إيمان سعدون
كاتبة من المغرب/ مقيمة بلندن
جلست أمس بجانبي في ميترو الأنفاق.. أخرَجتْ دفترا قديما و قلما متآكلا غطاؤه …يبدو أنها من هواة مضغ أغطية أقلام “بيك” BIC .. كانت عادتي أيضاً .. لا أعرف متى أقلعت عنها لم أتذكر ..ولا أعرف لماذا .. ربما لأنني لا أكتب بالأقلام كثيرا أو ربما أنني لا أحتفظ بنفس القلم لمدة طويلة حتى أربط علاقة حميمية مع رأسه… لا أنكر أنه راودني حنين لرؤوس الأقلام ..ولإتمام القلم الأزرق على ورق الزبدة الذي كنت أشتريه بالكيلوغرامات من عند البقال… كنت أصنع منه دفيترات لكي أنجز عليها تمارين الرياضيات… الورق العادي غالي الثمن… كم من دفتر سأحتاجه وأنا أجلس بالساعات أحل المعادلات الصعبة…ورق الزبدة له واجهتان.. واجهة ملساء يمر عليها القلم بسرعة… الأرقام و الحروف تبدو أجمل… المعادلات تبدو في قمة أناقتها… أنيقة هي المعادلات الرياضية… الجهة الحرشاء.. لا تعجبني الكتابة عليها.. تزعجني.. لكن أتحملها… انتابني الآن حنين لورق الزبدة… و حنين لذلك الألم الرفيع في اصبعي الاوسط و انتفاخه من شدة الضغط على القلم.. كنت أحس بفخر داخلي كلما ازداد الألم.. كلَّما اكتمل الورق.. و كلَّما انتهى مداد القلم… الانتشاء بالعمل..طمأنينة و أنا أردد في نفسي المثل التي كان يقوله أبي “من جد وجد و من زرع حصد”… انتابني حنين دفين إلى رأس قلم متآكل… لم أكن اعضه مبالية… كلما مضغته بين اسناني نزلت عليّ الأفكار.. أمّا هو..فكان ربما يصيح أنقذوني من هذه المجنونة…
لم أعد استعمل الأقلام بهذه الحميمية… اخطّط الآن حروفي رقنا على مفاتيح الكيبورد و أراها هناك في شاشة ما ولا أحس بنفس الامتلاء…
كتبتْ…
“لا أشعر بشيء …
إحساسي ميت …
تركتَني قشة…
بعد أن التهمتَ النواة الحارقة بداخلي …
كيف ابدأ من القشة …
وكيف تصبح القشة نورا بدون نواة… ؟ “
ليس من عادتي أن أتجسس على ما يكتبه الآخرون…لم أتجسس فقط بل قرأت وترجمت…
الجلوس في ميترو الأنفاق اللندني له اتكيت غير معلن…هو سفر في حالة روحانية لان تواجه نفسك في صمت.. لك اختيار القراءة أو سماع الموسيقي بهدوء…. لم تكن نيتي التجسس هكذا دافعت عن نفسي… نظرت إلى من كان حولي وجدت امرأة تتطلع إلى ما تكتبه السيدة..وأعطتني نظرة أنها تعرف ما أعرف … الكاتبة لم تهتم بنا.. تابعت كتابتها… لم أجد الشجاعة لكي أسترق النظر إلى حروف جديدة ..مع أنها كانت كبيرة وواضحة….هل كانت تقصد أن تشاركنا أعمق مشاعرها ؟ هل كان بكاء صامت للمساعدة ؟.. ربما كانت محاولة للتخلص من جنين القلق والخيبة في أحشائها..
إجهاض خيبة في إنسان إو إنسانة …
تطلعت على ورقتها قليلا من جنب عيني..
“إما معك… أو بدونك بعد عبور الجسر…
لن أكون بدونك هنا…”
كم صعبة هي محبة هذا الانسان … و ما أدراني أنها مكتوبة من أجل إنسان… ربما هي رسالة موجهة لحيوان قط أو كلب .. فأر أليف كانت تتقاسم معه قطعات الجبن الأحمر ..
كان ونيس وحدتها لكنه بدون سابق إنذار قرر الرحيل..؟……الحب لعنة…تتعلق وأحيانا تبني خيالات وأوهاما سريعا ما تتلاشى أو تتقلص في برودة الواقع اللعين…وتبقى وحيدا لتواجه نفسك اللعينة..
لو كنت في قطار مغربي.. ربَّما كانت ستحكي لي قصة حياتها وربما كنت سأقول لها.. “شوف ابنتي حتى واحد ما يستاهل يقششك … أنت نور وهج.. لك أسلوب رائع ولك ذكاء مشاعر لأنك تكتبين … لست قشة بل الشمس… “… لم أكلمها بل فقط دفنت نفسي في رواية شنتارام… كانت مازالت ترتجف.. توقفت على الكتابة…
.. نزلنا معا في محطة أكسفورد سركس Oxford circus … وقفت هي متجمدة على البلاطفورم… نظرت إلى عينيها.. لم أر إلا ثقبا أسود… يمتص كل شيء … الضوء.. الأصوات.. موجات البشر.. خفت عليها… لكنني تابعت المشي… بدون إحساس مشيت بطيئا.. أحسست بثقل في رجلي… بعد دقيقة ونصف استمعت إلى أصوات النجدة… تعدت الخط الأصفر والركاب يمسكونها.. يحاولون منعها من الارتماء أمام الميترو القادم.. رجعت .. هي على الأرض تبكي.. “تبًّا لكم اخترت العبور…من قال لكم انقذوني؟. أغبياء لا تعرفون شيئا..”
قصة قصيرة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة