سناء شيفيبرت
قاصة فلسطينية،المانية
الزهرة المحتضرة
اكتظّت العيادة بهم حتى أنني لم أجد مكانًا للجلوس، فوقفت أمام الممرضة التي كانت تنادي على أسمائهم وكأنّها على قناعة بأنّ كبار السن مصابون كلهم بالصمم.
كانوا صامتين بنظرات تائهة تنشد الراحة على أحد جدران العيادة، وبملامح باهتة يظللها وشاح من الحزن. كانت تجلس بينهم، لم تتجاوز عقدها السادس، وبدا واضحًا أنّها كانت تتهرب من النظر إليهم بالتركيز على باقة الزهور الجميلة التي زينت زهرية بيضاء على مكتب الممرضة المسؤولة، وفجأة انتفضت من مكانها وتوجهت لتطلب منها إزاحة زهرة كانت مطأطأة الرأس تتدلى على حافة الزهرية، ولم ترجع إلى مكانها إلا بعد أن قامت الممرضة بإزالتها وإلقائها جانبًا.
توجه الجميع بأنظارهم إلى الباقة النضرة وارتسمت الابتسامة على وجوههم الحزينة حتى ظننت أن الزهرة المحتضرة كانت السبب وراء صمتهم الحزين.
المقهى
في مثل هذا اليوم من كل عام يرجع فرانشيسكو من إيطاليا ليفتح مقهاه، وفي مثل هذا الوقت أذهبُ للترحيب بقدومه وأجلس على مقعدي المعتاد أمام النافذة، وحول الطاولة الكبيرة التي تتوسط المقهى يجلس رجال في مقتبل العمر يتحدثون بصوت عالٍ عن خياناتهم الصغيرة، وعلى يسارهم تجلس امرأة عجوز تتكلم مع النادلة بصوت مرتفع جدًّا مما يُظهرُ أنها لا تسمعُ جيدًا، وأمامي تجلس فتاتان مراهقتان تحاولان جذب انتباه ابن فرانشيسكو الشاب الذي صار يشبه ديك القرية وهو يحاول بعجرفته الهرب من ثرثرة دجاجاته. وعند مدخل المقهى تجلسُ طفلةٌ صغيرة تنظرُ إلينا جميعًا وكأنها تريدُ أن ترسمَ من خلال مراقبتنا مراحلَ حياتها المقبلة.
وبعد مرور بعض الوقت يأتي فرانشيسكو لاستقبالي ومعه قهوتي كما أحبها، ويسألني عن رأيي في تسريحته الجديدة وبعد أن يسمعَ كفايته من عبارات الإطراء، يعودُ إلى المطبخ، ويبدأ في الغناء بالألمانية عن ” إسبيرانسا“ الفاتنة التي لا تتركُ توسكانا أبدًا، فتخرجُ زوجته علينا بشعرها الأصفر المصبوغ وحذائها الأحمر البراق ونظارتها الشمسية الضخمة، تحيينا جميعًا وتغادرُ المقهى لتجلسَ على أحد المقاعد في الخارج، تدخنُ سيجارتها وتنظرُ إلى سمائنا الملبدة بالغيوم وتنفثُ الدخانَ في الهواء.
مظهره الجديد
طَلَبَتْ منه تغييرَ تسريحة شعره وصبغَ الخِصَل الرمادية التي ضلّت طريقها إلى رأسه واتباعَ نظام غذائي صارم لكي يستطيع ربط حذائه دون عوائق تحجب عنه رؤية يديه أثناء ربطها للحذاء. وطلبت منه، وبصرامة، ترك التدخين للحفاظ على بياض أسنانه ونصاعتها كي لا يفسد ما قام به طبيبها المشهور من جهد لجعلها تليق بتوقعاتها.
فعلَ كل ما طلبته منه بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين غيَّر جميع ملابسه لتصبح بلونها المفضل. وعندما دعتنا الأسبوع الفائت للاحتفال بعيد ميلادها، دخلتْ قاعة المطعم ويدها تُطبقُ على معصم رجلٍ آخر لم نره من قبل، أُصيبَ البعض منا بالذهول والبعض الآخر قام بالثناء على ذوقها الرفيع في الاختيار، وهناك مَن عبر عن فرحته لرؤيتها تختال بيننا كطفلة بفستان عيدٍ جديد.
وبالأمس شاهدته في منتزه البلدة العمومي يجلس على مقعد متهاوٍ تحيطُ به زجاجات الجعة الفارغة ، وبجانبه غرابٌ حطَّ على مقعده يستمعُ لحكايته ،ويحتفلُ معه بمظهره الجديد.
عذراً التعليقات مغلقة