عاشقة البوخنو
إيمان سعدون
قاصة من المغرب / مقيمة بلندن
لا أصدق حظي أبدا ! أهي ثمرة البوخنو ؟ أهي شجرة البوخنو حقا ؟
كان في اعتقادي أن البوخنو كتوت الأرض ينبث من تراب الأرض..على عكس ثمرة التفاح .
كيف؟ لم تخبريني بهذا يا أماه ؟ كيف !؟ من زرعها هنا ؟
أتردد مرارا على مكتبة بالمرزكرين في شمال لندن، لكنني لم أره من قبل ! كيف فاتني ذلك كل هاته السنوات ؟ …أقيم في لندن منذ سنوات، تفوق عدد السنوات التي عشتها في المغرب ولم أكتشف هذه الفاكهة إلا الآن !
كل صباح يوم السبت، أزور فيها المكتبة، اقرأ أحيانا لساعة ثم أشرع في تحضير الدروس التي سأقدمها الأسبوع القادم ،وأستمتع بتصحيح أوراق إمتحان تلميذاتي العزيزات. حتى انّني صرت أعطي دروسا للأساتذة في منهجية التصحيح ،وكيف نجعل منه أداة لتحسين المستوى الدراسي للتلاميذ !
أحب تصحيح الدفاتر …أحسني قريبة من كل تلميذة، أسبر أغوار تفكيرها وطريقة عملها وأتفهم معاناتها وانتصاراتها في مادة العلوم، تلميذاتي كن من اللواتي يعتقدن من قبل ان مادة الكيمياء والفيزياء صعبة للغاية، لا يفهمها غير الأذكياء، ربما هي مادة ذكورية، أو هي مادة لأبناء الطبقة الوسطى.. تلميذاتي جلهن من الطبقة السفلى، ينتمين إلى جيل المهاجرين الأول، جيل اللاجئين السياسيين من الصومال، يوغندا، العراق، أفغانستان والهاربين من الحروب والقهر بحثا عن حياة آمنة. معظم تلميذاتي لا يتكلمن الانجليزية كلغة أولى وعائلاتهن لا تفهمن من دهاليز التعليم الانجليزي شيئا غير أن بناتهن تقضين أوقاتهن من الثامنة والنصف صباحا إلى الثالثة والنصف مساء في حضن المؤسسة .. الباب مقفول فهن ليست لهن القدرة على الهروب إن أردن، وهذا ما يطمئن أسرهن على فلذات اكابدهن.
التصحيح من طقوسي المقدسة وغالبا ما اكتشف فيه نقط ضعفي كأستاذة … مرات أكتشف ما شرحته في القسم وما فهمته تلميذاتي أبعد في المسافة ما بين البحر المتوسطي الأزرق الهادئ وبحر القوقاز .. فأعيد تحضير الدرس لكي أعالج المسألة…غير أنهن يشكرنني كلما أعطيتهن توجيها، فهن يعترفن بمجهوداتي، أراها في ابتسامة على عيونهن ، فصرن جزءا مني، وأرى فيهن طفولتي، أحلام الغد.
شجرة البوخنو قرب المكتبة؟ المكتبات جنة ورائحة الكتب عبيرها … وأنا أكتشف ثمرة البوخنو بجانب المكتبة .. إذن جنتي قد اكتملت ! ماذا سأفعل الآن ؟ هل أتظاهر أني لم أراها؟ وأمضي في طريقي إلى المكتبة غير مبالية… لا سأقطفها!… ربما رآني بعض المارة والسائقون واعتبروني مجنونة! ..قررت أن لا أكثرث. المجانين أصدق العقلاء.. سأقطف بعض البوخانوهات، تمنيت لو قطفته كله..!
ما أجملك يا ثمرة البوخانو!
ثمرة غريبة في استدارتها، لونها برتقالي يزداد احمرارا بنضجه..! قشرتها تميل لشوك رطب، كجلد تتبرعم فيه الشعريات الجديدة بعد يوم من حلقها !
أتلمس بيدي ثمرة البوخنو فأرتعش .
أتذكر أمي الجميلة، جالسة على الكرسي تغني لأخي الصغير حتى ينام، تهدهده بين ذراعيها، وأنا جالسة بجانبها آكل الخبز الساخن ورائحة الفرن تملؤني اغتباطا… أستمع إلى صوتها الجميل وهي تقول “نَانِّي يا مامو حتى يطيب بوخنو! بوخانو مايطيبشي وولدي ماينعاشي” وكنت أسألها ما هو البوخنو يا أمي … ؟ تقول لي انها فاكهة صغيرة الحجم، تكبر في الخلاء، فاكهة متوحشة! لكنها لذيذة جداً تبيعها البدويات في الأسواق الأسبوعية ” أبتسم وأطلب منها أن تجلبها لي فتوافق … صارت سعادتي أن أنتظر أمي في رأس الدرب حين عودتها من السوق، فأرتمي عليها حاضنة لتقبلني و تناولني لفة ورق دفتر قديم فيه مخطوطات رياضيات لتلميذ أو تلميذة وعليه مخطوطات بالقلم الأحمر “حسن خطك “… ” ضعيف جداً ٠/١٠”… و “سير اسرح الغنم يا غبي “… أحس بالاطمئنان، و أنتشي بهذا التقاسم المشترك مع الآخرين في غبائنا. لست الغبية الوحيدة في القسم إذا! لا يهمني ! البوخنوهات مرتبات في عود رقيق كما يرتب اللحم في السفافيد للشواء … كل عويد يحتوي على خمسة منها ! ألتهم الخمسة دفعة واحدة ! آه خلايا التذوق في لساني تحدث ثورة، يتسايل اللعاب، كيمياء غريبة ما بين حروشة خفيفة ورطوبة خارقة من الداخل، مذاق حلاوة ممتزج بفتاوة وحموضة رائعة …ما ألذ طعم البوخنو.
التهمت الآن كل البوخانوهات التي قطفت …أجدني الآن خارجة من مدرستي الابتدائية “مدرسة الفلاح” ..أبحث بجانب الباب عن بائعة البوخنو التي كانت دائماً تفترش حصيرة مهترئة والطريق تملأها الغبار. تعرضه بصورة مغرية فوق صينية فوق كرسي، وتنادي “البوخنو البوخنو..”
كانت فتاة يافعة، طويلة القامة، شقراء الشعر ولكنها كانت تغطيه بربطة “الحروز” ، الشعر الأشقر يتسرب من تحت الحروز كحرير هندي، سحنتها سمراء بلسعات الشمس الحارقة، من طول وقوفها في انتظار أطفال المدارس …
أخرج باحثة عن البوخنو بعد أن أخذت فلقة من أستاذ اللغة العربية، ضربني عشرين “شحطة” بعود شجرة التين موزعة بالمناصفة على يدي! كنت أقاوم البكاء لكي لا أظهر ضعفي.. وكان يبتسم بلذة بعد كل ضربة ! … لم يضربني الآن؟ فقط لأنني لا أحب أن أحفظ دورس البارحة ! و لم أحفظها ؟ أنا اكتفيت بفهمها. قلت له ” أستاذ، اسألني وسأجيبك عمافي كل صفحة بأسلوبي الخاص، أنا لا أحب الحفظ”…كان يرد “ليس لي وقت أضيعه معك .. استظهري الدورس كلمة بكلمة كما نقلتها من السبورة وإما اعطيني يديك”….
كانت فاكهة البوخنو هي التي تخفف على ألم الضربات …. إنه أستاذ لعين، قاس، جلاد، أكرهه، لا أحبه … يارب أعطه مصيبة يلتهي بها يارب…!
قررت أن أتجاذب أطراف الحديث مع البائعة.. قلت لها طاب صباحك .. سألتني لم هاته العلامات الحمراء في يدي ..أجبت والدموع تنهمر من عيني … “بسيطة انها ضربة المعلم .. اللعين… اني كسولة .. لا أحفظ دروسي… ” قالت لي “احفظي دروسك إذا ..أنت محظوظة جداً، لك هندام نقي و محفظتك جميلة جداً وتدرسين، ربي يعطي الفول لي معندو سنان..” بانت المرارة على وجهها.. قلت لها و لم لاتدخلين المدرسة ؟ كم عمرك؟ أجابت أربع عشرة سنة … كنت آنذاك في الثامنة من عمري.. في القسم الثاني ابتدائي … قلت لها … “هل تريدينني أن أكلم عمتي هي معلمة هنا ..” فردت “إذا كانت عمتك هنا فلم لا تشتكين لها أستاذك ؟ صمت … لاأدري! كنت خائفة منها أيضا .. طلبت مني ألا أتدخل في ما لا يعنيني … تحكي لي عن أبيها القاسي.. وكيف انه يضربها كلما بخلت عليه بالنقود، يهددها بالقتل إن لم تسلمه دخلها اليومي … توطدت صداقتنا يوما بعد يوم، بما كانت تخفف عني من عناء المعلم اللعين وكنت أخفف عنها مرارة الأب الظالم !
.. أمي كانت مريضة جداً ..وكانت على فراش الموت.. ماكنت أفكر فيه هو فقدان أمي و لاشيء آخر..
أمي كانت دائماً تشجعني على حفظ القرآن .. كانت لها طريقة عجيبة في تحفيظي… في سريرها تتألم و أنا أجلس بجانبها كل صباح أتناول وجبة الإفطار: الخبز بالمربى والشاي الأسود بالليمون.
أتأمل وجه أمي الشاحب، خائفة، كم أنت جميلة يا أماه.. حتى في عز مرضك! عيناك السوداوان تحكيان عن أساطير موريسكية قديمة وشفتاك موردتان وأنت تتألمين. كنت تبتسمين لي وأنا أرتشف الشاي وتتألمين سراً كي لا أنزعج .
الفتاة اليافعة “فاطمة” التي جاءت لتساعدك في البيت في مرضك .. أصبحت الآن تمرر أحمر الشفاه على شفتيها وتلبس القميص الملتصق بنهديها ..تسرح شعرها الأشقر المسدول.. بعد أن كان مربوطا قرب جدتي وتفتح أقفال قميصها في كل مرة كان أبي موجودا في المنزل.. وتتذرع بتقديم الشاي المنعنع المشحر له وتنحني أمامه و أنا أرقبه من بعيد يسترق النظر إلى حلمتيها المنتصبتين… وتنهض بخفة و دلع و هي تتلمس شعرها الذهبي … يقول لها أبي ” تواتيك المدينة يا عفريتة، تبقاي في المدينة معانا … ” وهي تقول له ” لا غير شوي يا عزيزي، مصاب يا عزيزي”.. فاطمة تتلون كالحرباء … لها وجوه تلبسها بحسب اللحظات…
ودعت أمي لأذهب للمدرسة …فاطمة تمر بجانبي حاملة سلما خشبيا، قد طلبته منها جدتي.. تقهقه بخبث وتقول لي “هذا الدرج ضيق كقبر أمك إن شاء الله “… لم أرد عليها ذهبت للمدرسة والدموع تنهمر من عيني .. أهي آخر مرة أراك فيها يا أمي … ؟ هل سأصبح يتيمة بلا أم …، هل ستصبح فاطمة زوجة أبي اللعينة؟
..
دخلت القسم.. يرقبني الأستاذ… و بعد لحظات يطلب مني استظهار سورة “الملك” ..أقول في نفسي “في القسم خمسة وخمسون تلميذة وتلميذ كلهم ..أجساد نائمة في سلام … الذكور في الوراء لا ترى أياديهم أبدا إنها مندثرة في جيوبهم وهم يزعزعونها ! لا أدري لم! .. الأستاذ لا يأبه لهم! يهتم بي أكثر ؟؟ هل هوايته إهانتي، تعذيبي .. كررت له ردي “لم أحفظ سورة الملك “أنت غبية .. كسولة ورأسك ثقيل ” صرخت في وجهه الآن ..لا تهمني العواقب .. أمي ستموت قريبا ! قلت له “أستاذ لن أحفظه” .
رد على “لم يخلق من يتحداني، أنت حمارة ويلزمك التربية”.
طلب من تلميذين كنا نسميهم “صايصاي” و “طولان” و هما أطول من الأستاذ نفسه، يكرران السنة للمرة الثالثة ولهما برستيج بسبب الأقدمية ومهمتهما “التحامل ”
طلب مني الأستاذ أن أجلس فوق الطاولة، “صايصاي” سيقبضني من صدري إلى الخلف و”طولان” سيرفع قدمي و يمسكني من الفخذ بيديه الغليظتين .. رائحة غريبة تنبعث منهما تكاد تزكم الأنوف … “صيصاى” لا يخرج يديه من جيبه أبدا … لم يحمل القلم بين أصابعه أبدا …الأستاذ سيكتفي بضرب رجلي 20 ضربة في قدمي الصغيرتين!
كنت ألبس فستاني الرمادي الذي صممته أمي خصيصا لألبسه يوم العيد وكلفت الخياطة الشهيرة في المدينة لخياطته .. وكنت ألبس تبانا أبيض موردا اشترته لي أمي من تطوان “سلعة اسبانيا”
.. قررت في أعماقي أن “التحميلة” سوف لن تحصل أبدا …قلت “على جثثي ” سوف لن أعطيه و مساعديه الجلادين الفرصة ليستمعوا بلذة تعذيبي …أنا عندي كرامة، أنا إنسانة، أنا لست حيوانا… هذا ما كنت أردده دائماً .. كنت أسمع أبي يردد كلمة الكرامة دائماً على مسامع أمي عندما طرد من مركزه كأستاذ بعد مشاركته في إضراب ١٩٧٩
كيف ان أمي كانت دائماً تقول لي عيب أن ترفع رجليك أمام إخوانك، والأغراب وعيب أن يظهر تبان الفتاة..عيب وعيب … فلم سارضخ للاهانه ! تظاهرت بالهستيريا والبكاء القوي و تجمدت في مكاني لم أتحرك، حاول الثلاثة إخراجي من طاولتي بكل عنف، حتى أن الاستاذ جرني من ضفيرتي وكان كل التلاميذ يضحكون مني ويرقبون ما الذي سيحصل؟ إنها بالنسبة لهم أفضل فرجة، إنها أحسن من مشاهدة مغامرات سندباد و غراندايزر …
لكني لبث هناك كصخرة وزنها آلاف الكيلوغرامات إلى أن تظاهرت بالموت والإغماء … سقطت عمدا من جنب طاولتي واسترخيت كأنني ميتة، الأستاذ يصفعني، ولا أتحرك، طلب من أحد التلاميد إحضار الماء ليسكبه على وجهي وأنا امثل الموت الحقيقي ..لم أتحرك .. حتى جاء المدير مسرعا يستفسر عن أسباب الفوضى ..قلت في أنفاسي وابتسامة خفية على شفتي ” اللهم نعمة الموت على القهر و الذل … “
كانت هاته آخر مرة يستفزني فيها الاستاذ، لم يعد بعدها يكلمني وتجاهلني لما تبقى من السنة الدراسية.
لقد كسرت شوكته !
في يوم حار من أيام آخر السنة، رأيته يدخل القسم مطأطأ الرأس، كان حزينا، الأساتذة يزورونه جماعات وفرادى يربتون على كتفه و يقولون له “جدد الله فراشك” أما الأستاذة خديجة المطلقة حديثاً فتحضنه وتكاد تلتهمه بين صدرها وتقبله من جبهته بلطف لم أفهم .. ودعته لزيارتها في المساء.. سمعتها تعده بأن تطبخ له طاجينا من اللحم والبرقوق المعسل وتقوله له من الآن معايا طاجين ينسيك في طاجين… وهو يلمس يديها الغليظتين.
تموت المرأة و يدعون له بتجديد فراشه … هل كانت زوجته حذاء ينتعله ؟ أو غطاء فراشه؟
الحمد لله أن أمي لم تصبح فراشا يجدد ..أمي أصبحت بخير وعادت إلى جمالها الفاتن واسترجعت قوتها الآن وهي تحكي لنا حكاياها الشيقة كل ليلة، تستهلها بعبارة “حاجيتكم ماجيتكم” حفظت سورة “الملك” لاستماعي المتكرر لقراءتها لها كل يوم جمعة…رحلت فاطمة إلى بلدتها من حيث أتت حزينة منهزمة ..لم تتمكن من اعتلاء عرش الملكة…
و أنا عدت للاستمتاع بالبوخانو…بينما بائعة البوخنو لم ألتق بها لشهور عدة … ويوما رأيت فتاة صغيرة في نفس عمري تبيع البوخنو تحدث معها وأخبرتني أن أختها رحلت للعمل في طنجة، سألتها ان كانت تبيع البوخنو هناك، فأجابت نعم فهي تبيعه بثمن أغلى والناس أكرم هناك فهي تأتي محملة بالهدايا أحيانا … تساءلت لم البوخنو أثمن في طنجة ؟ قالت أختي تقول ان رجال طنجة يحبونه !! غريب كنت أظن أن البوخنو هو للأطفال فقط!
إلتقطت عشرة بوخنوهات جديدة من الشجرة لاحتفظ بها لوقت آخر ودخلت مبتسمة لجنتي …
آه المكتبة…الكتب و دفاتر تلميذاتي العزيزات…!..
قصة قصيرة خاصة لصحيفة قريش- ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة