حاورها – عِذاب الركابي
بثينة الناصري كاتبة من طراز رفيع !!
الكتابة وطنُها الأمثل ، بسماء من فيروز ، وأرض من كرستال ، والقصّة القصيرة سقفهُ الآمن ، مصدر الإيحاء والتعبير عن الجمال في هذا العالم .. سردها العابر للنفوس ، تنحازُ لها كمغامرة كتابة وحياة معاً ، تجدُ فيها الأصعب وهي تستعذب صعوببتها ، وتفضلها على فنون السرد قاطبةً .
كاتبة متفرّدة في أسلوبها ، لم تذهب إلى الكتابة ، ولمْ تخترها ، بل هي بكل تظاهرات الكلمات وانتفاضات الخيال دقّت على أبواب أصابعها ، وتدخلت في إيقاع قريحتها ، وكانت الكلمات في غفلةٍ من الوقت منطاد النجاة لهذه الكاتبة الكبيرة .
الكتابة لديها حياة الحياة ، وعالم مخمليّ مُمّوسق موازٍ كثيراً لعوالم حقيقية أخرى ! وهي تعيش في اللامكان ، فضاء الأحلام سكنها الدائم ، ومثلما الإبداع في اللازمن ، فهي تشكّل زمنها من خلال الكتابة ، حبرُ الكلمات ورائحة الحروف دافعها للسفر إلى عوالم ، ومدنٍ ، وبحارٍ لم تطأها قدماها إلى على بساط الكلمات الدافئة وعطر الخيال ، تحملها إليها أقادم غجرية تمتلك كل الأمكنة ، وكلّ مكانٍ تحبّه بهيبةِ وطنٍ !!
تكتبُ ولا تتسّلى ، تجلّ الإبداع الجاد الجديد والمثير ، بلْ ترفع له راية، وتصوغ له نشيداً ، روحها الزورق الهاديء ، وهي تسافرُ منهُ إليه ، لاتعبأ بالنقد ، ولاترى فيه ما يمتع و( لالزوم لهُ ) صاخب فاضح في مجاملاته وعلاقات كتّابه النفعية المتبادلة .. والأدب والإبداع سبقا النقد ، والحياة لاتستقيم إلاّ على أوركسترا الإبداع الهادف .. ! خلاصة رؤاها الجميلة !
كاتبة لا تعبأ بسنين عمرها ، مادامت تبدع ، لحظة السباحة في كونٍ فسيح ، أحياناً تجدُ نفسها ذرةً في الكون ، ووفق الإيقاع النرجسي المُحبّب ترى نفسها ( الكون كلّه) .. ولازال لديها – في هذا الحوار– جميل القول وأعمقه ُ.
. كلّ قصّة بالنسبة لي مغامرة في خلق عوالم جديدة .
*القصّة القصيرة وسيلة التعبير الأولى ، والمتنفس الأوحد في زمنٍ يُطوبُ باسم (الرواية) قسراً .. قولي لي لماذا القصّة القصيرة من دون غيرها من فنون الكتابة ؟ أهيالأقدر على الإجابة عن أسئلتك الإنسانية ؟ أمْ ماذا ؟
– مرة قال لي صديق وهو كاتب قصّة قصيرة معروف ثم اتجه للرواية “المجد في الرواية” لم أصدقه ومازلت. كثيرون مثله ربما يرون أن القصّة القصيرة تمهيد لكتابة رواية وأنا أراها فناً مختلفاً تماماً. وأنا ملتزمة بهذا النوع من السرد لأنه يناسب شخصيتي فأنا قصيرة النفس، وأحبّ التغيير باستمرار، والقصّة القصيرة تتيح لي التنقل بين عوالم وكائنات مختلفة ، فكل قصّة بالنسبة لي مغامرة في خلق عوالم جديدة. ثم أني أحبّ الصعب والقصّة فن أصعب من الرواية.
. القصّة القصيرة فنياً أصعب من الرواية .
*ولماذا ليس الرواية (سؤال العالم بكليته) – كما يقول هرمن بروخ ، التي بدا سوقها عالي السعر ، وهي ضالة الناشر وجنونه ، واللهاث على لقب ( الروائي) موضة وطموح ، وما الفارق بين القصة القصيرة والرواية ؟ لدى ماركيز القصة القصيرة أصعب لماذا ؟ وماذا ترين ؟
– القصّة القصيرة بالتأكيد أصعب فنياً من الرواية ، لأنها تصور لحظة حياة مكثفة ومتكاملة الجوانب في عدد قليل من الصفحات. إنها مثل ومضة أو ضربة فرشاة.
. أنا لا أكتملُ إلاّ بالكتابة .
*تقول توني موريسون : ” ما أعلمه وأثق فيه ، هو أنني لم أكنْ لأرغب في مواصلة حياتي ، لو كنت لا أمتلك ما يدفعني للكتابة” .. وكأنّ في الكتابة كلّ أسرار الروح .. لماذا الكتابة ؟ ما الجدوى ؟ وما سرّ الإصرار عليها ؟
– الكتابة عملية خلق. وقد وضعت على ظهر غلاف مجلديّ مجموع أعمالي القصصية اللذين نشرتهما في 2016جوابا عن هذا التساؤل (لماذا أكتب؟) قلت (أكتب لأخلق عوالم جديدة فيها كائنات أتحكم في مصائرها وأحدد مساراتها ، لكن أحيانا تفلت مني فتكتب هي نهاياتها ، فالكتابة مغامرة والحياة مغامرة والموت مغامرة) . لم اختر الكتابة بل هي التي اختارتني ، فهي نوع من القدر، او المصير ، أو الوحي، لا أريد أن اشتط بالكلام ، ولكن الإبداع وحي من الله وبه نتناغم مع
مع الكون. وأنا لا اكتمل إلا بالكتابة.
. الكتابة هي خلق عوالم جديدة موازية للعالم الحقيقي .
*ابتداءً من محموعتك القصصية الأولى ( حدوة حصان) 1974، ومروراً بـ(موت إله البحر) 1977و( فتى السردين المعلب)1991و( وطن آخر) 1995 .. وانتهاء بـ( لماذا لانذهب إلى البحر)2008 ومابعدها مما احتواه مجلد ( كتاب المغامرات) 2016 ، وكأنّ أبطالك يطاردونك في كل مكان حتى التماهي ، أهو حلم الكتابة أم أنها لحظة تشكيل وتأريخ للواقع المعيش وفق عناصر كيمياء الكتابة؟ حدثيني !
– من هذا وذاك. فكل قصة فيها شيء مني حققته أو لم استطع تحقيقه، تستطيع أن تقول كل قصّة فيها خيال واقعي ، تتخيل أحداثا وتخلق لها واقعا ومكانا وزمنا، كما قلت في جوابي عن سؤال سابق: الكتابة هي خلق عوالم جديدة موازية للعالم الحقيقي. وكلما اتسعت خبرات الكاتب بالحياة وبالاماكن وبالكائنات ، تنوعت أحداث قصصه وتفرد أبطاله.
. خيال الكاتب ليسَ لهُ حدود .
*في حوار رائع بين بورخيس وساباتو، يضحي الكون فانتازياً ، وكذلك الواقع والإنسان .. ألهذا يلجأ كتّاب القصّة إلى الفانتازيا ؟ أم أنها أداة وعنصر مهم في بناء القصة القصيرة ؟
– ليس كل قصة، الفانتازيا إذا فهمت قصدك هو الخيال الغرائبي في القصص. أنا كتبت أكثر من قصة فانتازية، أحداث بين التهويم والحلم والواقع ، فيها نساء تطير في سماء الغرفة ، فيها مانيكانات عرض الملابس في المحلات، تبث فيهن الحياة بعد إغلاق المحل ليلا، كتبت قصصا لا تعرف إذا كان البطل فيها شبحا أو شخصا حقيقيا، أو إذا كان الراوي نائما أو يقظا. هي ليست عنصرا مهما في بناء القصة القصيرة ولكن خيال الكاتب ليس له حدود ، وأحيانا أشعر أني أريد أن اجرّب نفسي في كتابة اللامعقول والغرائبي ، هو نوع من تحدي الذات.
. القصّة القصيرة جداً فنّ لم يكتمل في ذهن كتّابه ونقّاده معاً .
*انتشرت هذه الأيام في صحافتنا الثقافية ما يسمّى بـ(القصة القصيرة جدا) كنوعٍ من السرد ، ما رأيك ؟ هل يمكن أن تكون ثلاث كلمات مستوفية لشروط السرد ؟ هل يمكن أن يكون هذا النصّ الهجيني سرداً ، وكتّابهُ لا يتقنون حتى أدواتهم ؟ كيف تقرأين مستقبله ؟ هل يمكن أن يصبح – تحت لافتة التجريب- نوعاً من أنواع التعبير في إبداعنا ؟
– القصة القصيرة جدا لا علاقة لها بالقصة القصيرة ، وليست امتدادا لها أو أن مستقبل القصة القصيرة لابد أن يكون (ق.ق.ج) . هذا فن وهذا فن، أحيانا أشعر أن القصّة القصيرة جدا هي قصة قصيرة لم تكتمل. وقد جرّبت مرة في ندوة كان محورها (ق.ق.ج) يحضرها نقاد جادون، وقرأت لهم ثلاثة أسطر افتتاحية إحدى قصصي القصيرة وسألتهم (مارأيكم؟ هل هذه قصّة قصيرة جدا مكتملة الاركان؟) فأجابوا جميعا بالايجاب. قلت لهم (ولكن هذه مجرد افتتاحية لقصة قصيرة) . أعتقد أن هذا النوع الجديد من السرد لم يكتمل في أذهان كتابه أو نقاده. وقد يكون مستقبلا جنسا أدبيا . لم لا ؟ في السرد كل شيء مسموح ، وأنا أشجع دائما التجريب في الفنون الابداعية.
. المكان الذي أكون فيه مع نفسي هو المكان الآمن لي .
*في روايته الرائعة (الغرنغو العجوز) كتب كارلوس فوينتس يقول على لسان بطله : ” ليس من مكان آمن في العالم” .. ما المكان الآمن بالنسبة للمبدع والفنان ؟ أم أن للحروب الإقليمية المفتعلة ، والنزاعات القبلية ، وجنون السيطرة ، وبشاعة التبعية ، وصخب إيقاع التطرف وقوى التخلف والظلام لها دور في ذلك ؟ ارسمي بورتريها لهذا المكان – الحلم بريشة مبدعة كبيرة !
– القول بأنه ليس من مكان آمن في العالم، صحيح لأن الحياة ذاتها مغامرة. منذ أن يخرج الطفل من رحم أمّه، يعيش مغامرة التشكل في هذا العالم ومحاولة إثبات ذاته والتميز والتعايش مع الكائنات الأخرى. ليس بالضرورة أن تكون الحروب والنزاعات وكل ما ذكرته في سؤالك هي أسباب الخطر فقط. أحيانا يكون الشخص نفسه خطرا على ذاته حين لا يدرك أسباب وجوده ، أو المطلوب منه في الحياة. أما المكان الآمن بالنسبة لي ؟ ليس لدي مكان معين، أنا أصلا أحب التغيير واللا استقرار في مكان معين، أحبّ الحركة والتنقل ، ولهذا تراني أعيش معظم حياتي في سيارتي أقودها من مكان إلى آخر ، وقد تنقلت في بيوت كثيرة ، ولهذا لا أستطيع أن اسمّي أي بيت (بيتي) .. ربما أشبه الغجر في التنقل والترحال، ولكن بشكل عام كل مكان أكون فيه مع نفسي هو مكان آمن بالنسبة لي.
. الترجمة ليست عملاً سهلاً .. هي إبداع أيضاً .
*كانت لك براعة في ترجمة الأدب الإنساني العالمي ، والترجمة خيانة ، يقول بورخيس : ” كلّ ترجمة هي خيانة لأصلٍ فريد لا نظير له” .. وهي وسيلة تواصل حضارية وإبداع ، لماذا يقل لدينا عدد المترجمين المجيدين ، وهم لا يتعدون أصابع اليد الواحدة ، ما الشروط التي يجب توافرها في المترجم الجيد ؟
– المترجم الجيد هو الذي يتقن اللغتين بشكل ممتاز ويستطيع التعبير بهما ، ويستطيع اختيار الكلمات بدقة لإضفاء نفس روح وجوّ النص. ولهذا اعتقد أن الترجمة الجيدة تأتي من تفاعل المترجم بالنصّ الأصلي وبكاتبه، وأفضلُ الترجمات هي التي يتناقش فيها المترجم مع كاتب النص (إذا كان حيا) للتوصل إلى فهم ماكان الكاتب يريد أن يعبر عنه بالضبط. وقد حدث مثل هذا التفاهم بيني والمترجم الكندي الراحل دنيس جونسون ديفز (مترجم نجيب محفوظ والكثير من كبار الكتاب العرب) والذي ترجم لي مختارات من قصصي إلى اللغة الانجليزية نشرتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة. كنتُ أراجعها معه وأشرح له ماذا اقصد بهذه الجملة او تلك ، أشرح له الفرق مثلا بين عباءة المرأة المصرية وعباءة المرأة العراقية ، كيف تلف كل منهما العباءة على جسدها. وذلك حين ترجم لي قصة (القارب) وهي عراقية الأجواء واستخدم كلمات توحي وكأن العراقية لفت العباءة على جسدها بدءاً من كتفها كما تفعل المصرية في الحارة الشعبية. أشياء مثل هذه مهمة في فهم ثقافة المجتمعات التي يكتب منها وعنها كاتب ما. الترجمة ليست عملا سهلا ، هي إبداع ايضاً.
. النقد حالياً ليس جاداً ، ومعظمهُ مهزلة .
*يشكو عديد المبدعين في الساحة الثقافية من قصور النقد والنقاد عن مواكبة هذا التفجّر الإبداعي المتنوع .. قولي لي هل لدينا حركة نقدية جادة ؟ مَن من النقاد العرب يؤسس لهذه الحركة ؟ وكمبدعة كبيرة ولك حضورك في إبداعنا القصصي العربي هل أنصفك النقد ؟
– كلا النقد حاليا ليس نقدا جادا بل هو مهزلة في معظمه. تجارة ومجاملات وتعابير طنانة، أو مقعرة لا يفهم منها القارىء شيئا. زمان كان الناقد يؤسس لتيارات أدبية ويغوص في عمق النص فيستخرج منه حتى ما لم يقصده الكاتب. فالناقد الجاد مبدع أيضا، ولكن النقد بوضعه الحالي (في أغلبه) لا لزوم له. وأنا أشبهه برجال الدين الذين يتدخلون بين رسالة الخالق والمتلقين من البشر، يفسرونها حسب أهوائهم ومصالحهم السياسية أو الذاتية، في حين أن رسالة الخالق كما جاءت في كتبه المقدسة مقصود بها أن تصل إلى قلب المتلقي بدون وساطات. بالنسبة لي ، أقول لك نعم أنصفني النقاد من العراق ولبنان ومصر والأردن وغيرهم.
. أنا كاتبة لا أنتمي إلى المكان إلاّ بجسدي .
* في كتابه ( مدن لا مرئية) يقول الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو : ” المدن مثل الأحلام مكونة من رغبات ومخاوف” .. بِمَ تحلمين وأنت في ( القاهرة) .. ولو كنتِ في ( بغداد) أو ( بيروت) ؟
– أنا لا أفكر مثل كالفينو. ربما تجد في قصصي – إلا بعضها معدود على أصابع اليد الواحدة- المكان مجهولا ، لأني لا أنتمي إلى المكان إلا بجسدي في اللحظة الآنية، أما روحي فهي تسبح في الكون الفسيح ، بل أحيانا أتفلسف فأقول أنا ذرة في هذا الكون وفي الوقت نفسه أنا الكون كله.
شكراً جزيلاً
حاورها – عذاب الركابي
القاهرة
عذراً التعليقات مغلقة