أن يكون زمن الفعل المضارع بعدها هو الحال حقيقةً أو تأويلًا لا زمن الاستقبال؛ وتُدعى (حتى) في هذه الأحوال «ابتدائية» أو «لحكاية الحال». وأما معيارها فبسيط، وهو صحة الاستغناء عنها واستبدالها بكلمة «فالآن» أو «فإذا ..» دون أن يعتري المعنى أي اختلال. ومثال ذلك قولنا: «يستمع الطبيب لنبض المريض حتى يَعرفُ وضعَه»؛ كأننا قلنا (فالآن يعرفُ وضعه)؛ ويكون الفعل (يعرفُ) دالّا على زمن التكلم والحال.
وإن كنت تَعجبُ – عزيزي القارئ- من كل هذا، فارجع إلى ما أُثِر عن العرب من أقوال، حيث قالوا: «مرض فلانٌ حتى لا يرجونه»، وارجع إلى حديث عائشة رضي الله عنها وما روته عن الرسول ﷺ في الإهلال، حيث قالت: «رأيت رسول الله ﷺ ركب راحلته، ثم يُهلُ حتى تستويْ به راحلته» بسكون الياء في (تستويْ) على الرفع، واستعن بتوجيه ابن مالك لرواية الرفع هذه في كتابه «شواهد التوضيح»* عسى أن يرتفع عندك كل الإشكال. وإن كان كل هذا لا يرويك أو لا يرضيك، فاستمسك بكتاب الله في قراءة الرفع للآية الكريمة: ﴿ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ﴾ (البقرة 215) فهي لا ريب تشفيك؛ إذ القراءات القرآنية حُجّة في اللغة عند جمهور النحاة دون تشكيك.
وعليه، نستدرك على المخَطِّئين ونقول: قل «حتى يتجاوزوا» على معنى الاستقبال، وقل «حتى يتجاوزون» مستوفيا شروطها على معنى الحال، ولا خطأ!
وبعد كل هذا أعيد الإبداء، على قصدي لا على قصد الفراء، وأقول: «أموت وفي نفسي شيءٌ من حتى، وأما المخَطِّئون فيموتون ولا شيءَ من حتى في نفوسهم».
وليكُنْ شعارنا دائما: وسّعوا ولا تضيّقوا، يسّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفّروا؛ ففوق كل ذي علم عليم!
* هو كتاب: «شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح» أي جامع صحيح البخاري.