عقيل عبد الستار
نظام الملالي في طهران ، كأسوأ نظام ثيوقراطي (كهنوتي) عرفه العالم قديماً وحديثاً ، كان قد صنعه الأمريكان ، حسب ما اقتضته مصالحهم قبل أربعة عقود من الزمن ، في ظل صراع على مناطق النفوذ بين قطبين تحكّما في السياسة الدولية بعد الحرب العالميةالثانية . وقام هذا النظام بتقديم خدماته للمصالح الامريكية في المنطقة ، كان من ابرزها تقديم الدعم لهجوم القوات الامريكية على افغانستان 2001 ، وتلك التي سهلت لها غزو العراق واحتلاله 2003 . لذلك لم تحمل طابع المفاجأة المعلومات التي كشفت عنها الوثيقة الأمريكية (PSD 11) المسربة حديثاً ، والموقعة من قبل الرئيس السابق باراك أوباما سنة 2010 والتي حملت عنوان “التوجيه الامني الرئاسي” ، وتضمنت جانباً من الاستراتيجية الامريكية لمنطقة الشرق الاوسط ، التي أعطت لنظام الولي الفقيه دوراً إقليمياً يسمح له بفرض هيمنته على العراق وسوريا ولبنان . وهذا الدور أكدته ايضاً الترتيبات الأمنية والعسكرية المشار إليها في الإتفاق الدولي حول البرنامج النووي الايراني لسنة 2015 .
بزوال الاتحاد السوفيتي السابق ، تجاوز العالم مرحلة كانت قد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية ، وتركّز فيها الصراع الدولي بين إيديولوجيات متضادة ، ووجد فيها الغرب أنّ كفته ضعيفة في مواجهة الإيديولوجية الإشتراكية ، فلجأ إلى الدين واستخدمه كسلاح في الصراع مع المعسكر الآخر . وشجّع نشوء حركات الإسلام السياسي ، التي أصبحت مع مرجعياتها الدينية أفضل أداة بيده بيده لمحاربة الشيوعية والإشتراكية والحركات القومية التحررية ، ولخدمة نفوذه الإستعماري في البلاد العربية
لكن الأوضاع الدولية اليوم هي غير ما كانت عليه بالأمس القريب ، فقد استوجبت تطوراتها المتلاحقة ، إجراء مراجعات إستراتجية ، وإحداث تغييرات جوهرية في سياسات مركز الإستقطاب الدولي أو الدولة العظمى ، إنعكست آثارها في مختلف مناطق العالم ، وتركزت على الدول ذات العلاقة المباشرة بها ، ولاسيما الدول ذات الأنظمة الوظيفية ، التي يرتبط مصيرها وماهو مناط بها من أدوار بما يتقرر في سياسات الدولة العظمى . وهذا ما ينطبق على نظام ولاية الفقيه في ايران ، الذي فقد امتيازاته في الاتفاق النووي بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منه ، وجاء هذا الإنسحاب كجزء من إستراتجية ترمي الى إجراء تغييرات في بنية النظام الايراني ودوره الوظيفي .
ومنذ بضع سنوات جنّد المجتمع الدولي قواه لمكافحة الإرهاب ، وتجفيف منابعه . ولم يكن هذا التوجه الدولي في صالح النظام الملائي الإيراني ، الذي لا صنعة له غير الإرهاب ، ولا إتقان عمل له غير اشعال الحروب وإثارة الفتن . وكانت هذه الصنعة قد أكسبته حتى أيام قريبة المركز والنفوذ ، حينما تلاقت “الخمينية” مع “الفوضى الخلاقة” التي انتهجها بوش الإبن واوباما من بعده . بيد أن السياسة الدولية لاتبقى على حال واحدة ، فلها إنعطافاتها واستداراتها بين حقبة واخرى ، حيث بدأ العالم يدرك خطر الإرهاب وأضراره في العلاقات الدولية ، مما ادى إلى أن تبور صناعة الولي الفقيه ، وإلى جعله يواجه خطر تحول دولته الراعية للإرهاب إلى دولة منبوذة .
وبزوال الاتحاد السوفيتي السابق ، تجاوز العالم مرحلة كانت قد بدأت بعد الحرب العالمية الثانية ، وتركّز فيها الصراع الدولي بين إيديولوجيات متضادة ، ووجد فيها الغرب أن كفته ضعيفة في مواجهة الإيديولوجية الإشتراكية ، فلجأ إلى الدين واستخدمه كسلاح في الصراع مع المعسكر الآخر . وشجع نشوء حركات الإسلام السياسي ، التي أصبحت مع مرجعياتها الدينية أفضل أداة بيده بيده لمحاربة الشيوعية والإشتراكية والحركات القومية التحررية ، ولخدمة نفوذه الإستعماري في البلاد العربية . لكن الإيديولوجية كسلاح بدأت بالإختفاء من قائمة الصراع الدولي مع نهايات القرن العشرين . وبصعود إدارة ترامب في الولايات المتحدة بدأ الغرب بالتخلي تدريجياً عن حركات وانظمة الإسلام السياسي التي كانت قد حظيت بدعمه لعقود طويلة . التطورات الاخيرة وضعت نظام الولي الفقيه في مأزق خطر ، وجعلته يبحث بأي ثمن عمّن يحمي وجوده ، ويعوضه عن التناقص المتزايد لوزنه السياسي .
يقال أن الإطلاع على الماضي ضروري لفهم الحاضر ، ولما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلاً ، وبخاصة بعد أن رفعت السرية عن بعض وثائقه .
في سنة 1978 كانت الثورة الايرانية قد بلغت أوجها ، وتلاحمت قواها الوطنية والليبرالية واليسارية ، وليس من بينها قوى إسلامية ، واقتربت الثورة من إسقاط نظام الشاه . هنا دق ناقوس الخطر في الغرب ، حيث أن نجاح الثورة يعني تسجيل نصر كبير لصالح الإتحاد السوفيتي السابق على حساب المعسكر الغربي . ولم يكن هناك من خيار أمام الغرب ، لتحاشي تجزئة ايران ، غير اعتماد المؤسسة الدينية ، على الرغم من أنها لم تكن منخرطة في الثورة ، لكي تحكم بسلطة الدين والمذهب ، وفرض الرابطة المذهبية أساساً للوحدة الإجتماعية تماماً مثلما كان عليه الحال في العهد الصفوي . وبذلك يتم قطع الطريق على القوى الوطنية واليسارية في الوصول الى السلطة . وبناءً على ذلك تم جلب خميني من العراق الى باريس بهدف تسليط الاضواء عليه ، ولتصنع منه الآلة الإعلامية الغربية القائد الملهم للثورة ، وتولت CIA القيام بكل الترتيبات اللازمة لذلك .
الولي الفقيه الذي لايغادر عالم الخرافة الدينية ، ظنّ نفسه دولة نووية ، وأنه أصبح دولة إمبريالية كالولايات المتحدة الامريكية
وعقدت دول التحالف الغربي مؤتمرها في “غواد لوب” في الايام الاولى لسنة 1979، واتخذت قرارها بالموافقة على دعم الخطة الامريكية بالإنتقال السلمي للسلطة في طهران من الشاه الى خميني ، وتم ابلاغ الشاه بضرورة الرحيل .
ايران بلد مركّب (مصطنع) ، جر تركيبه في النصف الأول من القرن الماضي، ليقوم بدور وظيفي اقتضته المصالح البريطانية والغربية ، وتحدّدت جغرافيته وفقاً لتلك المصالح الاستعمارية . فجرى ضم الأحواز العربية 1925 وبلوشستان الغربية 1928 الى بلاد فارس ليتشكل من هذا الضم ما اطلق عليه تسمية “ايران” سنة 1935 ، وبذلك تحولت فارس من بلد فقير الموارد ينحصر في الهضبة الجبلية الى بلاد شاسعة تطل بسواحلها وموانئها على الخليج العربي والمحيط الهندي . جرى ذلك كله لتقوية نظام الشاه الضعيف في مواجهة تأثيرات ثورة أكتوبر 1917 في روسيا ، ثم لتشكل ايران جزءاً من الطوق الذي اقامه الغرب حول الإتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية .
وتولت الاستراتيجية الغربية حماية وحدة ايران وفقاً لمقتضيات الصراع الدولي الذي ساد في الحقبة الماضية ، سواءً أكان هذا في مواجهة التحديات الداخلية أم الاخطار الخارجية . ذلك ان كلاً من نظامي الشاه وخميني فشلا في مراكمة هوية وطنية إيرانية ، وحكما بعقلية امبراطورية ، ومارسا تمييزاً عنصرياً ومذهبياً ، واعتمادا أجهزة قمع دموية وأساليب وحشية في اخضاع شعوب إيران لإرادتهما واهدافهما .
ولكن في ضوء المتغيرات التي طرأت على خارطة الصراع الدولي ، والجارية في هذه الأيام ، فقد انتفت الحاجة الى الدور الوظيفي السابق لنظام الولي الفقيه ، بل أصبح دوره مضراً بالمصالح الدولية ، ولاسيما المصالح الامريكية . ولم تعد الوحدة الجغرافية لإيران خطاً احمر لضرورات الصراع الدولي ، وبذلك انكشف الغطاء الدولي عن نظام الولي الفقيه وانفسح المجال لأول مرة أمام شعوب إيران لكي تستعيد حريتها ، وتسترد هوياتها القومية، وليكون لها الدور الحاسم في تقرير مصيرها ومستقبلها .
الولي الفقيه الذي لايغادر عالم الخرافة الدينية ، ظنّ نفسه دولة نووية ، وأنه أصبح دولة إمبريالية كالولايات المتحدة الامريكية التي طلب منها أن تتعامل معه على أساس الندية وتراعي مصالحه ، وأن تتقاسم معه مناطق النفوذ في المنطقة . فإذا بالحاكم في البيت الابيض يستغني عن خدماته ، وإذا بتلك الأحلام الخرافية تتحول الى كوابيس .
الى هنا نقترب من ختام الفصل الاخير لقصة ايران خميني / خامنئي ، بإنتظار اسدال الستار عليها وبدء قصة جديدة في إيران أخرى .
عذراً التعليقات مغلقة