الغريبة..أم جليل..المنفى
سناء شڤيبيرت
_____________________
قاصة من فلسطين
ألمانيا – برلين
1- الغريبة
وصلتُ قبل المغيب بقليل، وكانت السكينة التي تخيم على الطريق الترابية الضيقة المؤدية إلى البيت تضمن لي الوحدة التي أتوخّاها من هذه الرحلة.
المفتاح الحديدي كان – حسب الاتفاق – مغروساً في تراب حوض تعيش عليه شجرةٌ فتية تطل أغصانُها على أشجار الحديقة الكبيرة.
أزحتُ الستائر السميكة عن نوافذ الصالة الكبيرة، فاستيقظ البيت من غفوته، وبدأ يكشف لي عن جماله الأخّاذ.
كانت أرضيته ما تزال تحتفظ بدفء شمس زارته في وقت قريب، ومن نافذة مشرعة على كروم عنب راقبتُ ذبول الشمس، وهي تتوارى خلف جبال تعانق سماءً خجلى تلونت بأطياف الغروب.
وعلى جدران غرف هذا المنزل الريفي توزعت لوحاتٌ بألوان مختلفة تجسدُ مراحل حياة امرأة: صبيةً تحوم حولها فراشات بيضاء، وشابّةً في مقتبل عمرها تجلسٰ وبجانبها يقف رجل بملامح قاسية يقبض على كتفها كما يقبض فلاح على ثمرة، وعجوز تسيرُ على الطريق الترابية الضيقة، وقد أدارت ظهرها للمنزل .
قضيتُ ليلتي، وأنا أحاول تقفي آثار تلك الغريبة التي جئت إلى بيتها بحثاً عن الوحدة، فوجدتني أعيش تفاصيل حياتها التي اختصرها المشرفُ على هذا البيت بجملة واحدة عندما أخبرني بأن سيدة هذا البيت كانت رسامةً مغمورةً تزوجها إقطاعي ثري واختفت عن الأنظار في ظروف غامضة بعدما لم تُرْزقْ ولدا ً يكون وريثا له.
2- أم جليل
بعد ثلاثين عاماً من العمل الدؤوب في متجر الخضروات والفواكه اكتشف أبو جليل ذات صباح وهو يرش الماء على رزم البقدونس والنعناع أن أم جليل، التي شاركته الحلو والمر كما كان يقول دوماً، قد فقدت نضارتها. وتذكر ما قاله له الحلاق التركي في آخر زيارة له هناك ليعبث بما تبقى من شعره بأن الزواج مرة ثانية يجدد العمر. ولأن أبو جليل يُؤْمِن بقضية الاندماج في المجتمع الأوروبي الذي يمنع تعدد الزوجات، قام بتطليق أم جليل قائلا لها بأنه لو بقي في بلاده لكان الآن عنده الثالثة، ما جعلها تشعر بعمق تضحياته من أجلها كل هذه السنوات.
رحلت أم جليل لتعيش في شقة صغيرة حيث وجدت عملا لها كمساعدة منزل لامرأة عاملة تشرف على تربية ولديها وحدها. كما أنها حصلت على رخصة قيادة السيارة في وقت قياسي، وبدأت بالعمل ليلا في إيصال طلبات الوجبات السريعة لمن يطلبها.
أما أبو جليل فقد عانى من فشل محاولاته في العثور على بنت الحلال كما كان يصفها، ومن إخفاقه الأكبر في إدارة محله بعد أن غادرته أم جليل.
والآن يقبع أبو جليل في السجن بتهمة قتل الحلاق التركي خنقاً، مبررا جريمته هذه بأنه كان وراء ما تكبده من معاناة بعد أن حرّضه على الزواج مجدداً، وعدم إهدار شبابه مع زوجة فقدت نضارتها.
3- المنفى
وصلت هي وثلاث أخريات إلى المطار، ومعهن جثمانها راجعا إلى بلاد تركتها وهي فتاة صغيرة حين وقع اختيار مهاجر عليها من بين أخواتها الخمس، وكأنه أراد إنقاذها من حتمية البؤس.
ساقها معه إلى بلاد تتوشح سماؤها باللون الرمادي. عاشت معه في غرفة مظلمة في قبو أحد المنازل القديمة، تخنقها رائحة العفن المنبعث من جدران صمدت أمام حربين عالميتين.
عدوانيته تجاهها دفعتها للهرب إلى ولاية أخرى لتسكن في بيت النساء المعنفات، وتعيش حياة لم تتعرف خلالها إلا على مراحيض المدينة العامة، حيث كانت تعمل كمشرفة على نظافتها.
ليالي هذه البلد الطويله كانت تقضيها للاستماع إلى حكايات رفيقاتها، حتى أتقنت لغتهن، لتصبح “الراوية“بينهن، تدخلهن بقصصها إلى عوالم ساحرة يسكنها الدفء، وتحكم مساراتها الخرافة.
عاشت بينهن كنبتة غريبة، نمت على صخرة غطاها تراب ضحل. وعندما رحلت، قررن -نزولاً عند رغبتها- إرجاعها إلى بلد مولدها لتعود إلى الأرض التي اقتلعها منها ذلك المهاجر .
وعلى شاهد قبرها -الذي كان يعانق الشمس- كتبن جملة ظلت تحير كل من مر عليه:
“عاشت منفاها لتأمين ثمن ضريح يعيدها إلى جذورها“.
_________________________________________________
قصص خاصة لصحيفة قريش/ ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة