تفكيك النسيج الباهر لقصيدة جواد الحطّاب.. مسافة مستحيلة يطويها الشاعر الأعزل

تفكيك النسيج الباهر لقصيدة جواد الحطّاب.. مسافة مستحيلة يطويها الشاعر الأعزل

آخر تحديث : الأربعاء 17 فبراير 2021 - 2:22 مساءً

تشاكل الموت والميلاد في فاجعة وطن

قراءة في قصيدة (استغاثة الأعزل) للشاعر جواد الحطاب

 الحطاب ٢ - قريش
جواد الحطاب

د. جاسم خلف الياس

 خلف الياس - قريش
جاسم خلف الياس

 حين يزكو العمق الإنساني، ويتجوهر لحظة الطواف الروحي حول الأشياء، تتواصل اللطائف الخبيئة مع برارة النفس. هكذا بكل بساطة أرى جواد الحطاب منذ ديوانه الأول (سلاما أيها الفقراء) وحتى ديوانه الأخير (قبرها أم ربيئة وادي السلام) . يتدفق شعره المغاير بعذوبة آسرة، وشجن طري، وسحر وهدهدات طفولية، وإيقاعات يومية، وقد ظلت هذه التوصيفات ترافق أغلب كشوفاته حسب د. عبد الرضا علي، ((بداءة بالنسيج وانتهاء بفلسفة النص)) وحسب د. حاتم الصكر (الحطاب يختط لنفسه نهجا شعريا خاصا أسلوبيا وموضوعيا يتجلى في لغة جارحة وخيال مفعم بالحيوية). وقبل أن أفكك النسيج الشعري الباهر الذي استنفر بعده الجمالي، وحرّض أعماقنا على الاستسلام لضراوته، سألخص ما قاله الشاعر عن أطوار بهجت في حوار مع مجلة الصدى:

(( أعتقد أني لا أسرّك بشيء إذا قلت بأن علاقتي مع أطوار لم تكن عادية، فهي كانت عدة نساء في امرأة …. أطوار امرأة من معدن ثمين يصعب الشعر مع وجودها، ولكن ما أن حلّت الفاجعة عادت إلى داخلي بكل كثافتها هي والقصيدة،  فكان نص (استغاثة الأعزل) الذي تحوّل من مجرد مرثية إلى نص بانورامي سعى إلى الجمع بين أطوار والوطن)). 

نبدأ بالعتبة الأولى للنص وهي العنوان: (استغاثة الأعزل) هذا العنوان المتضايف الذي يأتي إما مبتدأ لخبر محذوف، يحتمل ما لا يحصى من المحذوفات، أو خبر لمبتدأ محذوف أيضا، ويحتمل ما لا يحصى من المحذوفات كذلك. وملفوظ الاستغاثة كما جاء في القواميس العربية هو مصدر للفعل استغاث، أي طلب الغوث، وهو نداء مَنْ يخلّص من شدة، أو يعين على دفع بلية. والأعزل هنا هو الشخص الذي جُرّد من السلاح، وقد اختار الشاعر هذا العنوان للإشارة إلى شدة الفاجعة التي أودت بحياة (أطوار بهجت) إذ يمثل كل ملفوظ علامة صارخة في فضاء القبح الذي تزامل مع تفجر الشاعر الانفعالي الأصدق.

أما العتبة الثانية التي جاءت تصديرا للنص: ( عن أطوار بهجت بمناسبة عيد ميلادها الذي يتزامن مع عيد الصحافة العراقية)بهذه المفارقة الموت/ الميلاد يصدّر الشاعر نصه، وهو متيقن من أن هذا الميلاد (الفجيعة) ما هو إلا كشف عن الأصالة الاستثنائية التي في روح كل من الراثي والمرثية، الروح التي تلّقت الألم المطلق، وهي تقابل فوران الدم، وأعماق النفس المخلوعة. 

      ثم يفتتح الشاعر نصه بمفتتح شعري تكوّن من سطر شعري واحد، معزول عن جسد النص بتشكيل بصري، في إيحاء ينهض على التشاكل بين رأس الإنسان المقطوع، والجملة التي يكمن فيها كل ما سيأتي من مقاطع تشكل ذلك النسيج البانورامي:

((كم يبلغ الشهداء من العمر الآن ؟))

يبدو لي في هذا الأسلوب الطلبي الذي تصدرته أداة الاستفهام (كم) ، أن الشاعر لا يستفهم عن عمر الشهداء الذين غادرونا بقسوة الأسى الذي غلّف أرواحنا، بل يستفهم عن عدد الشهداء الذين غادرونا وهم يروون بدمائهم الزكية تراب الوطن.  

 (… ها انا البّي امنيتك اخيرا  ؛  واكتب عنك قصيدة

لكنها  ؛  ويح اصابعي  ؛  مرثية )!!!

في هذين السطرين الشعريين يشير الشاعر إلى طلب تقدمت به (أطوار) يوما ما ليكتب عنها قصيدة،  ولأن الشعر يصعب بوجودها كما جاء في الحوار الذي أشرنا إليه أعلاه، فإن رغبته الآن في الكتابة عنها ما هي إلا تلبية لأمنية كانت تراودها دائما، ولكن هذه المرة لم تكن قصيدة فرح ومسرات، بل قصيدة وجع وأحزان، لذا فهو يتوجع ويظهر الشفقة على أصابعه تارة، ويمظهر دهشته من قدرة الأصابع على كتابة المرثية تارة أخرى. ويضيف التشكيل البصري المتجسد في علامات التعجب الثلاث (!!!) بعدا مأساويا مضافا لما حصل للشاعر وهو يفي بوعد قطعه على نفسه في ردّه على طلبها. 

            ((ما انتن الرجولة

            حين تنفرد الرشاشات بامرأة ..))

تتعالى صرخات الحطاب في مواجهة الرجولة النتنة وهي تبعث في النفس شعورا وجدانيا قبيحا، تجلّى في التطاول على حرمة الأخلاق العامة، والأعراف السائدة في الواقع العراقي المعيش عبر التحولات التي فُرضت عليه؛ لنسف الأسس الأخلاقية التي قام عليها النظام الاجتماعي قبل عام 2003. والتغيرات التي طرأت على الواقع العراقي وهي ليست من طبيعته المتعارف عليها. كيف لا يصرخ الشاعر بكل قوة وهو يصوّر لنا العلاقة بين ذهنيتين: الأولى مسالمة وديعة ووطنية، والثانية مجرمة ووحشية وخائنة لكل ما يمت إلى الوطنية بصلة. فـ(أطوار):  

((كانت تعتقد ان القتلة قد جاؤها بدورق ماء او بحليب بقر))

((وساعة داهموها صارخين  ( أين المذيعة ) احسّت بالخذلان ..))

هكذا هي استراتيجية الظلاميين دائما،، بدل أن يمنحوا الانسان بهجة وسعادة، يمنحوه الخذلان، وهكذا كانت المكافأة التي تلقتها (أطوار بهجت) على تغطية ما قام  به الظلاميون وهو تفجير ضريح العسكريين في سامراء، وتعود صورة المقتولة إلى ذهن الحطاب ثانية، وهو شاعر لا يملك سوى الكلمة سلاحا، فيلعن الرجولة التي تقتل امرأة معزولة من السلاح:

           ((ما اتفه الرجولة 

           حين تنفرد رشاشاتها ب  ..  امرأة))

ومثلما لا يمتلك الشاعر سوى الكلمات، فالإعلامية أطوار لا تمتلك سوى الكلمات و(خارطة) على صدرها هي خارطة الوطن (العراق) ودعاء (الأمهات) أيضا. وعلى الرغم من أن الذات الشاعرة/ الساردة لم تخبرنا بشيء جديد عن حالة الشهيدة (أطوار) إلا أنها أرادت بهذا الفعل الكتابي التمهيد لوصف المجرمين الذين غيّبوها عن الوجود في فعل قام به الفاعلون الجبناء وهم ينفردون بها بكل وحشيتهم:  

((القادمون من العتمة ..

الهواة  ب  (  سمكرة  )  الاجساد

نصبوا الكمائن للغزالة))

يا لها من علامات تمظهرت في الصور الشعرية عبر استعارات تنافرية، لتؤدي دورها الفاعل في التحليل والتأويل، (العتمة) تلك العلامة التي توحي بسوداوية المكان، (الهواة) الذين تتلاعب رغباتهم في فعل الشيء، (السمكرة) تشكيل المعادن باستخدام المطرقة والسندان والكبس والسحب … وغيرها، (الكمائن) وتتمثل بالحيل التي يقدم عليها الصيادون من أجل  صيد (الغزالة)  التي لا تعني هنا سوى (أطوار). هذا الحشد من العلامات ما هو إلا مكبوتات الشاعر ودفائنه التي طفحت بحرقة كبيرة. فهؤلاء الظلاميون حين تراهنوا على (الخارطة) التي وضعتها (أطوار) على صدرها، اكتشفوا إنها لم تكن من ذهب ولا شبه، بل من (بهجة) تتلطف بها القلوب، وتفرح بها النفوس،  و(أطوار) التي تمثل للشاعر (الأم والأخت والصديقة والحبيبة …..) كما جاء في الحوار الذي ذكرناه في مجلة (الصدى) أطوار المرأة العراقية التي حملت هموم الوطن، وذهبت روحها فداء له:

((السمكريون   ؛  الهواة

اشتغلوا  ؛  بغطرسة  ؛  على جسد الغزالة

واكتشفوا  ..

ان الخرائط 

               :   من بهجة

                 واطوار  ..))

ويتعمق الألم في قلب الشاعر وهو يصور معاناة الشعب العراقي في هذا الظرف العصيب، فالرصاصات اللئيمة،  وثقوب الـ(أدريل) واللحم المفقود هنا وهناك و .. جعلت حتى الموت ذاته يبكي خجلا من هؤلاء القتلة. والـدريل) كلمة انكليزية (drill) وتعني الخرامة أو المثقب، أو المثقاب، وقد استخدم في تعذيب كثير من العراقيين الذين في السجون. فأي جرح عميق جعله ينزف الوجع بكل هذه القوة ؟ ولكن لا يستمر الشاعر في هذا الفضاء الكابوسي الخانق، بل ينتقل إلى فضاء مشرق، معزيا نفسه عبر علاقة الحضور/ الغياب، ومخاطبا إياها: بأن غيابك يا أطوار هو مجاز لا علاقة له بالحقيقة. فإن رحل جسدك، فما زالت روحك هائمة في الوجود، في أروقة المؤسسات العراقية والعربية والدولية. 

((غيابك  ؛  مجاز ؛  لا علاقة له بالوثوق والتاكيد)) 

ويعود إلى العزاء ثانية، فلست وحدك يا (أطوار) كنت ضحية وطنيتك المشهود لها، فالكل يتضور عطشا لتلاشي ما حلّ بالعراق من مصائب وويلات، حتى صارت طموحاتنا مجرد تراكمات من الفشل:  

((طموحنا انقاض

ولم يعد في علب الالوان 

ما يكفي لفبركة البياض))

بولع مفجوع بالرحيل، يصور الشاعر طموحه المتمثل برجوع الوطن إلى سابق عهده مجرد أنقاض، فلم يعد للدولة قوانينها في حفظ الإنسان، بل مافيات وعصابات تقتل هذا وتخطف ذاك، ولأن السوداوية طغت على الواقع العراقي بكل لوعاتها القاسية، فلم يبق لنا في علب الألوان ما يكفي لصبغ ذلك الواقع بالأبيض. أي حزن نبيل تمتلكه أيها الشاعر وانت مسكون بكل ما فيك من قهر وحزن؟  

((وماذا في رحيلك يا قدّيسة

:  عينان خضراوان

  واحتاجهما الله

  لأضاءة  ليل الجنة))

ويعود الشاعر ثانية إلى الفضاء المشرق، معزيا نفسه ثانية، بأنك يا (أطوار) قديسة، وقد احتاجك الله في إضاءة ليل الجنة، فـ((ارفعي اطراف كفنك؛ وانت تمشين على الماء اني  ؛  أخاف على النجوم ان تبتلّ)) هذا المقطع النوراني يضع القارئ في دائرة الألق المنفلت من حيز الذائقة، ليغدو رائيا جماليا. بعدها يتم التداخل السردي/ الشعري بشكل واضح جدا، ويبدأ هذا التداخل حين تتناص الذات الشاعرة/ الساردة مع قصة يوسف عليه السلام، بدءا من الرؤيا والسجود ثم الذئب، لكنه:

  (( الغراب ) هذه المرّة  ؛  وليس  (الذئب )) ، 

يا يوسف ..

الف ذئب من ذئاب اخوتك 

ولا غراب واحد  ؛  من غربان  (  ساء من رأى  ))

لقد فعّل الشاعر هنا اللعب اللغوي، وهو يختلف جوهريا عن الدلالة في (سرّ من رأى) وهي مدينة سامراء التي نعرفها، والتي قتلت فيها (أطوار). وحين يخاطب الشاعر يوسف ويرجوه أن تكون (الذئاب) بدل (الغربان) فهو ينتقل بالقارئ من المحتمل إلى القار، من إمكانية حدوث القتل إلى فعل القتل المتحقق؛ لذا تخاطب القتلة بـ(( خذ لي  (  اخي القاتل  )).

ويضع الشاعر مفردتي (أخي القاتل) بين قوسين، تهكما وسخرية من الأخوة التي باتت مجرد مفهوم، خال من تواصله المعيش في هذا العصر الآسن، هذا الأخ المزيّف بعد أن يعصب عينيها، ويحفر نفقا في صدغها بواسطة المثقاب (الدريل)، يرميها في مياه الصرف الصحي. ما أبشع هذا الفعل الاجرامي الشنيع الذي لم يبكينا وحدنا، بل أخذ  ((يبكي الله على سجادة امّي)). ولأن هذا ليس حال (أطوار) وحدها، ينتقل الشاعر من الفعل الفردي إلى الفعل الجمعي ونحن معه نماطل الأموات بالموت، نماطل كاتم الصوت، والمداهمات، والمحترفين، والهواة، في فضاء لا يغادره صوت البوم، ولا صوت الرصاص. فماذا يفعل الله؟:

((يبكي الله على وجع العراقيين)).

ثم يعود الشاعر إلى اللازمة القبلية مرة ثالثة لسببين: الأول توكيد الدلالة التهكمية من فعل قبيح ودنيء، والثاني: إعطاء النص إيقاعا فاعلا بواسطة التكرار:

 ((ما اقذر الرجولة 

حين يكون مجدها  ؛  صرخات امرأة))

وباختزال لكل ما سيجري لأطوار يقول الحطاب على لسانها ((..  من النذالة  ؛  ان يتخاذل المرء امام قاتليه  )) لحظتها تصاب الحدائق بالتأتأة، ويتوقف العطر عن الخفقان، وتنزف الوردة. 

وفي المختتم النصي يتناص الشاعر مع الحدث الموعود، وهو ظهور الإمام المهدي المنتظر. ففي سامراء لم ننشغل الآن في هذا الظهور، بل سنكرر الغيبة التي غابت فيها (أطوار) عن الوجود إلى الأبد:

 ((في سامراء

لا ننتظر الظهور

في سامراء

نكرر الغيبة)).

وفي ختام القراءة لابد من التنويه إلى أننا لم نتناول كثير من المهيمنات النصية، ولا سيما الاستعارات التنافرية التي فعّلها الشاعر من أجل خلق عالمين متضادين، بدءا بعالم الرجولة النتن، وعالم الأنوثة العطر، وانتهاء بعالم الظهور للمهدي المنتظر، وعالم الغياب لـ(أطوار بهجت). وقد تركنا ذلك لمقاربات قادمة في قابل الأيام، لا سيما قد تكفلنا بتناول تجربة الشاعر الحطاب بشكل مفصل.

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com