تحت سماء الشمال
سناء شفيبيرت
__________
قاصة من فلسطين
ألمانيا – برلين
الصداقة مع الموت
كانت تجلس تنثر نظراتها لتضيع في خواء هذا المكان الذي يأتي إليه البشر بعد أن عجز الطب عن إنقاذهم من يد المرض التي تطاولت على أجسادهم. وبجانبها حقيبة صغيرة تحمل كل ما اختارته لمرافقتها في آخر محطات رحلتها التي لن تتجاوز الأربعين عاما.
من مكان ما خرجت عليها راهبة ترشدها إلى غرفتها، وتساعدها في إفراغ محتويات حقيبتها. وعلى طاولة توسطتها شمعة بيضاء أخرجت صندوقا صغيراً مرصعاً بأصداف بحر الشمال ينام فيه خاتم زواج أصبح كبيرا على أصبع يدها وقرط من اللؤلؤ. وعلى سرير تغطيه أقمشة بلون السماء وضعت رواية لكاتبة مغمورة بعنوان “ملل السلاحف”، وملابس تكفيها لما تبقى من صيف هذا العام، وصورة شخصية لها قديمة أعطتها للراهبة وهي تملأ لها بيانات استمارة انضمامها لهذا المكان الذي يتدرب فيه الضيوف على التقرب من الموت فيما تبقى لهم من وقت.
نهاية صيف
تينة مجهولة الهوية تحتضن ثماراً هرمت على أغصانها.
وذبابة ينذر طنينها بنهاية صيف آخر على المتوسط.
ودالية شاحبة جفت عناقيدها فبدت مثل ضرع كلبة جائعة.
وشجيرات خزامى تطلق آخر شهقة من عبقها قبل دخولها زمن اليأس.
وطيور رحلت دون توديع أشجارها للتبشير بحتمية العودةً..
وفئران خرجت من جحورها معولة على ثبات مواعيد الحصاد .
وسروة تقاسم أوراقها لعنة الخلود.
عبور الليل
رجل وامرأة يجلسان بصحبة الصمت في مقهى يطل على ميناء اليخوت الفارهة
تستقر عينا الرجل على قارب ضخم يعلو منه صخب أيقظ النوارس من سباتها، بينما تحملق عيناها في قلعة قديمة خرجت من أحشاء البحر تعبث بخوائها رياحٌ تهب من جبال بعيدة.
وفِي زاوية مضاءة بالشموع تختلي امرأة عجوز – يغطي وشمٌ لوجه قرصان ذراعها المترهلة – بقنينة نبيذ اختارتها لعبور الليل.
ومتشرد يخطف مسرعاً صحنا من الطعام من يد نادل تجمدتِ الكلمات في حلقه من فرط الدهشة.
وغانيات ينتشرن على جوانب الميناء يترقبن افتتاح أبواب سوق الليل، وقد زينت رؤوسهن ورود تشبه ورود المقابر التي تبتسم للحزن العظيم.
بشارة العودة
صرصور الحقل يحملق في السماء وكأنه انقلب على ظهره ليختبر رحمتها .
وفراشة صيف تبحث بلا هوادة عن شريك مؤقت قبل رحيل الزهور.
وأشجار تهيء نفسها لاستقبال السبات العميق .
و ثمار محظوظة نجت من قبضة الغرباء لتموت في مكان ولادتها.
وغيوم تعلن بداية عصر هزائمها للشمس.
ورحلة تقترب بحذر من نهايتها.
” نافذة في زنزانة ” أو نافذة الزنزانة ” !
في غرفة منسية في ناطحة سحاب ينام في ظلها سكارى ليل هذه المدينة المليونية – التي اتقنت الأرق- تجلس منتصف الليل برفقة إبريق قهوة ساخنة، تدعم يقظتها للتواصل مع من انتظر نوم ضجيج العالم ليخرج عن صمته، تدون ملاحظاته عن حلقتها السابقة ومعها قائمة بالأغاني التي يرغب في سماعها في هذه الليلة.
ومع ظهور أولى بوادر الفجر كانت تنهي برنامجها وتغادر مخبأها، لتسبق الحلم إلى النوم قبل أن يستحوذ النهار عليهما معا.
مرت السنوات وجاء موعد الرحيل من هذا المكان، لتلبية رغبة بداية جديدة في بقعة أخرى من هذا العالم.
غادرت ومعها رسائله التي تصل بريد الإذاعة دون ذكر عناوين مرسليها، لتعرف فيما بعد بأنها كانت تتواصل مع سجين محكوم عليه بالمؤبد بسب جريمة ارتكبها أيام مراهقته وهو تحت تأثير المخدرات، فعرفت لغز توقيت اتصاله الذي لم يتغير قَطّ وسر قصر مدته، وبأنها كانت النافذة التي رسمها على جدران زنزانته ليطل منها على العالم.
_________________________________________________________
قصص خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة