“إنّ المفتري صاحب حق خيالي، لا حق حسي، فإنّه لا يفتري المفتري حتى يحضر في خياله الافتراء والمفترى عليه ويقيمه في صورة ما افترى به عليه”
-ابن عربي في “الفتوحات المكية”
عبد العزيز كوكاس
يبدو تاريخنا العربي مليئا بالثقوب.. ثمة بياضات تحتاج إلى التأمل لملئها بما يناسبها، منذ انخراطنا في معركة الاستقلال، حيث كنا مطوقين بأوهام تسمو على قدر قداسة الوطن والتحرر، حتى نضالنا من أجل رفع الحكرة والظلم والتهميش.. اكتشفنا مع مرور الزمن أن كل صراعاتنا لم تكن في الخط المستقيم من أجل الحرية والتقدم والمساواة، فلا بد من القليل من شحم أو زيت الكذب وزرع الأوهام لكي تدور عجلة التاريخ..
في جل الأمم تقع ثورات فتنقلب المصائر لتسير في أغلب الأحيان لصالح المجموعة الوطنية ذات المصلحة في التغيير، نحو الحرية والتقدم والحداثة والديمقراطية.. أو على الأقل نحو المزيد من الثقة والأمل بإمكانية تغيير أوضاع الشعوب نحو الأحسن، إن لم يكن الأجمل، لم تكن الأزمات وحدها هي ما يخلق التحول الجذري، بل وجود نخب واعية وخطط مدروسة وإستراتيجيات جاهزة على الطاولة، تحول الحرمان إلى سخط، وتستغل فوضى النظام القديم لتبشر بنظام جديد تحشد حوله الجموع، ويحدث التراكم التدريجي في التقدم والديمقراطية.. لكن تأمل مسار ما يحدث في مجتمعاتنا العربية يحسسنا بالخيبة والانكسار.
دافع أجدادنا بأحلام هرقلية عن استقلال الوطن، شُردوا، عذبوا، أعدموا، سجنوا، تم نفيهم، وما هانوا ولا باعوا الجمل بما فيه من أجل ـ ما حسبوه بصوفية نادرةـ سقط متاع الدنيا.. وفي اللحظة التي رُفع فيها النشيد الوطني ورفرفت الراية الوطنية، خالوا أنهم سينعمون بفوائد الاستقلال من استقرار وحرية ومجد وشرف.. لكنهم وجدوا أنفسهم أمام خصم من جلدهم أشد شراسة وقسوة، تهافت ـ كما الذباب ـ الإقطاعيون وخدام الاستعمار القديم ومقاومي آخر ساعة وبعض من أعلوهم إلى مرتبة القديسين من الوطنيين، وأخذوا يحكمون لوحدهم مع أذناب الاستعمار، فغدا آباؤنا مرة أخرى ضحايا لجلادين من جلدتهم، فعادوا لأسلحتهم يشحذونها من جديد، لمعارك لا تُبقي ولا تذر، حيث وجدوا أنفسهم مرة أخرى أمام السجون القاسية وأحكام الإعدام والاختطافات القسرية والاعتقالات التعسفية والمنافي والاغتيالات باسم الوطن الواحد المتنازع على تسميته أو على حق تداول السلطة فيه، أو اقتسام ضرائب تنميته وفوائده على قدم المساواة، والكل أضحى يحمل نفس الشعار: حماية الثورة، الدفاع عن الوطن، التقدمية والاشتراكية والوطنية والثورية مقابل الرجعية وخدام الاستعمار والبرجوازية الجشعة والإقطاع والمحميين الجدد.. حتى لم يعد للكلمات من معنى ترسو عليه، لأن صراع ذات القبيلة أصبح حول ذات الغنيمة، كانت سلطة، ثروة أو وطنا.. والكبار ممن يديرون الكرة الأرضية على أصابعهم، يتفرجون على صراع الأيتام حول فتات موائد اللئام، مرة يدعمون هذا الطرف بالمال والسلاح، ثم يعودون لدعم الطرف المضاد، حسب تغير الوظائف والأدوار.. حماية مصالحهم ظلت هي الثابت الوحيد.
على مدى تاريخنا المعاصر حتى فيما اصطلح عليه الربيع العربي، الذي أشعرنا كمستضعفين أننا أصبحنا أشبه بمارد أطلق من قمقم سُجن فيه لقرون عديدة، وسط قيود الجهل والفقر والقمع وقتل الأمل في أن نكون أحرارا في وطن حر، قلبنا عروشا وأنظمة مستبدة ظلت تعتقد أنها آمنة وأزلية، لا يأتيها الزلزال من يمينها ولا من شمالها، وانتشينا بأننا سنسير باطمئنان نحو الحرية والديمقراطية والتقدم.. اكتشفنا بعد حين وجيز، أننا لم نعمل سوى على تغيير لصوص بلصوص، قطط سمينة بقطط نحيفة، وكم أجد المغاربة ظرفاء حين كنا ـ عن وطنية أو سذاجة ـ نحاول أن نقنعهم بالتصويت لصالح مرشح يبدو أكثر نزاهة من سابقه الفاسد، فيواجهوننا بحكمة لم نكتسبها: “لا، لن نفعل.. على الأقل، الفاسد سيكون قد أكل بما فيه الكفاية، ويمكن أن تمتلئ بطنه من خلال السنوات السابقة التي نهب فيها مالنا ويقضي بعض مصالحنا، بدل أن نأتي بمرشح جائع، عليه أن يملأ بطنه قبل أن يلتفت إلى مصالحنا!”
في عز انتصاراتنا، كنا نطالب بمحاكمة سراق المال العام والقضاء على الفساد، وهو ما ظل يستغله بدهاء، القادمون الجدد إلى السلطة على اختلاف معاطفهم السياسية ونزوعاتهم: وطنيون، مقاومون، اشتراكيون، ثوار، إسلاميون وعسكر.. حتى بعض ممن كانوا فقراء مثلنا، يشبهوننا في كل شيء، يأكلون مما نأكل، يلبسون مما نلبس، ويسكنون حيث ثقفَنا من حكمنا لسنين في الهوامش المنسية وأحزمة البؤس، والدور المتواضعة التي نظل نسدد أقساط ديونها مثل المحكوم بالمؤبد.. هم أنفسهم عاتوا في المال فسادا ونهبا بجشع من ندم على حرمان حين كانوا يفنون زهرات عمرهم في السجون والمنافي..
وظل المتسيدون علينا القادمون إلى السلطة باسم الشرعية التاريخية أو الوطنية أو الشعبية أو الثورية يقدمون إلينا أقراصا سهلة للذوبان في الفم سهلة الهضم، مفعول نشوتها قوي يكفي للتنويم المغناطسي في البدايات الأولى للاستقلال، أو الانقلاب أو الثورة أو الربيع الزاحف: إرجاع الأموال المنهوبة، محاكمة اللصوص، سجن المجرمين، المجد للثورة، للاستقلال، للانقلاب.. نعم لمحاربة الفساد والمفسدين ودحر الاستبداد القديم وأهلا بالمستبد الجديد!
تدور عجلة التاريخ ويصبح السياسيون الجدد، الطارئون على السياسية باسم الوطن أو الله أو العجل.. لصوصا جددا بل سراقا محترفين ودعوا مجال الهواية التي كان عليها من سبقهم إلى سدة الحكم.. من ثورات الاستقلال والتحرير ضد العدو المستعمر إلى الانقلابات العسكرية، فالثورات التحررية الوطنية والقومية والاشتراكية والإسلامية ومن حكم الأمراء رعاة الشياه وقطعان النوق إلى الرؤساء الجمهوريين الأبديين حتى الربيع العربي.. أشعر أننا كنا نغير لصوصا بلصوص، لذلك قتلتنا الردة.. وكنا نخطئ كل مرة موعدنا مع التاريخ، ومع حقنا في أن لا تبقى حقوقنا ومطالبنا ممنوعة من الصرف.. في حالنا جربنا الوطنيين والاشتراكيين والاسلاميين، لن أتكلم عن الاداريين والتقنوقراط، على الأقل، إنهم اصطُفوا باسمنا زورا وبهتانا في انتخابات كنا نرمي فيها ورقة بيضاء فتطلع النتائج سوداء، أو نصوت بأوراق زاهية وردية أو بنفسجية فتصعد ممسوخة من صناديق الأعاجيب الانتخابية برتقالية أو صفراء أو زرقاء..
صحيح أن ما تلي منهم لم يسرقوا الكثير من المال، لا أعرف سر في ذلك: هل لأننا صحونا أكثر، أم لأنه لم يعد هناك الكثير مما يسرق كما فعل من قبلهم؟ أم أننا اعتدنا أن السرقات لها أحجام كبرى وخيالية، وغفرنا ما دونها؟ الأخطر في السراق الجدد من الاشتراكيين والاسلاميين الذين لازالوا يتدربون على الطرق الأمثل لكيف يسرقون بيدهم اليمنى حتى لا تعلم يدهم اليسرى.. هو أنهم قد لا يسرقون المال ولا يكدسون الثورات، لأنهم ـ ربما ـ جاؤوا من الجامع إلى الحكم دون حج للسجون والمنافي ومراكمة ما يحاججون به الخصوم من تعذيب وسجون ومنافي، ففي عالمنا العربي: هناك سراق المال وسراق الوطن، وهناك سراق الله وسراق خيارات أمة وحقها في التقدم والتطور.. ولعمري لهم أخطر من لصوص الملايير، إنهم سراق الأحلام الكبرى، سراق للأمل في غد أفضل.. لأن الثروات تصنع وتخلق وتخلف، أي يأتي الخير منها بعد يباب ويبوس، لكن قتل أحلامنا وسرقة خيارات أمة في الأمل في الحرية والتنمية والتقدم، حيث يفقد مجتمع بكافة طبقاته الحلم في التغيير، هو الأخطر..
إنهم لا يعدمون حججا ومبررات حول تركة الاستعمار، وحجم الفساد الذي تركه من سبقوهم إلى الحكم، ومناهضو التغيير والساحرات والعفاريت ومعادو الثورة ومقاومو الإصلاح.. و.. و.. ما يلفت انتباهي في سراق المال العام واللصوص الذين يختلسون حق أمة في الثقة بقدراتها على تغيير أحوالها نحو الأفضل، هو قدرتهم المدهشة حقا في احتراف الكذب والنصب والاحتيال، وفي قوتهم الخطابية على هدهدة ثقة الطيبين والسذج منا، يجدون أنفسهم دوما في حاجة إلى إثبات تميزهم وبراعتهم في خلق الأوهام غير الدافئة، يبتدعون المناسبات من أجل تجريب كذبهم وحيلهم.. فاختيار الكذب ليس هو وأد الحقيقة وإنما قدرة المحتال على استمرار فريته وحمايتها من آثار الحقيقة التي لا أعرف لماذا لا تنتصر لنا يوما.
كنا نعتقد أن الكذب لا يتجاوز السحر والأساطير، ونحن أيضا نكذب الكذبة البيضاء، ونستلذ بأن أعذب الشعر أكذبه، وندعي أننا في غير بيوتنا للتهرب من ضيف ثقيل… حتى جاءت هذه الحيوانات السياسية الكاذبة التي فهمت خيالنا واستغلت حاجياتنا وأحلامنا، فانتقلنا من ذلك الكذب النبيل الذي كان أشبه بأساطير دافئة لتحريك الشعوب وتأجيج غضبها على وضع فاسد، إلى الكذب الانتهازي الصارخ، لم نكن نحلم بأن يصبح الكذب الذي هو ملح السياسة باعتبارها مجال تنظيم الغرائز في المجتمع المدني، بهذا المسخ الذي يشوه الوقائع ويزور الأحداث، هؤلاء التلاميذ الغوبليزيون (نسبة لمستشار هتلر الداهية غوبلز) الذين لا يحولون الحقيقة عبر الكذب إلى خيال بغاية نبيلة، وإنما يرددون الكذب في محاولة لترسيخه كحقيقة، يقفزون بخفة بهلوان على مسرح الحقائق والتاريخ والوقائع، ويمكن أن يبيعوا كل شيء لمراكمة ثرواتهم، الماضي، التراث، المجد والشرف، والبلد بكامله، ولكن لا يمكن أن يستغنوا عن الكذب، به يكونون، به يسودون.. حتى أصبح العالم العربي يزخر بالكذب أكثر مما يوجد فيه من نفط وقمح كما كتب محمد الماغوط يوما..
انتهى زمن الكذابين الفضلاء وجاء زمن المنحطين.. الكذابون الوقحون الذين يدعون امتلاك خيمياء عجيبة لتحويل الحجر إلى ذهب.. وكل ما هو مجتهدون فيه ليس جلب الخير العميم للأمة، بل حماية مصالحهم وحشد ثرواتهم وتهريبها إلى الخارج، توقعا لسوء الحال والمآل الذي غالبا ما يكون تراجيديا.. من طرف دعاة الإصلاح الجدد الذين يحاربونهم بضراوة باسم القضاء على الفساد والمفسدين، ثم ينقلبون هم أنفسهم إلى سراق جدد..
لكننا اليوم بحكم العادة والتكرار ربما أصبحنا نعرف أكثر، ولأن اللصوص أصبحوا يختلفون فيما بينهم فتظهر بيسر أشياؤنا المسروقة، ولم يعد السياسيون وحدهم من يمتلكون الحقائق، مع انتشار وسائط التواصل الاجتماعي وتقدم وعينا، ومع ذلك لا زالت لدى سراقنا “جبهة” غريبة في الدفاع عن الكذب كحقيقة، أمام جمهور لم يعد يريد أن يُلدغ من ذات الجحر مرات أخرى.
عذراً التعليقات مغلقة