إيمان سعدون.. قاصّة مغربية تطوف بدراجتها وتحكي علامات الشقاوة

إيمان سعدون.. قاصّة مغربية تطوف بدراجتها وتحكي علامات الشقاوة

آخر تحديث : الجمعة 8 يناير 2021 - 10:53 صباحًا


عذراءُ دراجَة

د.إيمان سعدون

Screenshot 2020 11 16 at 01.22.07 e1605489873181 - قريش
ايمان سعدون

قاصة مغربية مقيمة بلندن

بعد سنوات طويلة من خجلي بالاعتراف -حتى مع نفسي- أنني لم أتعلم قط قيادة دراجة…على ذلك الحال بقيت و رضيت “بالمكتاب.! منذ طفولتي في بلدي الأصلي تعلمت أن أرضى بالأشياء ..أتقبل..أتعايش..التساؤلات ممنوعة…إلا أن كان غرضها التجسس على شؤون الآخرين وتحضير ملفات سرية ضدهم….المخبرون والمخبرات تعثر عليهم في كل الأمكنة.. تعرفهم من إبتساماتهم الصفراء العريضة الجوفاء.. لهم مهارات خارقة في طرح التساؤلات وجلب الأجوبة..

فكيف و لمَ لمْ أتعلم أبدا قيادة الدراجة ؟ هل لأنني تقبلت أن مهارة قيادتها كانت من كماليات جيل “الرصاص ” ؟  ..جيل الإضرابات، الطرد التعسفي،  ثورات” الأوباش”، قذف أطفال المدارس في السجون..أيام ” المرودة”  إنتعاش الخوف وإقتصاد الجواسيس والجاسوسات… لكنني الآن هنا في انجلترا، قضيت فيها سنوات طويلة جدا …سنوات الرصاص تركتها من ورائي..ومع هذا لم أفكر أبدا بالتعلم … هل ما زالت نفس السلطة تحكمني …؟  يمر أمامي راكبو الدراجات كل يوم… لا يخطر ببالي أبدا أن أشاركهم التجربة..كأنهم بشر من طينة غير طينتي … كعصفورة كسيرة الجناحين في قفص..أكتفي فقط بمراقبة الطيور المهاجرة  وهي تتراقص محلقة  في السماء. 

لملمت فتات شجاعتي .. وتهيأت للاعتراف…اخترت اللحظة التي أتمت فيها زميلتي في العمل ماريا الحديث عن مخطط عطلتها بعد التقاعد.. ماريا عمرها خمس وستون سنة.. لكن يصعب المرء تصديقه .. بشعرها الكستنائي الرطب القصير وعيونها السوداء الإسبانية …إمرأة دافئة متوسطية .. لكنها لندنية.. عالمية حتى النخاع.. ماريا… عاشقة سباحة ورقصة الصلصا.. برفقة عشيقها الكوبي سيطوفان جنوب فرنسا بالدراجة ..كانت تحكي  وعلامات الشقاوة، والحياة تشع موجات من عيونها… الكل هنأها “واو…نحسدك يا ماريا..فكرة جميلة جدا…إستمتعي..”فرحت لها… لكن نوع ما من الحزن إنتابني فجأة… وجدتني بدون سابق إنذار أفكر  في خالاتي وعماتي  مع أنهن يصغرنها بكثير …لكن منهن من جفت وردة حياتهن قبل الأوان و ودعن  والأخريات يتصارعن حاليا مع كوكتيل من الأمراض المزمنة:  السكري، الملح، فقر في فيتامين D وهشاشة العظام…إنهن “ملكات” في عالم الوأد، حيث خيوط الشمس،التي يبعثها الخالق مجانا  لتلسع جسد كل مخلوقاته … أصبحت محرمة على أجسادهن  .. كلما خرجن عن أبواب مملكتهن غطين كل شبر من جسدهن خوفا أن تلسعهن آلات الايكس رايز المركبة في عيون الرجال المتسلطة…حياتهن أهدرت في مسؤوليات كتبت عليهن في عقود النكاح والولادة …مهام كتبت على ناصيتهن  زادتهن ثقلا .. قوست عمودهن الفقري إلى أن أقعدن أرضا قبل مشارف الستين … حاولت جاهدة ألا أقارن …قطعت توا حبل تفكيري وذكرت نفسي أنه لا وجه هنا للمقارنة…فماريا امرأة من زمان ومكان مختلف عن عماتي وخالاتي …قررت الآن أن أفجر قنبلتي  “الأحد القادم  و لأول مرة في حياتي سأتعلم قيادة الدراجة…إنني عذراء دراجة” علامة الاستغراب استبدت بوجوههم.. لمست رغبتهم بالضحك.. العبارة التي استعملتها غريبة عليهم! .. لكنَّهم يقدرون حساسية الموقف .. “واو !!  أحقا عذراء دراجة ؟ ! ” “? Are you a bicycle virgin  “، سألوني كلهم..كنت أدرك انهم يستغربون.. أنه أمر يدعو للسخرية حقاً .. أجبت ” نعم” .. و هنا لم يتمالك  مايكل  نفسه من التعليق.. هو أستاذ علم الأحياء .. لكنته الانجليزية لها طابع إيطالي متميز .. مرح وتلقائي لكنه أحيانا يغيظني بدعاباته الساذجة.. يلبس معطف المختبرات ..يتمادى في نفش شعره.. يضع نظارة كبيرة وكأنه يتقمص دور الاستاذ العالم الأحمق!! يحب المناقشة في الأديان تارة يقول إنه ملحد، وتارة يقرر أن  يصلي في الكنيسة يوم الأحد ..فقال “كنت أتصور أن العذارى لا يسكن إلا في جنتكم أنتم المسلمين …أفكر أن أعتنق دينك فقط لأنعم بهذا الجزاء ..جنتكم كريمة جدا مع الرجال  “…من ناحية ظننت أنه ربما لأول مرة قال شيء فيه درجة من الحقيقة…لأنني و لحد الان لا أعرف ما هو جزاء المرأة في الجنة المسلمة…وبالتأكيد لن أرضى بدور حور عين.. إن أعطاني ربي حارسة مكتبة هناك سأكون الأسعد… قررت أن أرسم على شفتي ابتسامة ديبلوماسية فقط…. لقد كان بإمكاني أن أفتح معه نقاشا طويلا في هذا  الموضوع.. إلا أنها ليست الفرصة المناسبة .. مع أصدقائي في العمل أتفادى النقاش في مواضيع الدين و المسلمين ..لا أريد أن أكون ناطقة رسمية لأية ديانة أو عرق .. أنا إنسانة فقط …قد أتورط معه في نقاش ثنائي..  عن العذارى والجنة والجزاء..وداعش… سأسقط في فخ الدفاع ..النفي أو الشرح .. سيمل الآخرون ولن أربح من هذا النقاش إلا المزيد من التنميط.. أكره أن أتنمط …أنا إنسانة فقط  …إبتسمت …واكتفيت برد بسيط.. ” من قال إن العذارى فقط في جنة المسلمين ؟ ..العذرية خاصية كل مخلوقات الكون .. الكل حسب تجاربه في الحياة .. الطبيعة فيها أماكن “عذراء” من البشر.. لم يصلها بعد دمارهم وجشعهم وأماكن كثيرة الان تبكي وتسيل دماء من إغتصاباتهم ..” ..فهم مايكل أنني أحاول أن أبعد نفسي عن نقاشات عذارى الجنة وربما أتفادى الكلام عن الإرهاب 

و الإرهابيين ..لان هذا مايريد أن يصل إليه … نبدأ بالعذارى ونصل للإرهاب ..فرد سريعا ” نعم،  نعم نحن وحوش آدمية.. لكن الوحشية هي هي ظل كل الحضارات .. لكن ماهذا؟.. أتقصدين أنك لم تمتطي دراجة  قط، الهوائية والنارية !! فأجبته ” أجل  أنا عذراء كل أنواع الدراجات .. والسبب؟ فاجأتني مارية بسؤالها..كنت أخاف أن أفقد عذريتي !” كان جوابي …. الآن الكل ضحك .. لم يصدقوا آذانهم !” و ما علاقة الدراجة بعذريتك؟” سألوني جميعهم .. يال ورطتي الان!… أندم.. لما يتسرع لساني و أبوح لأصدقائي بمسائل لن يتفهمونها.. يال وقاحتي! هذه أشياء لا تحصل أبدا في عوالمهم الخاصة… ندمت على حماقتي .. أتناسى كثيرا أنني إمرأة كعماتي وخالاتي من زمان و مكان مختلف.. لكنني أيضاً من جيلهم..من سنهم ومن طبقتهم الاجتماعية …عشت بينهم  هنا نصف عمري .. فلم لا أخلخل الحرج والعقد و أبوح .. أليست هي الحقيقة ؟ أنا إنسانة و أرقى ما فينا..نقط اختلالاتنا.. الاختلافات والتنوع  ..وأجمل ما فينا هو البوح..

رحلت  بذاكرتي إلى زمني القريب البعيد .. قريب مني ..بعيد عنهم..بعيد مني غريب عليهم..حينما طرد أبي طردا تعسفيا من مهنته كأستاذ .. لا لشيء سوى أنه تجرأ أن يضرب عن العمل… ودو لو يكسرون شوكته فطلب منه المخزن أن يكتب رسالة إعتذار ..لكنه رفض … وتجاهل التضايقات ..أتذكر أن أبي آنذاك  عوضنا بأجمل عطلة صيفية .. صديقه أهدى أسر المطرودين فيلا ضخمة في مصيف “مولاي بوسلهام” تضامنا معهم.. حتى تلك المرحلة لم أشاهد أطفالا يمتطون دراجات  ..أثمانها كانت آنذاك باهظة على كل العائلات في حينا … الفيلا في حي راق يقطنه فقط الفرنسيون.. سألت أمي  “هل مازال بلدنا تحت حكم الاستعمار ؟؟”… لكنها حكت لي عن بطولات المغاربة في طردهم ..الفيلا بحديقة منظمة مليئة بأشجار الرمان ، التفاح و الورود الحمراء المتفتحة.. من بابها القصير كنا نراقب أبناء جيراننا الفرنسيين .. سيدة الفيلا الفرنسية لا تبتسم و تتجاهلنا كالاشباح … بنتها في سني سبعة أعوام. . تمتطي دراجتها الوردية كل صباح.. في سلة أمامية تضع فيها ورودا إلتقطتها من الفيلات المجاورة ودميتها الأنيقة ..شعرها أشقر حريري و لباسها أبيض جميل ومنسق…كنت ألبس فستانا ورديا من توب الدونتيل .. لم أغر من فستانها لأن فستاني كان أجمل…حتى حذائي  كان أجمل من حذائها..  لكنني غرت من طريقتها السلسة في قيادة دراجتها…كانت فراشة ترفرف في دنيا الجمال…غرت من حريتها و حركتها.. و من زخم قوة تدفعها سرا للامام.

دخلت توا للمطبخ، فطلبت مني أمي مساعدتها في دق” الشرمولة”  بالمهراز…وافقت …قشرت الثوم و قصصت القسبرة..أضفت الفلفل الاحمر الحار وبدأت أدق ..صرامة الدق…شجعتني أن أعبر على مطلبي،  قلت لها “أمي، في عاشوراء القادمة،  أريد دراجة أذهب بها الى المدرسة.. لا أريد عمارية خشب، طاجين ثرابي أطبخ فيه “عشاوة” مع بنات الجيران..مائدة خشبية ..تتكسر بعد يومين.. لا أريد دربوكة ولا طار ولا بندير ..إنني لست “مداحة” الأعراس.. فقط أريد دراجة .. أتعلم قيادتها…”

إستغربت من مطلبي المفاجئ .. فردت علي “آش خصك العريان خاتوم أمولاي!  صافي باقي خصك غير دراجة !! ” .. لم يرقني ردها .. كنت مجدة في مطلبي.. ..فسارعت بالجواب: ” أنا فستاني جميل جدا..وحذائي أجمل حذاء في هذا الحي .. مظهري أحسن من الطفلة الفرنسية جارتنا .. فستاني تخيطه أشهر خياطة في مدينتنا.. و حذائي جلدي و يصممه أحسن صانع أحذية …إنني لست في العراء… فكيف تقولين هذا ؟؟ و لم لا؟؟ ألست إنسانة أستحق ركوب دراجة مثل جيراننا الفرنسين؟”. ترددت أمي بالجواب لكنها إعترفت بشيء لم أسمعه من قبل ” لا…لا عيب جدا ! الفتيات لا يركبن الدراجات.. إن فعلتِ سيطلقك زوجكِ يوم الدخلة .. وتأتينا بالفضيحة ..”

ارتبكت أمي قليلا.. أدركت أن اعترافها لم يكن مناسبا لسني .. .. تابعت دق المهراز بسرعة.. حتى أن صوته يدوي في البيت كله ..”ما الذي تقصدينه !؟؟ ما هي ليلة الدخلة ؟ و لم يطلقني؟ و لم الفضيحة ؟ هل الدراجة ستشوه جسدي؟ … ستمسخني قردة ؟ هل ربي يمسخ البنات اللواتي يمتطين دراجة ؟… لا هذا غير صحيح .. الفتاة الفرنسية لم تتحول إلى قردة وهي تمتطي الدراجة كل يوم ! هل الدراجة حرام ؟؟” لم تصبر أمي على قذائف  تساؤلاتي  ولم يكن لها اي رد مقنع.. فلم تجد في سبيلها إلا أن تنهرني علها تتخلص من طول لساني ..” أعطيني الشرمولة الآن .. لقد سببتِ لي بصداع “الشقيقة ”  في الرأس بتسارع دقات مهرازك وكثرة أسألتكِ .. ستعرفين كل هذا في وقته ..أنت الآن ما زلت صغيرة ..إنسي أمر الدراجة الان .”

ومع مرور السنوات أدركت أن ركوب الدراجة في بلدتي كان  للرجال فقط..أحيانا كنت أركبها وراء عمي في سر… و كان يطوف بي الحارة … لكن قيادتها خطيرة جداً على العذارى .. وفهمت أن الحرية خطيرة، والقيادة أخطر،  لهذا العائلات تحاول أن تحمي الفتاة من أعبائهما فيمنعون أتفه الأشياء التي قد تتلف غشاء بكارتها … حتى أكل الليمون ممنوع وعصيره محرم..الحموضة تبيض الغشاء! ولأن العريس مدرب أن يكتشف فقط اللون الأحمر .. اللون الأبيض ..لون شؤم.. لون حداد وحزن.. في محاكم تفتيش “الشرف”  الأبيض .. مقصي من المعادلة و بالإجماع . 

توالت السنون وأنا أعيش في خوف قاهر على هذا الغشاء السحري حتى لايخدش ..إستبعدت تماماً ركوب الدراجات …نسيت حلمي ومطلبي.. حتى أتى يوم  رمضاني، كنت فيه أتسوق بعض أغراضي البسيطة من “باب العقلة” بتطوان…. كطالبة جامعية في ربيعها السابع عشر كنت ألتقط بعض البطاطس من بقايا صندوق، لم يبق في جيبي إلا ثلاثون درهما … خمسة عشر درهما ثمن تذكرة.. ثمن تذكرة حافلتي للرجوع إلى أهلي في عطلة آخر الأسبوع والباقي سأشتري به بعض الخضر.. صديقتي بارعة في تقسيمها وقد تكفينا للأسبوع كله ..نصحتني أن أشتري ما في قاع الصناديق فقط لأنها الأرخص وأنا منهمكة في إختيار بعض البطاطس.. .. وإذا بفتاة تعبر بدرجاتها أمامنا… جمال أندلسي خالص .. الشعر الحريري الأسود يتطاير مع الريح .. نظارات سوداء تغطي نصف وجهها .. الروج الأحمر فوق شفتيها.. أناقتها إستوقفتني .. قلت لا شك أنها من البنات التطوانيات “الألوكات” الأنيقات المدللات .. فشرع بائع الحلويات بالنداء عليها “الزين.. الحلوة .. الشبكية .. هاك السفوف” …لم تسمعه الفتاة ..تجاهلته تماماً وتابعت مسيرها كملاك خاطف… لكنه تابع النظر إلى مؤخرتها والكرسي المموضع بين فخديها ..” إيوا سير الله يسامح …آه  بالحق وبالاك تجيبو مع دك الكرسي!  العايلا … أعوذ بالله أنا صائم .. ما بقا يقدر يصوم حاد فهاد البلاد ! ” هنا تدخل رفيقه بائع البطاطس.. “كان رمضان أخاي فشي زمان .. ملي بقينا نشوفو البنات على البسكليطات ما بقا صيام … !! بلحق  كاكانت جابتو … كاراها كتزغرت !! شنوا ماش يقضيلا الكرسي !! أنا المدام ديالي ملي كتجيبو أودي يا خاي .. كتبدا تزغزت! ” إحمررت خجلا .. لم أفهم آنذاك ما يقصدون لكني أدركت أنهما يتحرشان ويفضفضان.. لقد تجاهلوني تماماً وكأنني لم أكن بينهما ألتقط البطاطس ..رد عليه صاحب حلويات رمضان “آه غير أحلم أصاحبي …أنا غير دك النهار شفت المدام ديالك مزوقا بحال الدربوكة د العاشور و راكبا فالمرسديس د واحد البيزنيزطا دكتامة…رآها شبعت التزغريت يويويوااه” لم يتم زغردته الاخيرة حتى ثار بائع البطاطس فقلب عليه الحلاوي والشبكية و السفوف ونزل فيه ضربا .. كاد يقتله لولا تدخل المارة .. “أنا المرة ديالي يا “ز” و أنت يا “زبيدة” غير كتعطيه لشمايت دسوق !! إذا خليتا فيك ماشي أنا ولد باب العقلة ! ”  تجمعت الناس… حاولت أن أعطيه ثمن البطاطس لكنه رفض قائلا  “خد الصندوق كامل أختي و “قود” .. ما بقا بيع و شرا مع هاد الشمايت.. سالينا” أخذت كل ما تبقى في الصندوق وضعته في كيس بلاستيكي أزرق ورجعت أحكي المسرحية لصديقاتي في البيت… كنت بارعة في التمثيل…لكننا كنا عذراوات حقاً  ولم نفهم معنى الكلام جيدا حتى سألنا جارتنا أحلام المتزوجة والتي تسكن في نفس عمارتنا .. فشرحت لنا معنى الزغردة..تجرأت وسألتها إن كانت تزغرد في سرير زوجها.. قالت  ” آه ! هاد الزهار كامل عاند عمتك الفقيهة! .. الزغارت دوجهي.. !!” إعترفت أنه غالبا ما يأتي سكرانا ..هو من النوع الذي يفرغ فيها لعنته و ينام..لم تزغرد يوما …كرسي الدراجة قد يكون أكثر حظا في خلق زغردتها .. فلم تتردد واحدة من صديقاتي بالتعليق ..” لا أريد رجلا في حياتي .. أريد دراجة هوائية بكرسي على مقاسي لكي أزغرد” .. البنات إنتابتهن هستيريا ضحك .. فتوالت الأسئلة على أحلام .. لكن في كل مرة ترد علينا نكتشف عذريتها العميقة..هي  “عذراء زغردة”.. رغم زواجها لعشر سنوات.. 

كل هذا الشريط يمر في بالي سريعا كالبرق فلم أودّ أن أبوح منه لأصدقائي  .. لا يمكنني أن أشرح لهم كل هذا .. يقول لي أخي ..” لا تفتحي باب ذاكرتك للأغراب  سيتعبك الشرح ..”

علامات الاستغراب كانت مازالت مرسومة على وجوههم ..لم يستوعبوا أنني لم أمتلك قط دراجة هوائية .. أحيانا اعترافاتنا البسيطة بهشاشتنا تساعد الآخرين على البوح ..صديقتي أنتونيا البرتغالية  إعترفت أنها “عذراء” تسلق الجبال .. تظن أنها رياضة صعبة ولا داعي ولو حاولت سيكون مصيرها الفشل  مايكل احمر وجهه واعترف أنه عذري الارتفاع يكره برج إيفل هرب منه مرارا..كلما تمعن في قمته أحس بدوخة.. تنتابه حالة هستيرية ..تتسارع دقات قلبه حتى تكاد ان تنقبض روحه …و هذا ما سبب له عذرية أخرى.. هو عذري طيران..ليسافر إلى بلدته طورينو الإيطالية  عليه أن يستقل سيارته ..الموت أهون به من الطيران في الجو… أما سيلفيا اعترفت أنها “عذراء” طبخ ..حتى أنها فجأة ارتبكت .. بكت خجلا من اعترافها و تظن أنها سمينة جداً ووحيدة ..ودت لو تعلمت الطبخ لكنها أدمنت على أكل سوق “ماركس سبانسر” الجاهز..

لم أتصور أن بوحي سيخلق تفاعل بوح تسلسلي بهذه الدرجة … لكن كلنا تفاجئنا حينما اقترح عليها درسا خاصا في الطبخ الايطالي في بيته يوم الأحد…بذهول وإبتسامة تملئها الاستغراب هزت رأسها موافقة.. لكنها تابعتها بالبكاء …مايكل تسمر في كرسيه ..كان وقع قبولها صدمة عليه.. يميل إليها في سره لكنه اعتاد لوحده.. قمت لأربث على كتفيها عساني أخفف عنها ألم ما!  ..” كيف نسيت الذكرى وأبي من علمني ركوب الدراجة  ..رحل عني .. كيف تلاشت ذكراه في مخيلتي؟ ” عرفت أن الألم آلة ثاقبة تنخر في أعماقها…سكتنا قليلا …حتى هدئت ..لكن سرعان ما رجعنا للبوح.. و هكذا تحولت إستراحة الغداء الى اعترافات عن تجارب نحرناها بسبب .. رواسب عقد،  قلة الحيلة، إذماننا على تصحيح أوراق الامتحانات والدفاتر..أو فقط الخوف اللعين الذي ينخر عزيمتنا. 

أما أنا باستثناء مهارة الطبخ والذي تعلمتها في حليب أمي  .. أعترف أنني عذراء في معظم تجارب الحياة  !! و لكنني سأبتدئ بقيادة  الدراجة الهوائية … لكن فمن أين جاءتني هذه الهمة ؟ ما الذي اعتراني  فجأة ؟ و من حفزني؟ هل هي أزمة منتصف العمر ؟؟ ألهذا أنا الآن أكثر تشبتا بالحياة؟؟ لا سأشكر الحلم ! نعم ..في ليلة الأحد الماضي .. حلمت أنني أقود دراجة في طريقي للعمل … و كنت ألبس ثوبا حريريا أبيض وحالم جدا…شعري يتطاير مع الريح وعبير الياسمين يعب المكان ..السماء زرقاء … ليس فيها ولو خدش رمادي أو سحابة تائهة ..وما أرى أمامي إلا مساحات شاسعة خظراء  … !! و فجأة دخلت المؤسسة من بابها العريض و تلميذاتي يستقبلنني بورود صفراء… ففسرت حلمي أنها رسالة اللاشعور يحثني فيها أن أتخلص من خوفي من “القيادة” .. أن أتخلص من عقدة البكارة…من كلام الناس ورواسب أفكار بالية ..لأنها حقاً تعيقني.. علي أن أكسر الدائرة ..أن أطلق العنان و أزغرد في الحياة !! أن أخد بزمام الأمور قليلا .. لقد قطعت جبالا عالية لأصل لمن أنا … هي مسألة “زعامة “.. وهذا ما ينقصني الآن ! كيف لي أن أقود نفسي وأعلم تلميذاتي مهارة “القيادة” في الحياة .. ولم أقد دراجة قط !! ؟ كيف لي أن أدرس تلميذاتي  سلبيات الاعتماد على حرق المحروقات البترولية والسموم التي تنفثها السيارات كل يوم و التي تهددنا ومعه كوكبنا الأزرق الجميل ؟ وأنا بكل”  انفصامية..” أدخل من باب المؤسسة على عيونهن بسيارتي … تلميذة  خاطبتني يوما في درس عن تقييم احتراق المحروقات … “أنت متناقضة جدا !! يا أستادة ! تعرفين كل هذه التداعيات وما زلت تصرين على سياقة سيارتك  .. لم لا تقودين دراجة ؟ !!!!  أنتم الكبار تعانون من انفصام الشخصية .. لكم عشرات الوجوه….!! ما هو دورك في الحفاظ على هذه المركبة الزرقاء؟  ! ” ..  لم أجب لأني إن حدثها عن انفصاماتي و هو مرضي القهري لن تسعني ساعات … حولت هذا السؤال إلى موضوع للنقاش وطرح المزيد من التساؤلات ..فقرر تلميذاتي أخيراً أن يشن حملة توعية بيئية في المؤسسة…

قلت لنفسي “كفاني خيبة وانفصاما .. ! سأتعلم قيادة الدراجة .. ! إنها أرحم على هذا الكون .. و أفضل لصحتي ورفيقة على الجيب .. وربما تخليت على “فوبيا القيادة” في الحياة .. لا يهمني عدد المرات التي سأسقط … الأهم أن أنهض وأتابع ولا أبالي .. حتى يأتي اليوم اللذي سأطوع فيه دراجتي كما أطوع العجينة بين يدي .. سأطوف بك يا دراجتي كل الأماكن التي تسحرني في لندن أو في هذا الكوكب الجميل  ..وأنا على عرشك .. سأترك أشعة الشمس تلسعني. ..! بك سأغذو يمامة  بيضاء أحلق بجناحيها في فضاء الحياة  .. الله ما أجمل الحرية … وأصوات الزغردات.آه… آه  كم من عذرية علي أن أتخلص منها حتى أعيش !! ؟؟

قصة قصيرة  خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com